فكان لهذه المسؤولية التي ألقيت على عاتقها في تلك السن المبكرة, أن أصبحت أنضج ادراكاً وأرهف حساً, فبدت في بيت أبيها الامام علي عليه السلام ذات مكانة أكبر من سنها, صقلتها الأحداث وهيأتها لأن تشغل مكان أمها الراحلة الكريمة, فكانت للسبطين الكريمين وشقيقتيها أم كلثوم ورقية, أماً لا تنقصها عاطفة الأمومة بكل ما فيها من حنو وايثار, وان كان ينقصها التجربة والاختبار.
وما أن أينعت السيدة العقيلة الطاهرة وشبت وجاوزت حد الصغر, حتى طلب زواجها الكثيرون من أعظم بيوتات المسلمين, وكان من بينهم عبد الله بن جعفر, فقبل الامام علي عليه السلام أن يزوجها من عبد الله بن جعفر, فهو ابن شقيقه جعفر بن أبي طالب, أحد السابقين الى الاسلام.
وقد كان عبد الله بن جعفر كريماً جواداً سخياً, وكان يقال له قطب السخاء, وبحر الجود, اذ كان من أوائل الأجواد في الاسلام. وكان من ايسر بني هاشم وأغناهم.
ولقد كان لعبد الله بن جعفر من السؤدد والمجد والفصاحة والبلاغة, ما لم يكن لكثيرين غيره.
فكانت السيدة العقيلة زينب مع زوجها عبد الله بن جعفر أكمل سيدة ضمتها أسعد دار وأهنأ بيت.
وقد خلف عبد الله بن جعفر من السيدة العقيلة زينب عليها السلام : علياً, ومحمداً, وعوناً الاكبر, وعباساً, وأم كلثوم على المشهور.
واما عون الاكبر ومحمد فهما من شهداء الطف قتل في حملة آل ابي طالب وهما مدفونان مع آل ابي طالب بكربلاء.
بطلة كربلاء والشام
لما استشهد الامام الحسين عليه السلام ومن حوله من بني هاشم واصحابه اقتحم السفلة من جند ابن زياد, وما أكثرهم, فسطاط نساء اهل البيت وصاحباتهن, وأعملوا فيه سلبا ونهبا وحرقا, غير مكترثين بحرمة الموت الذي يحيط بالنساء والأطفال من كل جانب, فأظهروا من القسوة والغلظة في معاملتهن ما لم يعرف من قبل في مثل هذه المواقف المؤلمة.
وبعد أن قضوا أربهم, وأتموا سلبهم ونهبهم, وأحرقوا الخيام بما بقي فيه من متاع لم يستطيعوا حمله معهم, ساقوا أسراهم وسباياهم من الأطفال والنساء, وكان فيهم ولدان للامام الحسن بن علي عليه السلام استصغر الأعداء شأنهما وسنهما فتركوهما دون أن يقتلوهما, كما كان فيهم كذلك زين العابدين علي ابن الحسين عليه السلام وكان مريضا في حجر عمته العقيلة السيدة زينب عليها السلام وقد اراد الأعداء قتله, لولا أن أنقذته عمته بعد أن عرضت نفسها للقتل دونه.
