نعم أنا أقول بكل صراحة غير مشكّك ولا مر تاب أنّه لا أحد أعرف بحقائق الأديان ولا أعلم بنواميس الشريعة الإسلاميّة وأحكام الدين المقدّس من رجل ذهبت حياته في خدمة الأئمّة سادات العلماء في أقطار الأرض ومرجعهم في سائر الفنون كأبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأخويه الحسن والحسين (ع) حتّى أنّه (ع) لم يفارق تلك الأعتاب المقدّسة لحظة واحدة ولم يبتعد عن تلك الأبواب المحترمة خطوة، فليله ونهاره ملازم لخدمتهم ملازمة الظلّ لذي الظلّ مع حرصهم على تثقيف الأباعد وتعليم الغرباء فكيف لا يثقّفون الأقارب ولا يعلّمون الأرحام، ومن المعلوم أنّ بالملازمة يحصل العلم سماعاً وتعليماً وقد قيل: ولد الفقيه نصف فقيه، والمشّاؤون من الفلاسفة مشوا في ركاب أرسطو كما أنّ الرواقيّين منهم لازموا رواقه فأمتاز الفريقان في فنّ الفلسفة وشهر الجمعان بالحكمة.
فكيف لا يمتاز العبّاس الأكبر (ع) وهو خرّيج كلّية الحقائق وتلميذ أساتذة الحقّ وجهابذة الملّة وفطاحل علماء الشريعة المقدسة، ومن تخرّج من تلك المدراس الروحانية العرفانية وجعل في الصفّ المقدّم من صفوف تلك الكلّيّات الراقية فبالحريّ أن يفوز بالنجاح وأن يحصل له الامتياز على من عدى أساتذته العظماء وأساتذة علماء الأُمة قاطبة ومعلّمي علماء الإسلام عامّة الفنون.
وقد أقام عمر بن الخطّاب، عليّ بن أبي طالب مقام الاُستاذ وأقام نفسه مقام التلميذ وهو السلطان والخليفة ورجع إلى قوله رجوع أصاغر الطلاّب إلى رأي المعلّم الأكبر ورأس المدرّسين وقد صرّح مراراّ عديدة في مقالات شتّى تختلف لفظاً وتتّفق معنى؛ فمرّة يقول: لا عشت لزمان لا أراك فيه يا أبا الحسن، ومرّة يقول: أطال الله بقاك، ومرة يقول: معظلة ولا أبو حسن لها، ومرّة يقول: لولا عليّ لهلك عمر، ومرة يقول: لمن أنكر حكم عليّ (ع): وقعت عليك عين الله من حرم الله، ومرّة يقول: أقضانا عليّ، هذه المقالات تكرّرت من الخليفة عمر بن الخطّاب.
كما شاع قول عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله (ص): العلماء ثلاثة: عالم بالشام وعالم بالعراق وعالم بالمدينة يعني نفسه وابا الدرداء وعليّاً (ع) وهو عالم المدينة. ثمّ يقول: وعالم الشام والعراق محتاجان إلى عالم المدينة وهو مستغن عنهما. وكما شاع قول عبد الله بن عبّاس حبر الأُمّة: علمي وعلم جميع أصحاب محمّد (ص) في جنب علم عليّ (ع) كالقرارة في المثعنجر.
والعبّاس الأكبر أبوه الأنزع البطين الذي قال فيه ابن الأثير في النهاية: الأنزع من الشرك، البطين من العلم، وقد قال فيه رسول الله (ص): أنا مدينة العلم وعليّ بابها، وقال هو (ع) عن نفسه: هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله (ص) يعني صدره الشريف، علّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم يفتح لي من كلّ باب ألف باب.
وكيف لا ينخرط في سلك العلماء من هذا أبوه وأخوه الحسن والحسين (ع) وإنّهما أفاضا شؤبوباً واحداً من علومهما على أخيهما محمّد الأكبر بن الحنفيّة فأصبح من جهابذة العلماء ولم يلازمهما ملازمة العبّاس وإن لازمها أكثر من غيره عدي العبّاس الشهيد فإنّه أكثر منه ملازمة لهما وأعظم مواضبة فلا شكّ أنّه الوحيد في الفقاهة والعلم.
