وكما قلنا حسب بعض الروايات عاشت السيدة المعصومة في كنف والديها الكريمين، تكتسب منهما الفضائل والمكارم، إذ كان أبوها إماما معصوما وليس له في الفضائل والتقوى كفوا أحد، وامها "نجمة" أيضا من النساء الصالحات المؤمنات التي تعلمت في مدرسة زوجة الإمام الصادق عليه السلام. وكانت معروفة بالتقوى في ذلك الزمان. ومن هنا فقد أشارت "حميدة" أم الإمام الكاظم عليه السلام على ابنها الإمام بالزواج من "نجمة". كانت السيدة المعصومة تستفيد كل يوم من والدها وأخيها المعصومين عليهما السلام وامها التقية العالمة بحيث وصلت إلى مقام رفيع من العلم والفضيلة وصارت عارفة بالكثير من العلوم والمسائل الإسلامية في أيام صباها. في أحد تلك الأيام أتى جمع من الشيعة إلى المدينة لكي يعرضوا بعض أسئلتهم الدينية على الإمام الكاظم عليه السلام ويأخذوا العلم من معدنه، ولكن كان الإمام الكاظم وكذلك الإمام الرضا عليه السلام مسافرين، ولم يكونا حاضرين في المدينة. فاغتم الجمع، لأنهم لم يجدوا حجة الله ومن يقدر على جواب مسائلهم، واضطروا للتفكير بالرجوع إلى بلدهم. وعندما رأت السيدة المعصومة عليها السلام حزن هؤلاء النفر أخذت منهم أسئلتهم التي كانت مكتوبة، وأجابت عليها، وعندئذ تبدل حزن الجماعة بفرح شديد ورجعوا ـ مع ظفرهم بجواب مسائلهم ـ إلى ديارهم راجحين مفلحين. ولكنهم في الطريق وفي خارج المدينة التقوا بالإمام الكاظم عليه السلام وحدثوه بما جرى عليهم. وبعد ما رأى الإمام جواب ابنته على تلك المسائل أثنى على بنته بعبارة مختصرة قائلا: "فداها أبوها".
بداية المحنة وشهادة الإمام الكاظم عليه السلام
كان حكام ذلك الزمان يؤذون أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا، وخاصة الإمام الكاظم عليه السلام، فإنه عليه السلام لاقى من الخلفاء الجور والآلام والقسوة كثيرة. وهذه الآلام والمحن كانت تؤلم القلب الطاهر للسيدة المعصومة عليها السلام، وكان المسلي الوحيد لها وللعائلة هو أخوها المفدى الإمام الرضا عليه السلام. صادفت أيام حياة الإمام الكاظم عليه السلام عهد خمسة من حكام العباسيين الظلمة، وهم: أبو العباس السفاح والمنصور الدوانيقي والهادي والمهدي وهارون. وكل واحد من هؤلاء الطواغيت أذاق الإمام عليه السلام وسائر العلويين المتقين أنواع العذاب والتنكيل. عندما ولدت السيدة المعصومة عليها السلام كانت قد مضت ثلاث سنوات من خلافة هارون العباسي الذي كان له قصب السبق في ميدان الظلم والبطش ونهب أموال المسلمين. وكان تابعا للهوى معجبا بالدنيا. ولم يتيسر للإمام الكاظم عليه السلام السكوت على ظلم هارون وخيانته للإسلام والامة الإسلامية لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله"، وأخذ الإمام عليه السلام ينهى عن المنكر، وقام في وجه سياسة هارون الماحقة للدين. وهارون ـ لعلمه بتشدد آل علي عليه السلام وخاصة الإمام الكاظم عليه السلام في مقاومة الطواغيت والإستنكار عليهم ـ استنفد كل الوسائل لإخماد صوتهم وأنفق الكثير من أموال المسلمين على الشعراء لكي ينتقصوا منهم. وكان يسجن العلويين أويبعدهم ويقتل بعضا منهم بعد التعذيب الكثير في السجن. وبعد ما استحكمت حكومته الظالمة على البلاد الإسلامية أمر بإعتقال الإمام الكاظم عليه السلام وسجنه. ومن هنا حرمت السيدة المعصومة عليها السلام من والدها والإستفادة من معينه الصافي وذلك في أواخر حياته الشريفة، وشعرت بالحزن الشديد على فقده. وكان عمر السيدة المعصومة حينذاك أقل من عشر سنوات، وكانت تحترق لفراق أبيها وتطيل البكاء عليه. وكذلك كان يصعب على الإمام الكاظم عليه السلام فراق أولاده البررة كالإمام الرضا عليه السلام والسيدة المعصومة، فصبر جميل. كان الإمام الكاظم عليه السلام قد بدل ظلمة