سفر الرضا عليه السلام إلى مرو
مع مغادرة الإمام الرضا عليه السلام المدينة الى مرو بعدما أجبره المأمون العباسي لقبول ولاية العهد انتهت اللحظات السعيدة في حياة السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام، فإنها بعد استشهاد أبيها الإمام الكاظم عليه السلام وجدت الرحمة والحنان في كنف أخيها الرضا عليه السلام والآن وقد سافر مضطرا، ويعد رحيل هذا الأخ الشفيق استعصب العيش جدا على جميع عائلة الإمام الكاظم عليه السلام وخاصة السيدة المعصومة. وقد وصل الإمام الرضا عليه السلام بعد سفر طويل إلى مرو. وعند الوصول استقبل المأمون الإمام الرضا وأصر عليه بقبول ولاية العهد. لكن الإمام عليه السلام كان مصرا على رأيه مظهرا عدم قبوله لها. فاستمر النزاع بين الإمام والخليفة حول مسألة ولاية العهد لمدة شهرين، وفي النهاية اجبر الإمام بسبب تهديدات المأمون على القبول، وفي السابع من شهر رمضان المبارك سنة 201 هـ مع حزن عميق وقلب كئيب قبل ولاية العهد، لكنه شرط أن لا يتدخل في أي قرار من قرارات السلطة. والمأمون قبل منه الشرط.
رحلتها من المدينة لزيارة أخيها
مضت سنة على سفر الإمام الرضا عليه السلام إلى مرو، وأهل بيت النبى صلي الله عليه وآله وسلم في المدينة حرموا من عزيزهم الذي كانوا يستشعرون الرحمة واليمن بجواره، ولم يكن يسكن روئهم شيء سوى رؤيتهم للإمام المعصوم عليه السلام. السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام كبقية إخوتها وأخواتها قل صبرها وكانت كل يوم تجزع لفراق أخيها الرضا عليه السلام. في هذه الأيام كتب الإمام عليه السلام رسالة مخاطبا أخته السيدة المعصومة عليها السلام، وأرسل الرسالة بيد أحد خدامه إلى المدينة المنورة، وأمره أن لا يتوقف وسط الطريق كي يوصل الكتاب إلى المدينة المنورة بأقصر زمان ممكن، وكذلك فإنه عليه السلام دل الرسول على منزل أبيه حيث تسكن أخته المعصومة لكي لا يسأل من شخص آخر عن منزل الإمام الكاظم عليه السلام. وصل مبعوث الإمام إلى المدينة المنورة وامتثالا لأمر الإمام عليه السلام سلم الكتاب إلى السيدة المعصومة. وعلى الرغم من أننا لا نعرف شيئا من محتوى ذلك الكتاب، لكنه مهما كان فقد أشعل نار الشوق في أهله وأقربائه. ومن هنا قررت السيدة المعصومة وبعض إخوة الإمام وأبناء إخوته أن يتحركوا نحو مرو ليلتحقوا بالإمام عليه السلام. وبسرعة جهزت عدة السفر وتهيأت القافلة للسير وبعد أخذ الماء والمتاع خرجوا من المدينة قاصدين مرو. كان في هذه القافلة السيدة فاطمة المعصومة ويرافقها خمسة من إخوتها، هم: فضل وجعفر وهادي وقاسم وزيد. ومعهم بعض أبناء إخوة السيدة المعصومة وعدد من العبيد والجوارى. تحركت قافلة عشاق الإمام الرضا عليه السلام، وبغير المنازل الضرورية للصلاة والغذاء والإستراحة لم تتوقف لحظة عن المسير، مخلفة هضاب الحجاز وصحاريه وراءها مبتعدة يوما فيوما عن مدينة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم. السفر في صحاري الحجاز كان صعبا للغاية حتى أن الإبل أحيانا تستسلم للعجز وتتقاعس عن المسير، فكيف بالمسافرين الذين لا بد لهم أن يذهبوا إلى مرو. لكن نور الأمل ولقاء الإمام كان يشرق في قلوب أهل القافلة ويحثهم على إدامة السير وسط رمال وأعاصير الصحراء. في تلك الأيام، كان خطر اللصوص وقطاع الطريق يهدد كل مسافر، ويخلق له مشاكل كثيرة. وإذا هجموا على قافلة لا يبقى لأحد أمل في متابعة السفر، وأقل ما يفعلونه نهب الأموال والمجوهرات والدواب. وإلا ففي كثير من الحالات يقتلون أعضاء القافلة لسرقة أموالهم. وهذا الخطر كان يهدد فاطمة المعصومة عليها السلام ومرافقيها، لكنهم توكلوا على الله تعالى واستمروا بالسير ويوما فيوما كانوا يقتربون من المقصد. مرت الأيام والليالي وقافلة قاصدي الإمام الرضا عليه السلام خلفت صحراء الحجاز وراءها ولم يبق لها شيء دون الوصول إلى أرض إيران. عناء السفر كانت تؤذي السيدة المعصومة كثيرا، ومع أن قطع هذا الطريق الوعر كان شاقا على شابة مثلها ولكنها لشدة ولهها وشوقها إلى زيارة أخيها كانت مستعدة لتحمل أضعاف هذا العناء. كانت السيدة في طريقها دائما تتصور الوجه المشرق للإمام الرضا عليه السلام وتتذكر الأيام التي قضتها في المدينة، ولأنها ترى أن عينها ستقرّ برؤيته، فإنها كانت مسرورة جدا. انتهت المرحلة الصعبة من هذا السفر، وأخيرا وصلت القافلة إلى أراضي إيران، ولابد أيضا من السفر واجتياز المدن والقرى واحدة بعد اخرى.