حملت السيدة العقيلة زينب ومن معها على أقتاب الجمال بغير غطاء, فمرت على مصارع الشهداء, ووقعت أبصار النساء والأطفال على أبشع منظر, فكان لذلك أثره العميق في النفوس, اذ كانت الأرض مغطاة بجثث الشهداء الابرار, محزوزة الرؤوس, وقد ارتوت رمال الصحراء من دمائهم, وتسفي عليها الرياح, وتطير في الفضاء القريب منهم الطيور الجارحة كأنها تريد أن تنقض على لقمة سائغة ووليمة حافلة, فضلا عن الوحوش الكاسرة التي كانت تنتظر هبوط الليل لتخرج من جحورها لتشترك بنصيب في هذه الوليمة. كان لهذا كله أثره البالغ على العقيلة السيدة زينب عليها السلام ، فنفذ صبرها ولم تتمالك نفسها أمام ما ترى من هول وبشاعة، فنادت بصوت حزين وقلب يتفتت حسرة وألماً:
ـ"يا محمداه, صلى عليك مليك السماء, هذا حسين بالعراء, مقطع الاعضاء, وبناتك سبايا, الى الله المشتكى, والى محمد المصطفى, والى على المرتضى, والى فاطمة الزهراء, والى حمزة سيد الشهداء". "يا محمداه, هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا, قتيل أولاد البغايا, واحزناه, واكرباه عليك يا أبا عبد الله, اليوم مات جدي رسول الله, يا أصحاب محمداه, هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا, وهذا حسين محزوز الرأس من القفا, مسلوب العمامة والردا, بأبي من أضحى معسكره يوم الاثنين نهبا, بأبي من فسطاطه مقطع العرى, بأبي من لا غائب فيرجى, ولا جريح فيداوى, بأبي من نفسي له الفدا, بأبي المهموم حتى قضى, بأبي من جده محمد المصطفى, بأبي خديجة الكبرى, بأبي على المرتضى, بأبي فاطمة الزهراء, بأبي من ردت عليه الشمس حتى صلى". ولقد صورت العقيلة السيدة زينب عليها السلام, بكلامها الفصيح وبلاغتها الفائقة, الموقف الذي مر عليه الركب, أبلغ تصوير.
ولذلك أبكت ألفاظها التي صدرت من قلب جريح كسير, كل عدو وصديق, وكان لكلامها هذا, أعظم الأثر في الاحساس بفداحة ما أقدم عليه القوم من فعلة شنعاء, والشعور بعظم الخسارة التي لا تعوض. ولما أقبل الركب على الكوفة, تتقدمه السبايا والرؤوس المقطعة, في نحو اربعين جملا, كان زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام على بعير بغير غطاء, وفي حالة يرثي لها من الضعف والمرض, ومن الحزن على ما أصاب أهل البيت النبوي الكريم وعلى رأسهم والده الحبيب. واذا اتوا برأس الامام الحسين, والرمح تلعب بها يمينا ويسارا, فالتفتت السيدة العقيلة زينب فرأت رأس أخيها الشهيد, فأنت له أنة شديدة موجعة, وأومأت اليه بحرقة, وجعلت تقول:
يا هلالا لما استتم كمالا
غاله خسفه فأبدى غروبا
ان ربا كفاك ما كان بالأمس
سيكفيك في غد ما يكون
فادرأ الهم ما استطعت
عن النفس فحملانك الهموم جنون
كان هذا مقدرا مكتوبا
ثم أشارت عليها السلام الى الناس, فسكتت أصواتهم, وطارت نفوسهم خشية من جلال الموقف ورهبته, وأخذت تخاطبهم قائلة:
ـ"الحمد لله, والصلاة والسلام على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار, أما بعد, يا أهل الكوفة, يا أهل الختل, والغدر, أتبكون, فلا رقأت الدمعة, ولا هدأت الرنة, انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم, ألا وهل فيكم الا الصلف والنطف والكذب والشنف وملك الاماء وغمز الأعداء, أو كرعي على دمنة , أو كغضة ملحودة, ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون وتنتحبون, اي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا, فقد ذهبتم بعارها وشنارها, ولن ترحضوها بغسل أبدا, وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة, ومعدن الرسالة مدرة حجتكم ومنار محجتكم, وملاذ خيرتكم, ومفزع نازلتكم, وسيد شباب أهل الجنة, ألا ساء ما تزرون."
"فتعسا ونكسا وبعدا لكم وسحقا, فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة, وضربت عليكم الذلة والمسكنة, ويلكم يا أهل الكوفة, أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم, وأي كريمة له أبرزتم, وأي دم له سفكتم, وأي حرمة له انتهكتم, لقد جئتم شيئا ادا, تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الارض وملء السماء, أفعجبتم ان مطرت السماء دما, ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون. فلا يستخفنكم المهل, فانه لا يحفزه البدار, ولا يخاف فوت الثار, وان ربكم لبالمرصاد".