ولعلّ الجاهل بحقائق الأشياء يتطرّقة التشكيك في أنّ العبّاس الأكبر (ع) لو كان فقيهاّ عالماً لاشتهر بذلك شهرة أخية محمّد بن الحنفيّة وعدّ في صفّ علماء الهاشميّين وهذه تخيّلات وأوهام، لم يشتهر محمّد بن الحنفيّة في حياة أبيه وأخويه الحسن والحسين (ع):
*ومن ورد البحر أستقلّ السواقيا*
كلاّ لا ترد الناس السواقي والبحار طامية ولا تحتسسي الأوشال والأنهار طافحة فلمّا جفت تلك الأنهار ونضبت تلك البحار وبقي الجدول جاريا ورده الوارد وأستقى منه الظمئآن؛ فمحمّد الأكبر والعبّاس الأكبر في حياة أبيهما وأخويهما سواء في عدم الشهرة العلميّة ولو بقي العبّاس الأكبر وبقاء محمّد بن الحنفيّة لرزق في العلم صيتاً ونال شهرة ولسارت بمعارفه الركبان لكن:
عجّل الخسوف عليه قبل أوانه
فمحاه قبل مظنّة الأبدار
وقد كان أبو الفضل العبّاس معروفاً بالعلم فهذا لاحافظ العسقلانيّ الشافعيّ يصرّح في كتاب الإصابة فيمن روى عن أمير المؤمنين عليّ (ع) من أعلام الصحابة وأعيان التابعين ثمّ يقول: ومن بقيّة التابعين عدد كثير من أجلّهم أولاده محمّد بن عمر والعبّاس ألخ ومحمد هو أبن الحنفية وعمر هو الأطرف.
على أنّ العبّاس (ع) قد صردت منه اُمور يوم الطفّ دلّت على وفور علمه كنفضه الماء من يده تأسّياً بالإمام الحسين (ع) وإيثاره له كما سنذكره في الإيثار والمواسات وهذه مسألة فقهيّة وهي أنّ الإيثار راجح شرعاً لورود الأدلّة السمعيّة من الآيات والروايات وما دلّت عليه الأدلّة السمعيّة فهو راجح شرعاً فهذه من مسائل الفقه وما صدرت منه تلك الفعلة الحميدة على جهة الفطرة والبداهة بل على جهة الأختيار للمحبوب المطلوب شرعاً.
وكقوله (ع) في خطاباته الموجّهة تجاه أخيه الحسين (ع) كما يجيء في آدابه نحو قوله ((سيّدي يابن رسول الله (ص)) ولم يخاطبه بأخي لعلمه أنّ مرتبة الإمامة فوق كلّ مرتبة ومهما كان الأخ فلا ينبغي أن ينزل نفسه للإمام إلاّ منزلة العبد فيخاطبه خطاب المملوك للمولى بسيّدي، والمخاطبة بالاُخوّة دليل المكافأة ولا يكافئ الإمامة شيء كالنبوّة وهذا من الفقة في الدين والأدب الراقي وتفخيم ذي الشأن مستحبّ شرعاً ومطلوب عقلاً.
قال أبو حاتم السجستانيّ في كتاب المعمّرين(1): قال معاوية: إنّي لاُحبّ أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سنّ وقد رأى الناس يخبرنا عمّا رأى، فقال بعض جلسائه: ذاك رجل بحضر موت، فأرسل إليه فاُتي به عليك من السنّ؟ قال: 360 سنة، قال: كذبت ثمّ تشاغل عنه ثمّ أقبل عليه فقال: ما أسمك؟ قال: آمد، قال: أبن من؟ قال: أبن أبد، قال: كم أتى عليك من السنّ؟ قال: 360 سنة، قال: فأخبرنا عمّا رأيت من الأزمان أين زماننا هذا من ذاك؟ فقال: كيف تسأل من تكذّب؟! قال: ما كذّبتك ولكن أحببت أن أعلم كيف عقلك.
قال: يوم شبيه بيوم، وليلة شبيهة بليلة، يموت ميّت ويولد مولود فلولا من يموت لم تسعهم الأرض، ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الارض.
