ثمّ تلت الحديبية خيبر، وكان الفتح فيها لأمير المؤمنين عليه السلام بلا ارتياب، وظهر من فضله في هذه الغزاة (ما اجتمع على نقله) الرواة، وتفرّد فيها من المناقب بما لم يشركه فيه أحد من الناس.
فروى محمّد بن يحيى الأزديّ، عن مسعدة بن اليسع وعبيدالله ابن عبد الرحيم، عن عبد الملك بن هشام ومحمّد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الآثار قالوا: لمّا دنا رسول الله صلّى الله عليه واله من خيبر، قال للناس: "قفوا" فوقف الناس، فرفع يديه إلى السماء وقال: "اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، وربّ الأرضين السبع وماأقللن، وربّ الشياطين وما أضللن، أسالك خير هذه القرية وخيرما فيها، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها" ثمّ نزل تحت شجرة (في المكان) فأقام وأقمنا بقية يومنا ومن غده.
فلمّا كان نصف النهار نادانا منادي رسول الله صلّى اللّه عليه وآله، فاجتمعنا إليه فإذا عنده رجل جالس، فقال: "إنّ هذا جاءني وأنا نائم، فسلّ سيفي وقال: يا محمّد، من يمنعك منّي اليوم! قلت: الله يمنعني منك، فشام السيف وهو جالس كما ترون لا حراك به" فقلنا: يا رسول الله، لعلّ في عقله شيئاً، فقال رسول الله صلّى الله عليه واله: "نعم دعوه" ثم صرفه ولم يعاقبه.
وحاصر رسول اللّه صلّى الله عليه واله خيبر بضعاً وعشرين ليلةً ؛ وكانت الراية يومئذ لأمير المؤمنين عليه السلام فلحقه رمد أعجزه عن الحرب، وكان المسلمون يناوشون اليهود من بين أيدي حصونهم وجنباتها.
فلمّا كان ذات يوم فتحوا الباب، وقد كانوا خندقوا على أنفسهم، وخرج مرحب برجله يتعرض للحرب، فدعا رسول الله صلي اله عليه و آله أبا بكر فقال له: "خذ الراية" فأخذها في جمع من المهاجرين فاجتهد ولم يغن شيئاً، فعاد يؤنّب القوم الذين اتبعوه و يؤنبونه .
فلمّا كان من الغد تعرض لها عمر، فسار بها غير بعيد، ثم رجع يجبّن أصحابه و يجبنونه. فقال النبي صلي الله عليه و آله: "ليست هذه الراية لمن حملها، جيئوني بعلّي بن أبي طالب" فقيل له: إنّه أرمد. فقال: "أرونيه تروني رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، يأخذها بحقّها ليس بفرّار" .
فجاؤوا بعلي عليه السلام يقودونه إليه، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله: "ما تشتكي يا علي؟ قال: رمد ما أبصر معه، وصداع برأسي، فقال له: اجلس وضع رأسك على فخذي" ففعل عليّ عليه السلام ذلك، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله وتفل في يده فمسحها على عينيه ورأسه، فانفتحت عيناه وسكن ما كان يجده من الصداع، وقال في دعائه له: "اللهم قه الحرّ والبرد" وأعطاه الراية، وكانت رايةً بيضاء، وقال له: "خذ الراية وامض بها، فجبرئيل معك، والنصر أمامك، والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي! أنهم يجدون في كتابهم: أنّ الذي يدمّرعليهم إسمه ايليا، فإذا لقيتهم فقل: أنا علي، فإنّهم يخذلون إن شاء اللّه".
قال عليّ عليه السلام: "فمضيت بها حتّى أتيت الحصون، فخرج مرحب وعليه مغفر وحجرقد ثقّبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أنّي مرحب
شاك سلاحي بطل مجرّب
فقلت:
أنا الذي سمّتني أمّي حيدرة
ليث لغابات شديد قسورة
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
فاختلفنا ضربتين، فبدرته فضربته فقددت الحجر والمغفر ورأسه حتّى وقع السيف في أضراسه وخرّ صريعاً".
وجاء في الحديث أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا قال: "أنا عليّ ابن أبي طالب" قال حبر من أحبار القوم: غلبتم وما أنزل على موسى. فدخل قلوبهم من الرعب ما لم يمكنهم معه الاستيطان به .
ولمّا قتل أمير المؤمنين عليه السلام مرحباً، رجع من كان معه وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه، فصار أمير المؤمنين عليه السلام إليه فعالجه حتّى فتحه، وأكثر الناس من جانب الخندق لم يعبروا معه، فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام باب الحصن فجعله على الخندق جسراً لهم حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم . فلما انصرفوا من الحصون، أخذه أمير المؤمنين بيمناه فدحا به أذرعاً من الأرض، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً منهم .
وقد روى أصحاب الاثار عن الحسن بن صالح، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبداللّه الجدليّ قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "لمّا عالجت باب خيبر جعلته مجنّاً لي وقاتلت القوم فلمّا أخزاهم اللّه وضعت الباب على حصنهم طريقاً، ثمّ رميت به في خندقهم ؛ فقال له رجل: لقد حملت منه ثقلاً! فقال: ما كان إلاّ مثل جنّتي التي في يدي في غير ذلك المقام". وذكر أصحاب السير: أنّ المسلمين لمّا انصرفوا من خيبر راموا حمل الباب فلم يقله منهم إلاّ سبعون رجلاً.
وفي حمل أميرالمؤمنين عليه السلام الباب يقول الشاعر:
إنّ امرءاً حمل الرتاج بخيبر
يوم اليهود بقدره لمؤيد
حمل الرتاج رتاج باب قموصها
والمسلمون وأهل خيبر شهد
فرمى به ولقد تكلّف رده
سبعون شخصاً كلهم متشدّد
ردّوه بعد مشقة وتكلّف
ومقال بعضهم لبعض ارددوا