أدهش خطابها البليغ الذي تدفق من لسانها كسيل حطة جلمود صخر من عل, هؤلاء القوم وأثر فيهم, وأيقظ أفئدتهم, وأظهر لهم شنيع جرمهم, فأخذوا وقد أدركوا فجيعة فاجعتهم وعظيم جنايتهم في حق الاسلام والمسلمين, فلا يدرون ما يصنعون. ولما أدخل أهل البيت النبوي الكريم ومن معهم الى حيث اللعين عبيد الله بن زياد والي الكوفة من قبل يزيد بن معاوية, والذي كان حربا على أهل البيت عليهم السلام, لكرهه الشديد للامام الحسين لما ادخلوا الى هذا المكان, تذكرت السيدة العقيلة عليها السلام تلك القاعة التي يجلس فيها قاتل أخيها وأهلها وأنصارهم, بعد أن كان يجلس فيها ـ من قبل ـ أبوها أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.
دخلتها السيدة العقيلة زينب هذه المرة, وقلبها متصدع من الحزن والأسى من أثر ما مر بها من أحداث جسام شهدتها بعيني رأسها ولمستها بأيديها عن كثب, ولكنها لاذت بكل كبريائها وعزة نفسها وكرامة محتدها, واعتزت بعلو حسبها ونسبها الشريفين, والتفت بجلال النبوة، وجلست, بعد أن كانت قد لبست أبلى ثيابها وأرذلها متنكرة فيها, منتحية ناحية من القاعة تحف بها اماؤها.
فنظر اللعين ابن زياد الى الحاضرين أمامه وتفحص كلا منهم بنظرة, ثم تساءل عن هذه المنحازة وحدها ومعها نساؤها وهي شامخة الرأس عالية, فلم تجبه العقيلة السيدة زينب, فأعاد تساؤله ثلاثا دون ان ترد عليه, فقال بعض امائها, هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله, وبنت الامام علي عليه السلام, فقال متشفيا فيها:
ـ الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.
فردت عليه العقيلة السيدة زينب عليها السلام بكل اباء وشمم وترفع:
ـ الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا من الرجس تطهيرا, انما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق وهوغيرنا.
فلم يصبر اللعين بن زياد على قولها, بل رد عليها قائلا:
ـ كيف رأيت صنع الله في أهل بيتك وأخيك؟
وهنا تتجلى كل معاني الايمان والصبر والشجاعة, فترد عليه بقولها:
ـ ما رأيت الا خيرا, هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم, وسيجمع الله بينك ويبنهم فتحاج وتخاصم, فانظر لمن الفلج يومئذ, ثكلتك امك يا ابن مرجانة.
فأثار هذا الرد الحازم الحاسم حفيظة اللعين ابن زياد واستشاط غيظا وغضبا, فقال له عمرو بن حريث:
ـ أصلح الله الأمير, انما هي امرأة, وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها, انها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل.
ولكن اللعين ابن زياد ظل غاضبا محنقا, فرد على السيدة الطاهرة بقوله:
ـ لقد شفي الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك, فقالت له:
ـ لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي, فان كان في هذا شفاؤك فلقد اشتفيت.
فرد عليها اللعين ابن زياد قائلا:
ـ هذه سجاعة, ولعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا, فقالت:
ـ يا ابن زياد, ما للمرأة والسجاعة, وان لي السجاعة لشغلا, واني لأعجب ممن يشتفي بقتل أئمته, ويعلم أنهم منتقمون منه في آخرته.
أثار هذا النقاش الصريح بين العقيلة الطاهرة السيدة زينب عليها السلام وبين اللعين ابن زياد, غيرة زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام على عمته العقيلة, فانبرى صائحا بابن زياد:
ـ الى كم تهتك عمتي بين من يعرفها ومن لا يعرفها؟
فالتفت اليه ابن زياد وقال:
ـ من أنت؟ فرد عليه في حزم وثبات:
ـ أنا علي بن الحسين. قال ابن زياد:
ـ أليس الله قتل عليا بن الحسين؟ قال علي:
ـ كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس بأسيافهم. فرد اللعين عليه:
ـ بل قتله الله.