قال: فأخبرني هل رأيت هاشماً؟ قال: نعم رأيته طوالاً حسن الوجه يقال إنّ في عينيه برلة أو غرّة بركة.
قال: فهل رأيت اُمية؟ قال: نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى يقال إنّ في وجهه لشراً أو شؤماً.
قال: فهل رأيت محمّداً؟
قال: ومن محمّد؟
قال: رسول الله.
قال: ويحك هلاً فخّمت كما فخّمه الله فقلت رسول الله، ألخ.
وليس أبو الفضل (ع) ممّن يجهل واجب تفخيم الإمام عقلاً وأحترامه تديّناً.
للمؤلّف:
ألا أنّ عبّاس بن حيدر عالم
يواجب دين الله والراجح الشرعيّ
يعظّم أرباب الإمامة موفياً
لهم حقّهم في الأصل للحقّ والفرع
وكقوله (ع) لأخوته الأشقّاء الذين هم من اُمه اُمّ البنين: تقدّموا يابني اُمّي لأحتسبكم فإنه لا ولد لكم، وهذا القول منه (ع) مشهور رواه عامّة أرباب المقاتل وأختلفوا في ضبط العبارة، فالطبريّ المؤرّخ هذا لفظه في تاريخه (2)قال: وزعموا أنّ العبّاس بن عليّ قال لإخوته من ابيه واُمه عبد الله وجعفر وعثمان: يابني اُمّي! تقدّموا حتّى أرثكم فإنّ لا ولد لكم ففعلوا فقتلوا ألخ.
وهذا في ظنّي تصحيف والأصل حتّى أراكم فصحّفه الراوي بإرثكم.
وأمّا أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوريّ فلفظه في الأخبار الطوال(3): ولمّا رأى ذلك العبّاس قال لإخوته عبد الله وجعفر وعثمان بني عليّ عليهم والسلام واُمهّم جميعاً اُمّ البنين العامريّة الوحيديّة: تقدّموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه فتقدّموا جميعاً فضاربوا أمام الحسين (ع) بوجوههم ونحورهم ألخ.
وأمّا أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصبهانيّ فلفظه في مقاتل الطالبيّين عن الضحّاك المشرقيّ قال: قال العبّاس أبن عليّ لأخيه من أبيه واُمّه عبد الله بن علي: تقدّم بين يدي حتّى أراك وأحتسبك فإنّه لا ولد لك فتقدّم بين يديه ألخ.
ومثله ذكر في أخويه عثمان وجعفر.
وأمّا الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان فلفظه في كتاب الإرشاد: فلمّا رآى العبّاس بن عليّ (ع) كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من اُمّه وهم عبد الله وجعفر وعثمان: يابني اُمّي! تقدّموا أمامي حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فإنّه لا ولد لكم ألخ، وهذا بعينه لفظ الشيخ المحقّق جعفر بن نما الحلّيّ في مثير الأحزان.
وينتج من جيمع هذه الأقوال ثلاثة اُمور كلّها تدلّ على فقاهته وعلمه:
الأوّل: قوله ((تقدّموا لأراكم قد نصحتم لله ولرسوله)) ألخ، جهة الفقاهة في هذا إنّه (ع) قد علم أنّ أفضل الجهاد ما كان بالنفس والنفيس، أمّا نفسه فعازم على بذلها لأخيه الحسين (ع) وهو واثق بذلك من نفسه، وأمّا النفس وليس لديه هناك أنفس من إخوته الأشقّاء فأحبّ أن يقدّمهم ويكون قد بذل في الجهاد نفسه ونفسيه ولا شكّ بتضاعف الأجر على ذلك وحسبك بقًصة الخنساء وحثّها أولادها الأربعة على الجهاد يوم القادسية فقتلوا جميعاً، وأطلب قصًتهم من التاريخ وأرجازهم تشهد لما نقول، ويتفرّع على مسألة تقديم العبّاس (ع) لإخوته من الفروع الفقهيّة ما خفي على كثير من مهرة الفنّ وأساتذة الصنعة مثل مسألة الشكر على النعمة.
