جاء في الخبر أنّ صفة الجاهل بـ"الاجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم"(البحار، ح4، ج2،ص62)، وليست هذه الافتتاحية هجومية، ولا هي باللغة الشتائميّة بقدر ما هي توصيف لحالة سلبية عند بعض الناس: ديدنهم التسرّع في اطلاق الأحكام على الحلول والنظريّات دون معرفة المشاكل التي تعالجها.!، وغاية ما تطلبه هذه المقالة الموجزة هو: أن تُفهم وحدة الوجود قبل أن تُشيطن و تُعارض، هذا هو فقط لا غير.!
وتدليلاً على ضرورة الفهم قبل الحكم: سنلاحظ في هذا المقال أنّ الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، (ت1954م) -وهو من لا تخفى منزلته- يرى في وحدة الوجود ضرورة لا مناص منها، ولا يستقيم التوحيد إلا بها !، بينما يصف شكلاً آخر من وحدة الوجود بأنّها كفر صريح وزندقة ظاهرة، بل أخت المذهب المادي. وبطبيعة الحال يدعو ذلك إلى التمثّل بمقالة المنطقيين: إنّ الحكم على الشيء فرعُ تصوره!
إنّ السؤال الذي تعالجه وحدة الوجود هو التالي: ما طبيعة العلاقة الوجوديّة بين الله الخالق، وبين العالم المخلوق؟ وهل ثمّة حدٌّ وفصل يقع بينهما على نحو يكون كل منهما في جهة، وله وجوده الخاص غير جهة ووجود الآخر، أو أنّه لا حدّ لوجود الله ولا نهاية، بل هو داخل في كل شيء؟. وبكلمة أخرى: هل العلاقة هي الانفصال والتمايز الحدي والمكاني، أو هي الاتحاد أو هي لا هذا ولا ذاك؟، في هذا الإطار: هناك مسالك ثلاثة رئيسة :
مسلك الانفصال بالحدّ، ويرسم العلاقة على أساس التباين بالحدّ، حيث الإله في السماء(مكاناً)!
ومسلك الاتحاد والعينية، الذي يلغي الاختلاف بين الخالق وخلقه، وينكر كون الإله شخصاً.!
مسلك وحدة الوجود، بنفي الحدّ، والاتحاد، فالإيمان بعدم محدوديّة الوجود الإلهي يستدعي تنزيه الخالق عن الجسمية والحد والمكان، كما أنّ مقتضى الإيمان بالوجود الحقيقيّ لله، وأنّه ليس مجرد اسمٍ لمجموع الأشياء؛ يستبعد مسلك الاتحاد والعينية.
ومن ثمّ: يغدو المسعى الأخير لوحدة الوجود-علاوة على الجمع بين الحقيقتين آنفاً- حصر الوجود بالله سبحانه، وعدم إشراك غيره معه بالوجود، كما يقتضيه ما عبّروا عنه بالتوحيد الوجودي، الذي اعتبروه أجل وأعلى وأكمل مرتبة توحيدية، وهو بعينه القول بوحدة الوجود.
وحدة الوجود عند صدر المتألهين:
ارتضى جماعة من الفلاسفة المسلمين نظرية خاصّة في وحدة الوجود تجمع بين الوحدة والكثرة، وقد أولى صدر الدين الشيرازي هذه النظريّة عناية خاصّة، وبلو العلاقة بين الله وبين العالم على أنّها علاقة العلّة والمعلول، وفي اطار قانون السنخيّة، على نحو صلة الفقير الذي تمثّل ذاتُه عين الفقر، ونفس التعلق والارتباط، بالغني الذي تمثّل ذاتُه عين الغنى والاستقلال.
وهذا المسار من وحدة الوجود مرهون بغير واحدة من القواعد الحِكميّة/ الفلسفيّة، وعمدتها ثلاثة، قد تمّ بيانها، والبرهنة عليها في المطوّلات، وهي بإيجاز كالتالي:
وحدة مفهوم الوجود، أو كما تعنون في الكتب الفلسفيّة: الوجود مشترك معنوي، بمعنى أنّه بالرغم من الاختلاف المفهومي فيما بين الواجب والممكن، لكنّ الوصف بالوجود يقع عليهما بمعنى ومفهوم واحد، فالوجود -من حيث المعنى- في قضيّة: الواجب موجود، هو ذاته في قضيّة: الممكن موجود.
أصالة الوجود، بمعنى أنّ الواقع الخارجي هو من نصيب الوجود، وعالم الخارج هو مصداق له، فهو مصدر الآثار الماثلة في الخارج: إليه تعود ومنه تنشأ، وليس من شيءٍ آخر، فالواقع العيني والحقيقة الخارجية-مصداق مباشر للوجود، وهو المتحقق بنفسه في الخارج، فيما ينسب التحقق لغيره بواسطته، ويمكن مقاربة الموضوع والتمثيل له بالنور، والظل، فالنور الذي يرمز هنا للوجود، هو الحاصل بنفسه والمتحقق بذاته، بينما ينسب التحقق والموجوديّة للظل(للماهية) بواسطة وجود النور.