السجن نورا بذكر الله، وبدل تلك الأيام الصعبة بالسبحات الطويلة إلى أجمل الأيام. ولكن قلبه كان يخفق في السجن عندما يتذكر ابنته المعصومة ويشتاق إلى لقائها. في السنتين الأخيرتين من حياة الإمام الكاظم عليه السلام كان ينقل من سجن إلى سجن. بقي عليه السلام في سجن عيسى بن جعفر والي البصرة سنة، وقد أثرت صفاته الحميدة في حارس السجن بحيث اعتزل الحارس من حراسة السجن. بعد ذلك حمل الإمام عليه السلام بأمر هارون إلى بغداد وسجن عند فضل بن الربيع ثم عند الفضل بن عيسى. وأخيرا نقل إلى سجن السندي بن شاهك. وسبب التنقل بين هذه السجون هو أن هارون كان يأمر صاحب السجن بقتل الإمام عليه السلام، لكن لم يقدم بل ولم يقدر أحد من هؤلاء على هذا العمل الشنيع وأبى كل منهم عنه. إلى أن سمه السندي بن شاهك بأمر من هارون. كان هارون يعرف أن الناس إذا علموا بقتل الإمام عليه السلام على يديه ستكون له عواقب خطيرة. فبدا له مكر بأن يأتي بجماعة من الشيعة قبل استشهاد الإمام عليه السلام، لكي يشهدوا أن الإمام عليه السلام مريض ويجوز أن يتوفى بمرضه ولا يكون موته مستندا بقتله من أحد. لكن يقظة الإمام ومعرفته بعواقب الامور قد فضحت هارون، فإنه عليه السلام مع شدة تأثير السم في بدنه الشريف قال لمن حوله: "لقد سمني هذا الرجل بتسع تمرات وسيخضر بدني غدا وسأقضي بعد غد".
في رحاب العلم والمعرفة
عاشت السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام في كنف أخيها الرضا عليه السلام ورعايته مدّة من الزمن تمكّنها من تلقّي التربية والتعليم اللائقين بمقامها على يد أخ شقيق لم يكن في علمه ومقامه كسائر الناس، فهو الإمام المعصوم وهو المربّي والمعلم والكفيل. وهذه المدة وإن لم تخل من مضايقات عانى منها الإمام الرضا عليه السلام الشدائد والمحن وإن لم تصفُ للإمام عليه السلام ولم تخلُ من المضايقات إلا أن من اليقين أن الإمام قام بدوره مربّياً ومعلّماً وراعياً وكفيلاً، وفي طليعة من ربّاهم الإمام عليه السلام وعلّمهم شقيقته السيدة فاطمة المعصومة، فأخذت عنه العلم والمعرفة والفضائل والمناقب، حتى غدت ذات شأن عند الله تعالى كما جاء في زيارتها عليها السلام، وأنّ شفاعتها كفيلة بإدخال الشيعة بأجمعهم إلى الجنة، كما تحدّث بذلك جدّها الإمام الصادق عليه السلام. وقد كان لها عليها السلام بأخيها الإمام الرضا عليه السلام صلة خاصّة قلّ نظيرها كما كشفت عنها الروايات والأحداث وسيأتي منها ما يدلّ على ذلك. وإنّ من أهمّ أسباب بلوغها هذا المقام الشامخ علمها ومعرفتها بمقام الإمامة والإمام، وقد كان إمام زمانها شقيقها الإمام الرضا عليه السلام الذي تولّى تربيتها فعلى يديه نشأت، وعنه أخذت، وتحت إشرافه ونظره ترعرعت، وبأخلاقه وآدابه سمعت وتكاملت. ولذا تميّزت الصّلة بينهما بحيث أصبحت تعرّف نفسها بأنّها أخت الرضا عليه السلام. وهما وإن كانا ينحدران من أب واحد وأمّ واحدة وذلك أحد أسباب شدّة الصّلة بينهما إلا أن السّبب الأقوى والأتم هو علمها بمقام أخيها وإمامته، إذ أن الرّابطة النسبية تصبح ـ حينئذ ـ عاملاً ثانويّاً بالقياس إلى العلم والمعرفة. هذا، وقد نوّه الأئمة عليهم السلام بمكانتها ومنزلتها قبل ولادتها، وبعد أن ولدت وتوفيت. روي عن عدّة من أهل الرّي أنّهم دخلوا على أبي عبد الله عليه السلام، وقالوا: نحن من أهل الرّي، فقال عليه السلام: مرحباً بإخواننا من أهل قم، فقالوا: نحن من أهل الري، فأعاد الكلام، قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجاب به أولاً، فقال عليه السلام: إن لله حرماً وهو مكّة، وإن لرسول الله حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنّة. قال الراوي: وكان هذا الكلام منه عليه السلام قبل أن يولد الكاظم.