والعبّاس (ع) يرى من أتمّ نعم الله عليه وأفضلها عنده الشهادة في سبيله ومن إتمامها أن يرزقها الله تعالى لإخوته الذين هم أعزّ ما لديه من حاضري إخوته بعد الحسين (ع) فإذا تفضّل الله عليهم بالشهادة ورزقهم إيّاها فقد أسعدهم وأنالهم كرامته فوجب عليه الشكر الذي يجب عقلاً وشرعاً عند تجدّد كلّ نعمة إذ شكر المنعم واجب بالإدلّة العقليّة والنقليّة.
الثاني: الاحتساب فقوله (ع) ((تقدّموا لأحتسبكم)) (4) وفي هذا الاحتساب يتضاعف الأجر لعلمه أنّه إذا توالت الفوادح وتواترت المصائب وصبر عليها الصابر محتسباً فقد تضاعف أجره عند الله ولا إشكال أنّه إذا شاهد مصارع إخوته الأشقّاء واحداً بعد واحد فقد تضاعف له العناء والأسف ولو أنّهم قتلوا قتلة واحدة كان لها حكم المصيبة والواحدة ولكن المصائب تتعدّد بقتل الواحدة تلوا الواحد فتتضاعف لذلك الأحزان، ومن فروع هذه المسألة الفقهيّة مسألة الصبر فإنّ الذي يبتلى بفقد الأعزّاء وأنفس الأشياء وأغلاهاعنده ثمّ يصبر ويحتسب يكون له الأجر المضاعف ويجزيه الله تعالى أفضل جزاء الصابرين وقد حصل لأبي الفضل العبّاس (ع) في هذه القتلة ثلاثة أشياء توجب الكرامة ومزيد الحباء عند الله تعالى: الشهادة والشكر والصبر، وهذا من عجيب الفقه الذي يتحرّاه الفقيه العليم في مثل ذلك الموقف الحرج والمقام الصعب ذي الأهوال والتهاويل الذي طارت منه الأذهان وأندهشت فيه الفكر وحارت الألباب.
علم العبّاس (ع) بالعرفانّيات:
أمّا علمه بعلم المعقول فله يد في العرفانيّات وقد دلّنا منظومه على مقدرته العرفانيّة ومنزلته في علم المعقول وقد تحقّق لدينا أنّ مرتبته في هذا الفنّ هي المرتبة الراقية والمنزلة السامية وذلك حيث يقول:
فليس هذا من فعال ديني
ولا فعال صادق اليقين
وهذا القول منه يدلّ دلالة قويّة على كونه من علماء الفلسفة الماهرين وأساطين الحكمة القديرين لأنّ مراتب المعرفة بوجود الحقّ باري الخلق والسلوك إلى ربّ الارباب له خمسة مراتب مترتّبة طولاً حسبما رتّبها سيّد المتألّهين وإمام الحكماء الموحّدين أبوه أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب (ع) وهي: 1) اليقين 2)علم اليقين 3)عين اليقين 4) حقّ اليقين وهو صدق اليقين 5)الوصول، وهذه المرتبة الخامسة كما سنذكر قوله (ع) لا يصل إليها خلق سوى محمّد (ص) وأهل العزم وأوصياء محمّد (ص) فقد تكون لبعض العارفين الرتبة الاُولى وهي اليقين ثمّ لا يتجاوزها، وقد تحصل لبعضهم الرتبة الثانية وهي علم اليقين ثمّ لا يعدوها، وقد تحصل لبعضهم الرتبة الثالثة وهي عين اليقين، وقد تتكامل في بعضهم المعرفة فيصل إلى الدرجة الرابعة، وهي حقّ اليقين أو صدق اليقين وهذا قليل، والأوحديّ الماهر من وصلها وقد أنتهت معرفة أبي الفضل العبّاس (ع) لصفاء نفسه وإضاءة أنوار عقله إليها، ومن جهة تحصيله العلميّ من وجهتي النظر والتفكير وتقليلداً لأئمّة الهدى الذين لهم كمال المعرفة والعلم بما وراء الحقيقة كأنّهم قد عاينوا معاينة وشاهدوا مشاهدة.