الوجود/الواحد مفهوماً، والأصيل خارجاً- هو في الواقع ذو حقيقة واحدة، وليس له من حقائق متعددة، بمعنى أنّ تفسير الاختلاف والتعدد فيما بين الموجودات هو من التفاوت في درجة الوجود، وليس من الاختلاف النوعي في الذات والحقيقة، فهذه الحقيقة الواحدة(الوجود) لها درجات مراتب متفاوتة.
وجماع وصف هذه النظريّة-وفقاً للأصول آنفاً-أنّ الوجود في الخارج حقيقة واحدة، كما هو في الذهن له مفهوم واحد، فالوجود في جميع الموجودات واحد بالنظر إلى ذاته وحقيقته، نعم، تختلف مصاديق تلك الحقيقة الواحدة في الشدة والضعف والخفاء والظهور، ففيها الواجب القديم الأزلي الذي وجوده بذاته وغناه بنفسه وهو علة العلل ومصدر كل الكائنات، وفيها الوجود الممكن المحتاج في حدوثه ووجوده إلى الواجب،..لكنه مع هذا الاختلاف العظيم والبون الشاسع فنفس طبيعة الوجود فيهما (الواجب والممكن) واحدة، وهي ما نعبّر عنه بالظهور والتحقق وأمثال ذلك..ولا يرى أصحابها في هذه الوحدة ما ينافي التوحيد. أكثر من ذلك، فالرأي عندهم أنّها" من الضروريات، بل من الضروريات الأوليّة التي لا تستقيم حقيقة التوحيد إلا بها، ولا تنتظم مراتب العلّة والمعلول والحق والخلق إلا بها (الفردوس الأعلى، ص255).
وقد سيق على وحدة الوجود جملة من البراهين، لكن أكثر الحجج المميَّزة-وضوحاً وإيجازاً- تلك التي تقوم على عدم محدوديّة الوجود الإلهي، أي إنّ القول بأنّ وجود الله تعالى غير محدّود، وأنّه صرف الوجود من غير عدم-يفضي بالضرورة إلى نظريّة وحدة الوجود. يقول الشيرازي: واجب الوجود كلّ الأشياء، لا يخرج عنه شيء من الأشياء، وبرهانه على الإجمال: أنّه لو خرج عن هويّة حقيقته شيء؛ لكان ذاته بذاته مصداق سلب ذلك الشيء.(الأسفار،ج2،ص368)، وقد صاغ هذه الحجّة صاحبُ المحجّة، وصهر الشيرازي وتلميذه النجيب: الفيض الكاشاني بعبارة جزلة، وصاغها صياغةً نقليّة، ونقليّة، فقال في علم اليقين- وهو الكتاب الذي خصّصه للبيان النقلي للعقائد-:
وإذ ليست له- جلّ جلاله- جهة فقر أصلا، فلا أغنى منه، و لا أتمّ، و لا أشدّ و لا أقدم؛ بل هو غير متناه في الغناء و التماميّة و الشدّة و التقدّم؛ إذ لو كان متناهيا في شيء من ذلك، لكان تتصوّر مرتبة فوقه، يكون فاقدا لها، مفتقرا إليها- تعالى عنه و تقدّس- فلا يحدّه حدّ، و لا يضبطه رسم: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، و إذ ليس سبحانه فاقداً لشيء، فهو بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ، وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ، وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ .(علم اليقين،ج1،ص78)، كما قرّره عقليّاً بأسلوب موجزٍ و فريد في كتاب: أصول المعارف، قائلاً: إنّ حقيقته تعالى هي الوجود البحت غير المتناهي..فلو خرج عن الله سبحانه وجود لم يكن محيطا به؛ لتناهي وجود دون ذلك الوجود، تعالى عن ذلك، بل إنّكم لو دلّيتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله، فأينما تولّوا فثمّ وجه الله..(أصول المعارف، ص14).
في الختام: يقارن هذا المنظور للوحدة: (الوجود، والماهيّة، والعدم) بالنور والظل، والظلمة. وبعد خروج الظلمة بما ترمز إليه من العدم، وهو لا شيئية له؛ لا يبقى سوى النور، وظلّه، والظلّ موجود بتبع النور، فنور الوجود منحصر بالله، وأمّا العالم فهو كالظلّ الممدود له. يقول الشيرازي: فالمقول عليه:(سوى الله..أو المسمّى بالعالم) بالنسبة إليه تعالى كالظلّ للشخص، فهو ظلّ الله..(الأسفار،ج2،ص292)
*السيد علي الحسيني