وهنا تتجلى مرة أخرى, قوة ايمان أهل البيت وشجاعتهم, عندما رد زين العابدين بقوله:
ـ الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها....
فيسأله ابن زياد عليه اللعنة في دهشة وغضب:
ـ أو بك جرأة على جوابي, وفيك بقية للرد؟
وصاح بغلمانه أن ينظروا هل أدرك, اني لأحسبه رجلا.
فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري, وقال:
ـ نعم, قد أدرك, قال:
ـ اقتله. فقال علي:
ـ من توكل بهذه النسوة؟
فتعلقت العقيلة السيدة زينب عليها السلام بزين العابدين علي عليه السلام وقالت:
ـ يا ابن زياد حسبك من دمائنا ما ارتويت وسفكت, وهل أبقيت أحدا غير هذا؟ والله لا أفارقه, فان قتلته فاقتلني معه.
وعندئذ قال علي بن الحسين عليه السلام:
ـ اسكتي يا عمة حتى أكلمه.
والتفت الى اللعين ابن زياد وقال:
ـ أبا القتل تهددني؟ أما علمت أن القتل لنا عادة, وكرامتنا من الله الشهادة؟
فنظر ابن زياد اليه والى العقيلة الطاهرة عمته ساعة, ثم قال:
ـ عجبا للرحم, والله اني لأظنها ودت لوأني قتلته أني قتلتها معه, دعوه ينطلق مع نسائه فاني أراه لما به مشغولا.
ثم أمر ابن زياد, عليه اللعنة, برأس الحسين عليه السلام فطافوا به في الكوفة, وكان هذا
الرأس الشريف, أول رأس حمل في الاسلام على خشبة.
دورها في الشام
وأما في الشام: فلما ادخلت هي والأسارى على مجلس يزيد الطاغية, فمن هنا بدأ المشهد الثاني والرهيب, والدور التاريخي العجيب.
فبينما يزيد بن معاوية يكشف عن رؤوس الشهداء, ويثني عابثاً بقضيب في يده ثنايا سيد الشهداء عليه السلام وينشد قائلا:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
الى آخر أقواله التي لا يستطيع الفرد تصورها وكيف أنها خرجت من فم من يدعي انه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبينما يلاحظ ان نساء بني هاشم تصرخ بالبكاء والعويل, يشاهد العقيلة زينب عليها السلام غير باكية ولا متذللة أبدا, بل تنتفض صارخة بوجهه قائلة له في غير مبالاة ولا إهتمام وبكل جرأة وصراحة:
"صدق الله, يا يزيد ـ ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوىء. أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن".
وهنا يتجلى بكل وضوح ذكاء السيدة وعبقريتها. فهي تسمع أبيات يزيد الشعرية وكلماته, فتحفظها أولاً, ثم تستعد للإجابة عليها بصورة دقيقة ودقيقة جداً. بحيث تعد لكل بيت آية جوابية مسكتة مناسبة ترده بها, وتدعم قولها بها, دون تكلف. حتى أسكتت يزيداً ولم ير بدّاً من السكوت والإذعان التام أمام أقوالها البليغة المنطقية المستشهدة بتلك الآيات القرآنية الكريمة. فتصرخ في وجهه قائلة:
"أ ظننت يا يزيد أنه حيث أخذت علينا بأقطار الأرض وآفاق السماء, فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى, ان بنا هواناً على الله, وأن بك عليه كرامة, وتوهمت ان هذا لعظيم خطرك فشمخت بأنفك, ونظرت في عطفيك, جذلان فرحا, حين رأيت الدنيا مستوثقة لك, والأمور متسقة عليك؟ ان الله ان أمهلك فهو قوله: ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين."
ثم تخاطبه بكل جرأة دون أي خوف أو وجل, بكلمة صريحة لم يجرأ أحد غيرها من مخاطبة يزيد بها أبداً, فتقول له:
أمن العدل يا ابن الطلقاء! وتقصد السيدة هنا من كلمة العدل: المساواة والمجاراة, لا العدالة.
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك بناتك وأمهاتك, وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالأسارى, قد هتكت ستورهن وأصلحت أصواتهن, مكتئبات تجري بهن الاباعر وتحدوا بهن الأعادي من بلد الى بلد, لا يراقبن ولا يؤوين, ينظر اليهن القريب والبعيد. ليس معهن قريب من رجالهن؟!