قافلتها في ساوة
وأخيرا وصلت القافلة إلى مدينة ساوة. وهناك مرضت السيدة المعصومة مرضا شديدا بحيث لم تقدر على متابعة المسير. هذا السفر الطويل المتعب من المدينة المنورة إلى ساوة وإن كان أضعف بدنها، إلا أن شدة المرض أنحلت جسمها وأشحبت لونها. هل إن اخت الإمام الرضا عليه السلام تستطيع في هذا الحال أن تكمل سفرها لتزور أخاها العزيز في مرو؟ وهل تستعيد عافيتها وتكمل السفر لتلتقي أخاها؟ هذه أسئلة كانت تشغل فكر السيدة المعصومة وتزيد من قلقها. وعلى أية حال، قررت السيدة بعد ذلك الذهاب إلى "قم"، وسألت من معها: "كم بيني وبين قم؟" أجابوها: عشرة فراسخ. وعند ذلك أمرتهم بالتوجه إلى قم. كانت قم خلال ذلك الوقت ملجأ الشيعة، مع أن مذهب التشيع لم يكن شائعا في إيران، لكن بسبب هجرة الأشعريين العرب من الكوفة إلى قم فهذه المدينة أصبحت مدينة شيعية وجميع ساكنيها من محبي أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. الأشعريون ـ وبسبب ظلم عمال بني أمية الذين تجاوزوا الحد في عداوتهم لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولشيعة أمير المؤمنين عليه السلام ـ قد هاجروا من الكوفة وسكنوا هنا وبنوا مدينة قم وأسسوها. ولما بلغ خبر وصول السيدة المعصومة إلى ساوة ومرضها هناك، إلى أهل قم، أجمع كل أهل المدينة أن يذهبوا إلى السيدة ويطلبوا منها الإقامة في قم. ولهذا ذهب "موسى بن خزرج" ممثلا من أهل قم إلى بنت الإمام الكاظم عليه السلام وأخبرها برغبة القميين وفرط اشتياقهم بزيارتها، وأجابت السيدة المعصومة طلبهم وأمرت بالحركة نحو قم. أخذ موسى بن خزرج زمام ناقة السيدة المعصومة عليها السلام مفتخرا، وقادها إلى المدينة التي كانت تنتظر قدوم أخت الإمام الرضا عليه السلام. في 23 ربيع الأول سنة 201 هـ وصلت قافلة السيدة المعصومة إلى مدينة قم، واستقبلها الناس بحفاوة بالغة، وكانوا مسرورين لدخول السيدة ديارهم. وكان موسى بن خزرج ذا يسر وبيت وسيع، وأنزل السيدة في داره وتكفل لضيافة السيدة المعصومة عليها السلام ومرافقيها. واستشعر موسى بن خزرج فرط السعادة بخدمته لضيوف الرضا عليه السلام القادمين من مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهيأ لهم كل ما يحتاجونه بسرعة. ثم اتخذت السيدة فاطمة المعصومة معبدا لها في منزل موسى بن خزرج لكي تبتهل إلى الله وتعبده وتناجيه وتشكو إليه آلامها وتستعينه على ما ألم بها. وهذا المعبد باق إلى الآن ويسمى ب"بيت النور". أقلق مرض بنت الإمام الكاظم مرافقيها وأهالي قم كثيرا، مع أنهم لم يبخلوا عليها بشيء من العلاج، إلا أن حالها يزداد سوءا يوما بعد يوم. لأن المرض قد تجذر في بدنها الشريف.