قبل الوقوف على الدّور الإيجابي للدين فيما يصيب النفس من توتر وعدم إستقرار، لابد من الوقوف على الأسباب التي تؤدّي لمثل هذه المشاكل النفسية، فلو ثبت أنّ الدين يقدّمُ معالجاتٍ حقيقيّةً لتلك الأسباب حينها يمكننا الجزم بدور الدين في العلاج النفسي، إلّا أن البحث عن تلك الأسباب ليس بالأمر السهل لوجود تباين حولها بين المختصّين في علم النفس، فهناك مدارسُ ونظريّاتٌ متعددةٌ ولكل واحدة منها تشخيصاتُها الخاصة للأمراض النفسية.
ومن هنا سوف نكتفي بالرؤية النهائية بعيداً عن التفاصيل التي تُمثّلُ موردَ إهتمامٍ للدّارسين لعلم النّفس، ويبدو أنَّ المدرسة التحليليّة التي بدأت مع فرويد شكّلت الأساسَ لكثيرٍ من الدراسات الجدّية لتركيبة النّفس الإنسانيّة، ومع أنَّ نظريّة فرويد إختصرت الإنسانَ في جانبِه الغريزيّ إلّا أنّها أشارَت إلى تأثير العقل الباطن في خياراتِ الإنسانِ السّلوكيّةِ، حيثُ حمّلَت المدرسةُ التّحليليّةُ لفرويد اللا شعورَ والعُقدَ الكامنة فيه مسؤوليّة الوضع النفسي.
أي ما نراه مِن سلوكٍ واعٍ هو تعبيرٌ عمّا لا نراه مِن سلوكٍ لا واعٍ في الباطنِ، ومع أنَّ هذهِ المدرسةَ إمتلكت قدرةً تحليليّةً مُقدّرةً إلّا أنّها لا تعكسُ رؤيةً فلسفيّةً شاملةً لها القدرةُ على تفسير كاملٍ للإنسانِ؛ وذلكَ لكونِها غفلَت عن الجانب الرّوحيّ وإختصرتِ الإنسان في مجموعةٍ منَ الغرائزِ البدائيّة، وبخاصّة الغريزةَ الجنسيّةَ التي أرجعَ إليها فرويد كلَّ الأسبابِ المُؤدّيةِ للإضطراباتِ النّفسيّةِ، وفي ذلكَ إهمالٌ مُتعمّدٌ لعواملِ البيئةِ والثّقافةِ وجميعِ مؤثّرات المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، وقَد إلتفتَ العلماءُ لهذا القصور فعملوا على تطوير المدرسةِ التّحليليّة بحيث تستوعبُ جميعَ هذه الأسباب.
ولذا إعتبر روّادُها الجددُ أنَّ المشكلة النفسية تعود إلى خليطٍ بينَ الثّقافةِ واللّاشعور، وإعتقدَ آخرونَ أنَّ المُحرّكَ الأساسَ للأزماتِ النّفسيّةِ هوَ الثّقافةُ والتّنشئةُ الإجتماعيّةُ، وهكذا بدأ علمُ النّفسِ التّحليليّ يُوسّعُ دائرةَ الأسبابِ كما يُوسّعُ تبعاً لذلكَ أساليبَ العلاجِ، فكان من الطبيعي أن تُصبح تقويةُ الروح والإرادةُ الإنسانيّةُ من العوامل المُهمة لعلاجِ الأمراض النفسية، وبذلك تجذّرت مدرسةٌ جديدةٌ قائمةٌ على العلاج بالمعنى.
أي تحفيز النّفسِ الإنسانيّةِ بمعانٍ إيجابيّةٍ وبنظرةٍ مُتفائلةٍ للحياةِ، الأمرُ الذي يفتحُ البابَ أمامَ الدّينِ ليكوَن في عُمقِ المُعالجاتِ النّفسيّةِ، وذلكَ لكونِ الدّينِ لهُ قدراتٌ خاصّةٌ في التّحفيزِ الإيجابيّ وخلقِ الأملِ مِن خلال رسم معانٍ جديرة بالإهتمام فيما يخصُّ الحياة، وبالتالي أقلُّ البشر عناءً وشقاءً هم الذين يمتلكون معنىً يدفعُهم إلى الإستمرار في الحياةِ، وحقيقةُ الدّينِ قائمةٌ على توسيع إطار الحياة بحيثُ لا تتوقّفُ عند حدود المادّة وما فيها مِن عناءٍ، وإنّما يجعل من الحياة رؤيةً مُتكاملةً تستوعبُ أيضاً القيمَ السّامية والأهداف العالية، وبذلك يتمكّنُ الإنسانُ مِن تجاوز كلِّ عقباتِ المادّة وضغوطاتِها، كما أنَّ الإرتباط بالله بوصفِه المُهيمن على الوجودِ والقادرَ على كلِّ شيءٍ يورثُ الإنسانَ ثقةً عاليةً لا تدعُه يستسلمُ للإحباطات.
أمّا مَنْ يعتقد أنّ الحياة نتاجٌ لتقلبات الطبيعة وأنَّ المادّةَ هي المُتحكّمة في مصير الحياة، لا يجدُ سبيلاً غيرَ الإستسلام والخضوع للحوادثِ الطّارئة والظروف القاهرة، ولا شكَّ مَن يُخيّمُ عليه هذا التّفكير سوف تتحوّل حياتُه إلى جحيم، قال تعالى: (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) وهذا بخلاف مَن ينطلق في الحياة مِن وحي الإيمان بالله تعالى، حيثُ يكون مُتحدّياً لكلِّ قيود الحياة ومُتجاوزاً لكلِّ ما يقال عنه حتميّاتٌ، وكلّما إزداد الإنسان وعياً بهذه العقيدة، كلّما إزداد عزماً، ونشاطاً وإستقامة.
فحياةُ الإنسان مليئةٌ بالعقبات، التي تحيطُ بواقعِه الإجتماعي، والسياسي، والإقتصادي، ولا يتجاوزُها الإنسان إلّا إذا كان مُشبَعاً بالأملِ في اللهِ، مُعتقِداً في قُدرته على كلِّ شيءٍ، وبذلك يكونُ الدّينُ بشكلٍ عامٍّ والإسلامُ بشكلٍ خاص هو الذي يلهمُ الإنسان آليّاتِ التحدّي والتّغييرِ للواقع، مِن خلال بثِّ روح المُثابرة والصبر على الأذى والإصرار على بلوغ الغايات، وعليه فالدين مهم جداً لخلقِ السّكينة في النّفوس والوعي في العقول والعزيمة في الإرادة، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلُوبُ) وقال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلَامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجعَلُ اللهُ الرجس على الَّذين لا يُؤمنُون)
وفي المُحصلة، إنَّ الدين يقضي على أسباب التوتر والإضطراب قبلَ حدوثِها مِن خلال بناءِ شخصيّةٍ واعيةٍ للحياةِ ومُتأمّلةٍ في عونِ اللهِ وتوفيقِه.