وأولئك هم أبوه سيّد العارفين بعد رسول الله (ص) وأخواه الحسن والحسين (ع)، وحقّ اليقين هو صدق اليقين فإنّ من لم يصب حقّ اليقين فليس بصادق اليقين فمن صفت نفسه الشفافة وأستضاء بأنوار عقله الهادي المدرك للمحجباة وأستند في إشاراته إلى مكاشفات المكاشفين من أئمّة الدين الذين عصموا من الزلل وأختصّوا بوحي الله تعالى وإيحائه ومنحهم خاصّة فضيلة الإلهام وفطرهم على إصابة الحقائق لما ركّب فيهم من قوّة الحدس فلا شكّ في وصول تابعهم والمقتدي لهم إلى درجة صدق اليقين.
وقد أستبان أنّ أبا الفضل العباس (ع) في أرقى درجة اليقين العرفانيّ التي لا يمكن أن يتجاوزها إلاً من كان معصوماً بالعصمة الإلهيّة التي هي حقيقة النبوّة والإمامة فيصدق قوله (ع):
فليس هذا من فعال ديني
ولا فعال صادق اليقين
بالإقبال بكلّيّته على مواجهة ربّ الأرباب والمجاورة له في دار البقاء والتخلّي عن هذه الدار الفانية ذات الأكدار والشواغل الكثيرة الموجبة لحجب المريد عن مواصلة المراد والحائل بينه وبين التجلّيّات الحقيقيّة، فإذا قطع هذه العلائق الدنيويّة فهو صادق اليقين في الشوق المشتغرق به من عشق الذات التي جلّت عن مثل هذه الإطلاقات ودنى منها بإخلاص التوحيد دنوّ الواجد المتفاني في محبّة مراده الأعظم وليست علوم أهل البيت (ع) بمكتسبة ومحصّلة بدراسة المصنّفات وقراءة المؤلّفات وإنّما هي منح ربّانيّة وإضافات إلهيّة يفيضها عليهم واهب العقول وصاحب المواهب العالية منذ عهد الطفوليّة.
ومن تبحّر في معاني تلك الأذواق العجيبة تحيّر وأذهله الأمر عن التفكير، فهذا أبو الفضل العبّاس (ع) يحدّثنا عنه أخطب خوارزم الحنفيّ في مقتله بما لفظه: قيل: كان العبّاس (ع) الذي يسمّى السقاء يوم كربلاء وزينب ولدا عليّ (ع) صغيرين وكانا عند أبيهما العبّاس (ع) عن يمينه وزينب عن شماله، فألتفت إلى العبّاس (ع) وقال: قل واحد، فقالها، فقال: قل أثنين، فقال: إنّي أستحي أن أقول أثنين باللسان الذي قلت به واحد، فقبّل بين عينيه وألتفت إلى زينب فقالت له زينب: يا أبتاه! أتحبّنا؟ قال: نعم أولادنا أكبادنا، فقالت: يا أبتاه حبّان لا يجتمعان في قلب مؤمن حبّ الله الأولاد فإن كان لابدّ فالشفقة لنا والحبّ لله خالصاً، فأزداد لهما حبّاً وقيل: بل القائل الحسين (ع) ألخ.
وتعجب كيف أدرك وهو طفل أنّ الواحد لا يثنّى لأنّ التثنية شرك والحدانيّة إخلاص وهذه مسألة غامضة عويصة زلّ فيها الكبار من العقلاء المفكّرين وأبو الفضل في سنّ الطفوليّة يدرك بفطنته أنّ الواحد قائم بذاته لا يثنّى وإذا كانت هذه مقدرته الحكميّة وهو طفل فطيم فكيف لا يدرك بفطنته وهو في سنّ الرشد والأكتمال درجة صدق اليقين العرفانيّة التي أعيت معرفتها على جماعة من علماء الناس.
للمؤلّف:
الله قد منح العبّاس مقدرة
وفطنة زلّ عنها فكر سقراط
أصاب وهو صبّي في تفكّره
وكم حكيم كبير فكره خاطي
مقتبس من كتاب (بطل العلقمي) للعلامة الشيخ عبدالواحد المظفر