هذا الوضع وحد البشر وأرجعهم إلى حالة كائن بدائي تتحكم فيه غريزة البقاء؛ حيث كيفت حملات التوعية بالوباء سلوكيات ملايين البشر الذين عانوا من موجات خوف وقلق مرضي وهواجس يومية في مراعاة قواعد الصحة. ظهر جانب التكذيب والتشكيك في المعطيات والمعلومات التي تقدمها المصادر الرسمية لكل الدول، في نجاعة اللقاحات بل وحتى في سلامتها، كمظهر ثانٍ لتوحد الشعوب المختلفة.
إن امتناع جزء هام من الناس على التصديق المطلق للمصادر الرسمية ليس سوى تعبير جماعي عن أزمة ثقة في النظام وممثليه.
كما سيكشف البعد الاقتصادي للوباء مرة أخرى طبيعة السياسات الكبرى التي تتحكم في العالم، والتي من المتوقع أن تؤثر علينا باعتبارنا من البلدان التي تلعب بالأحرى دور المفعول بها.
هدف هذا المقال هو إقامة الدليل على سياسة الخداع والتلاعب التي تتعامل بها الدول، المنظمات العالمية وكبرى شركات صناعة الأدوية في سبيل فرض النفوذ والسيطرة على مليارات من الأشخاص ليبقى تأكيد نظرية المؤامرة أو تفنيدها قرار القارئ وحده.
1- منظمة الصحة العالمية وكبرى شركات الصناعات الطبية
تعنى منظمة الصحة العالمية بالصحة، وهدفها ضمان فرص ولوج متكافئة إلى الخدمات الصحية، وتشرف عليها منظمة الأمم المتحدة مباشرة عبر مجلسها الاقتصادي والاجتماعي، لكن تلاقي نجاعة شفافية واستقلالية المنظمة حملات نقد وتشكيك من طرف أخصائيين مستقلين ومنظمات حقوقية وبيئية غير حكومية.
سنة 1970 كانت منظمة الصحة تعتمد أساساً على تبرعات اجبارية من حكومات الدول الأعضاء بنسبة 80% مقابل 20% تبرعات يقدمها خواص في إطار سياقات استعمال محددة ولأهداف واضحة.
هذه النسب انعكست تماماً حسب التقييم الحالي للظروف القائمة. فحسب آخر تحيين يمثل بيل غيتس أكبر الممولين لمنظمة الصحة العالمية، حيث قدمت مؤسسة غيتس التي يديرها مع زوجته تبرعات للمنظمة تقدر بقيمة 2 مليار دولار منذ أواخر التسعينات.
هذا التنسيق بين الجهتين مكن من تشبيك العلاقات والمصالح بينهما، وضم ممول آخر للمنظمة. إضافة إلى احتلال بيل غيتس المرتبة الثانية من مجموع ممولي منظمة الصحة من حكومات وخواص، أنشأ سنة 2000 مجموعة تضم منظمة الصحة، منظمة غيتس، اليونيسيف ومؤسسات صناعة الأدوية ليصبح هذا التحالف (غافي) الممول الرابع في قائمة المانحين بعد أمريكا، شركة غيتس، المملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية؛ لتصبح منظمة الصحة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بشركات صناعة وتسويق وتصدير الأدوية على نطاق عالمي.
إذاً ما هي المؤاخذات العلمية الفعلية لأصحاب الاختصاص المستقلين على هذه المبادرة؟
2- تاريخ تشوبه الفضائح
توجهت حملة التلقيح ضد الشلل التي أشرفت عليها مؤسسة غيتس إلى أطفال بلدان في إفريقيا تمثل بيئة بلدان وسط وجنوب إفريقيا مجالاً خصباً لانتشار عدة أمراض وأوبئة فتاكة: يعتبر الفقر والمجاعة والظروف البيئية والاقتصادية القاهرة السبب الرئيسي وراء الكثير منها. يتجلى تدهور الظروف البيئية أساساً في فقدان الماء الصالح للشراب وغياب قواعد حفظ الصحة الأساسية جراء الصناعات الاستخراجية التي تستثمر في محيط دلتا النيجر مثلاً. فلماذا لم تتم معالجة الإشكال بصورة جذرية؟
تستثمر مؤسسة غيتس في ميادين مختلفة، منها البترول، أي أنها تتسبب مباشرة في الأمراض، ومن ثم تقدم حلولاً جزئية في شكل هبات ومنح تمن بها على “فقراء الكوكب” عوض تفعيل الحلول الجذرية. وباعتبار حجم مساهمة بيل غيتس في الميزانية، فإن سياسة المنظمة تتماهى مع مصالح رجل الأعمال. مجموعة بيل غيتس هي من ضمن الشركات العابرة للقارات التي تكتسح الأسواق، وتغرقها بمنتوجات خاصة بها، تنفرد بحق حصري في تزويد كل الأسواق العالمية لسنوات، ترشي كبار المسؤولين في منظمة الصحة، تبتلع حكومات بأكملها وتسيطر على السياسة الصحية العالمية!
من الشركات الأخرى المنتجة للقاح التي تتعلق بها تهم وقضايا شركة فايزر.
ديدي راوولت المختص في الأمراض الجرثومية، هو من ضمن الأطباء الذين عارضوا تقريباً كل سياسات منظمة الصحة في مواجهة الوباء. هو من ضمن العلماء المستقلين الذين تعاملوا مع الوباء من منطلق محايد علمي بحت. القضية التي أبرزته هي قضية الهيدروكسي كلوروكين، حيث كلفته معارضته لتسويق هذا المنتوج تهديداً بالقتل. فيما يخص اللقاحات يعتبر أنها سوف تؤدي إلى موت الأشخاص المتقدمين في السنين أي المعرضين أكثر للإصابة، ونتيجة لذلك سوف تتقلص الحالات كدليل مغلوط عن نجاعة هذه المنتوجات الطبية.
