حقيقة العبادة:
هي الخضوع للمعبد والخشوع في المشروط بالقربة والإخلاص فيه وفي غير المشروط بالقربة الخضوع فقط للأوامر الربّانيّة فحقيقة العبادة هي الخضوع للمعبود مع الإخلاص والتشوّق لعبادته.
قال الشريف الجرجانيّ في التعريفات(1): العبادة هو فعل المكلّف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربّه.
وقال أبن مكسويه الخازن في تهذيب الأخلاق(2): وأمّا العبادة فهي تعظيم الله وتمجيده وطاعته وإكرام أوليائه الملائكة والأنبياء والأئمّة (ع) والعمل بما توجبه الشريعة وتقوى الله تتمّ هذه الأشياء وتكملها، ألخ.
عبادة العبّاس بن أمير المؤمنين (ع):
عبادة أبي الفضل العبّاس (ع) قد كانت بجميع أعضائه:
فلسانه عبد الله بالذكر والشكر والدعاء والأستغفار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاية إلى إمامة أمامه وأخيه الحسين (ع).
أمّ جبهته فقد أثّر بها السجود.
وأمّا عينه فقد نبت بها السهم في الجهاد دون إمامه.
وأمّا يداه فقطعتها من الزند بعد أن عبد بها الله تعالى أنواعاً من العبادة جاهد بها الأشرار ورفعها في الأذكار وبسطها في العطاء والسجود والركوع وغير ذلك.
وأمّا رأسه فقد فضخت هامته بعامود الحديد.
وأمّا رجلاه فقد قام بها في كلّ عبادة وسعى بها إلى كلّ خير ومشى بها إلى الجهاد وحمل الماء لعطاشى آل محمّد وآخر عبادة عبد بها أنّه جعل يفحص بهما حين سقط على شاطئ العلقميّ مفضوخ الهامة مقطوع اليدين.
وأمّا وجهه الكريم فقد سالت عليه الدماء في سبيل الله وسال عليه مخّ اليافوخ المفضوخ.
وأمّا صدره الشريف فقد وزّعته الأسنّة والسيوف والنبال المحدّدة وهكذا سبيل سائر أعضائه حتّى جاء في وصفه إنّه إذا حمل منه جانب سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف وطعن الرماح.
وأمّا عبادته بالمعنى المصطلح وهو كثرة الصلاة حتّى يحصل من الإكثار منها أثر في أعضاء السجود فذاك أمر معروف نصّ عليه العلماء.
قال أبو الفرج الأصبهانيّ في مقاتل الطالبيّين(3): قال الميدائنيّ: حدّثني أبو غسّان، عن هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال: رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه وكنت أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك. قال: إنّي قلت شابّاً أمرداً مع الحسين بين عينيه أثر السجود فما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني فيأخذ بتلبابي حتّى يأتي جهنّهم فيدفعني فيها فأصيح فما يبقى أحد في الحيّ إلاّ سمع صياحي، قال: والمقتول العبّاس بن عليّ (ع)، إنتهى.
وهذا حديث مشهور رواه عامّة أهل المقاتل وهنا أستراب السيّد المعاصر السيّد جعفر بحر العلوم في كتابه (تحفه العالم) بأنّ هذا الحديث لا يصحّ في العبّاس الأكبر لقوله (غلام أمرد) ويصحّ في العبّاس الأصغر وهذا وجه وجيه لو كانت الرواية عند جميع من رواها كذلك، ففي كلام سبط أبن الجوزيّ في التذكرة(4) موافقة لما في المقاتل قال: عن القاسم بن الأصبغ المجاشعيّ قال: لمّا اُتي بالرؤوس إلى الكوفة بفارس أحسن الناس وجهاً قد علّق في لبب فرسه رأس غلام أمرد كأنّه القمر ليلة تمّه والفرس يمرح فإذا طأطأ راسه لحق الرأس بالأرض، فقلت له: رأس من هذا؟ فقال: رأس العبّاس بن عليّ، فقلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهن الأسديّ.
قال: فلبث أيّاماً وإذا بحرملة ووجهه أشدّ سواداً من القار فقلت له: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك وما أرى اليوم لا أقبح ولا أسود وجهاً منك! فبكى وقال: والله منذ حملت الرأس إلى اليوم ما تمرّ بي ليلة إلاّ وأثنان يأخذان بضبعي ثمّ ينتهيان بي إلى نار تأجّج فيدفعاني فيها وأنا أنكص فتسفعني كما ترى، ثمّ مات على أقبح حال، إنتهى.
وأمّا من رواها ولم يعبّر بأمرد بل قال: رجل فمنهم الصدوق القمّيّ (رحمه الله) ونقلها عنه الفاضل المجلسيّ (رحمه الله) في البحار(5) ونصّها للصدوق في ثواب الأعمال(6): عن القاسم بن الأصبغ قال: قدم علينا رجل من بني دارم ممّن شهد قتل الحسين (ع) مسودّ الوجه وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك لتغيّر لونك، فقال: قتلت رجلاً من أصحاب الحسين أبيض بين عينيه أثر السجود وجئت براسه، قال القاسم: لقد رأيته على فرس له وقد علّق الرأس بلبانها وهو يصيب ركبتها، قالك فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً أما ترى ما تسنع به الفرس بيديها؟ فقال: يابنيّ! ما يصنع به أشدّ لقد حدّثني فقال: ما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي حتّى يأخذ بضبعي فيقودني فيقول: أنطلق فينطلق بي إلى جهنّم فيقذف بي فيها حتّى أصبح، قال: فسمعت بذلك جارة له فقالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه، قال: فقمت في شباب من الحيّ فأتينا أمرأته فسألناها فقالت: قد أبدى على نفسه وقد صدّقكم، إنتهى.
والصدوق معتمد وإذا كانت القاعدة الاُصوليّة هي حمل المطلق على المقيّد فإنّها تعارضها قاعدة الأصل عدم الزيادة على أنّ رواية الصدوق مقيّدة أيضاً برجل والأمرد في الحديث الأصبهانيّ وسبط لعلّه وهم من الراويّ فإن أبا الفرج وسبط لا يثبتان عبّاساً أصغر وعمر الأكبر عندهما سنّه 34 سنة فوافق حديث الصدوق وبقي الوهم من المحدّث عن القاسم بن الأصبغ ومن المحتمل القويّ أنّ القاسم قال عن نفسه: رأيته وأنا أمرد فظنّ الراوي أنّ المقتول كان أمرد، على أنّه من الغريب حمل الغلام على عادة العرب من إطلاقه على الكهل كما قال النابغة الذبيانيّ للحارث بن أبي شمر ملك غسّان:
هذا غلام حسن وجهه
مقتبل العمر سريع التمام
وقالت ليلى الأخيليّة في مرثيّة توبة بن الحمير الخفاجيّ عشيقها:
غلامان كانا أستوردا كلّ سورة
من المجد ثمّ أستوسقا في المصادر
وهذا كثير في كلام أهل اللسان، وأمّا توصيفه بالأمرد فليس بعزيز في كلامهم لضرب من التجوّز فقد يطلقون الأمر على الملتحي إذا لم يبلغ سنّ الكهولة كما في قصّة عين أباغ وأرسل المنذر الأكبر ملك الحيرة إلى الحارث الأكبر ملك غسّان أعددت لك الكهول على الفحول، فأجابه الحارث: أعددت لك المرد على الجرد، وليس المراد من المرد الذين لا شعر في وجوههم بل هم الذين لم يتجاوزوا سنّ الكهولة وهم في الدرجة القصوى من النشاط والقوّة فإذا اُريد بالأمرد الخالي من الشعر أحتاج إلى قيد فيقال أمرد أجدر كما حديث: اهل الجنّة مرد جرد، أو يقال: أمرد لا نبات بعارضه، فالأمرد يستعمل فيمن أنبت من الرجال مجازاً وكلام العرب مبنيّ على التوسعة.
أمّا الدلالة على عبادة العبّاس (ع) على جهة العموم فقد روى الشيخ المفيد في الإرشاد في أخبار الليلة العاشرة من المحرّم أنّ الحسين (ع) قام ليله كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يصلوّن ويدعون ويستغفرون.
وقال الطبريّ عن الصحّاك المشرقيّ: فلمّا أمسى الحسين (ع) واصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون.
وقال السيّد أبن طاوس (رحمه الله) في الملهوف: وبات الحسين (ع) وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدوي النحل بين راكع وساجد وقائم وقاعد ألخ. وكلّ هذه تدلّ بعمومها على عبادة أبي الفضل. للمؤلّف:
سمياء عبّاس الشهيد بوجهه
سيما أبيه الخير والأسلاف
أثر السجود بجبهة أبن المرتضى
عنوان تقواه بغير خلاف
من معشر سيماهم بوجوههم
غرّ محجلّة من الأشراف
ولهم على الأعراف أكرم موقف
يتوسمّون دلائل الأوصاف
طوبى لمن عرفوا وويل دائم
للمنكرين من العذاب الضافي
فعلى الصراط لنا النجاة بحبهّم
ولدى الحساب ومشهد الأعراف
مقتبس من كتاب (بطل العلقمي) للعلامة الشيخ عبدالواحد المظفر
1ـ التعريفات: ص98.
2ـ تهذيب الأخلاق: ص383.
3ـ مقاتل الطالبيّين: ص45.
4ـ تذكرة الخواصَ: ص159.
5ـ بجار الأنوار 10/270.
6ـ ثواب الأعمال: ص11.