كل المعطيات تدل على أن منظمة الصحة العالمية هي جهاز من الأجهزة الكبرى للنظام التي تحافظ على مصالح شركات الصناعات الطبية، وهو ما يتناقض مع أهم أهدافها الأساسية بل مع سبب وجودها.. عدة معلومات أخرى يغيبها الإعلام يمكن أن تثير الشكوك حول منظمة الصحة العالمية المتهمة بالخضوع لضغط لوبيات الأدوية.
فكيف خدم هذا النظام، الذي تعتبر منظمة الصحة العالمية من أهم مكوناته، مصلحة رأس المال مباشرة على حساب الأغلبية الباقية من البشرية؟
3- مخلفات اقتصادية مباشرة وواضحة
خلال هذا الوباء، لم تتراجع ثروات أثرياء العالم، فقد حافظت الشخصيات المكونة لقائمة أغنى 1000 شخصية عالمية على مستواها الأصلي بل منهم من حقق أرباحاً إضافية، في حين أن الوضعية الاقتصادية للفئات الهشة ازدادت هشاشة، تم تسجيل فقدان مئات الآلاف من فرص الشغل وتهاوي النمو. إذاً أدى الوضع الوبائي إلى تعمق التفاوت الطبقي والمزيد من تركيز الثروة بين أيدي الأقلية كأولى النتائج.
يعود استقرار الوضعية الاقتصادية لأثرياء أوروبا إلى جملة الإجراءات التي أقرها البنك المركزي الأوروبي في إطار سياسة الدعم الضريبي. تمتعت كبرى الشركات بمجموعة من التدابير الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية لدعمها بهدف حسن مواجهة أزمة كوفيد. المؤسسات التي تمتعت بهذه الإجراءات تستوفي أحد المعيارين: إما أن توفر 5000 فرصة شغل أو أكثر، أو تمتلك رأس مال عاملاً يقدر بأكثر من 1,5 مليار يورو، أي الشركات الكبرى. هذا النظام العالمي طالما أثبت أنه يخدم مصلحة أصحاب الثروات (أقلية لا تتجاوز 1%) على حساب مصلحة الأغلبية.
إذاً فخيار الحد من هذا التفاوت يمر حصرياً عبر إصلاح النظام الجبائي؛ ترفيع الأداءات على من راكموا المرابيح أصحاب المداخيل الهائلة والشركات العابرة للأقطار والقضاء على الملاذات الضريبية (المثال الأرجنتيني).
لكن هل من الممكن توقع التأثير الجيوسياسي لانتشار هذا الفيروس؟
4- صراع السيطرة
سيطرت الصين على القدر الأكبر من المعلومات، كان من شأن هذه الأسبقية أن تعطي الصين فرصة السيطرة على سوق الأدوية العالمي، وهذا ما تم إلى درجة ما. فقد طورت الصين 5 لقاحات من مجموع 13 على الصعيد العالمي. في حين كانت بقية اللقاحات ومنها الأربعة المعروفة والمطروحة حالياً في السوق مجبرة على الحصول على موافقة وكالة الأدوية الأوروبية. إلا أن الورقة التي قررت الصين أن تلعبها تمثلت في بعث كميات هامة من اللقاحات مجاناً إلى أغلب دول إفريقيا، فقطعت بذلك الطريق أمام عمالقة الصناعات الطبية لتحقيق ربح كبير.
كانت أغلب الدول في حالة تداين كبير يفرض على صندوق النقد الدولي التدخل لإرجاع التوازن في كل الموازين التجارية وإعادة إدماج اقتصاد عدة الدول في النظام العالمي. هذا التداين المرتفع لا يتناسب حتى مع اقتصاد الدول المتعافية نسبياً؛ لأن النظام العالمي يفترض توازناً ما يسمح بمواصلة استمرار المبادلات. إذاً من مصلحة الكثير من الدول الكبرى أن تواجه البشرية مثل هذه الأزمة. فالمؤشرات الاقتصادية يمكن أن تستفيد من الرجة التي أوجدتها حالة الوباء.
الرهان في الأزمة الحالية هو من الاستفادة من كل حيثيات الوضعية وليس فقط السيطرة على مبيعات اللقاحات؛ لأن الصين بتقديمها اللقاحات مجاناً إلى مصر والمغرب وغينيا الاستوائية والسيشل وزيمبابوي والسنغال تسعى إلى حصر التنافس بين الدول المنتجة للقاح في بعد ضيق، فيما تتعلق آمالها بفتح آفاق استثمار وتعاون اقتصادي على المدى البعيد مع القارة السمراء، تعاون بدأ يتحقق فعلاً. تؤكد عدة مصادر أن جمهورية الصين الشعبية على وشك أن تتصدر ترتيب القوى العالمية وذلك استناداً إلى مؤشرات تؤكدها حتى المصادر الخارجية العالمية، فبعد ارتفاع بنسبة 1,9% في الناتج الداخلي العام سنة 2020، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يرتفع الناتج الداخلي الخام بنسبة 8,2% سنة 2021.
رغم صحة هذه المعطيات، ولأكثر مصداقية وواقعية يجب الإقرار بأن الحصيلة الاقتصادية الكاملة لمجموع المؤشرات لن تتأكد إلا بعد سنوات.
*أميرة حجلاوي– عربي بوست