الى أن تقول:
ولتردن على الله وشيكاً موردهم, وعند ذلك تود لو كنت أبكم وأعمى.
أيزيد, والله ما فريت إلا في جلدك, ولا حززت إلا في لحمك, وسترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برغمك. ولتجدن عترته ولحمته من حوله في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم من الشعث.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون.
وستعلم أنت ومن بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين. إذا كان الحكم ربنا والخصم جدنا, وجوارحك شاهدة عليك, أينا شرّ مكاناً وأضعف جنداً؟!!.
فلئن اتخذتنا في هذه الحياة مغنما, لتجدننا عليك مغرما, حين لا تجد إلا ما قدمت يداك تستصرخ بابن مرجانة, عبيد الله بن زياد, ويستصرخ بك, وتتعادى وأتباعك عند الميزان وقد وجدت أفضل زاد تزودت به قتل ذرية محمد صلى الله عليه وآله.
فوالله ما اتقيت غير الله, وما شكوت إلا الله, فكد كيدك, واسع سعيك, وناصب جهدك, فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت الينا أبداً.
فأستطاعت السيدة بهذه الكلمات الصارمة التي نزلت كالصاعقة على يزيد أن تسكته من الكلام وان تجعله يطرق برأسه وكل من كان معه, وكان على رؤوسهم الطير, يضرب الاخماس في الاسداس ويفكر فيما يفعل وماذا يعمل؟
وقد ضيقت على يزيد الأمر وهوعلى عرش أمارته, وكرسي عظمته, وهي أسيرة بين يديه.
مسيرتها الى المدينة ومصر
دخل ركب أهل البيت النبوي الكريم المدينة عائدين من الشام, فزار علي بن الحسين عليه السلام قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم خطب الناس وأخبرهم عما جرى لآل الرسول, ثم دخل منزله وهو شديد الحزن على ما أصاب اهل البيت, وبكى بكاء شديدا, بل ظل يبكي على هذا الحادث سنين طويلة.
اما العقيلة الطاهرة السيدة زينب عليها السلام فقد تجلي حزنها لما دخلت المدينة المنورة, وذلك عندما أخذت بعضادتي باب مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعيناها تسيل بالدموع باكية منتحبة وتنادي:
ـ يا جداه اني ناعية اليك أخي الحسين.
وما ان استقر المقام بها بالمدينة المنورة, حتى أخذت تنتبر المنابر, تخطب الجماعات مظهرة عدوان يزيد بن معاوية وبغي عبيد الله بن زياد وطغيان أعوانهما على أهل البيت النبوي الكريم. فأثارت الثائرة, وهيجت الخواطر والمشاعر, وألهبت الجماهير على حزب الشر, وذلك من قوة بيانها وجزيل بلاغتها, مما جعل عمرو بن سعيد والي المدينة من قبل يزيد, يستنجد به خوفا على ولايته من غضبه الناس, اذا ظلت السيدة العقيلة زينب تخطب الناس وتثير حماستهم.
ولذلك امر يزيد بن معاوية, بأن تغادر السيدة الطاهرة, المدينة الى حيث تشاء من أرض الله غير الحرمين الشريفين.
وقد عز عليها تنفيذ ذلك الأمر, وأبت عنه.
فاجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام وواسينها حتى قبلت الرحيل عن أرض الحجاز.
وقد اختارت السيدة العقيلة زينب عليها السلام مصر دارا لاقامتها, لما سمعته عن أهلها من محبتهم لأهل البيت النبوي الكريم, وعظيم عطفهم ومودتهم وولائهم لذوي القربى, ولما تعرفه من أن مصر كنانة الله في أرضه.
وقد صحب السيدة الكريمة في مجيئها الى مصر بعض أهل البيت الكرام. وكان فيمن صحبها من أهل البيت النبوي الكريم ـ كما يروي البعض ـ السيدة فاطمة ابنة مولانا الامام الحسين ومسجدها معروف بالقاهرة باسم مسجد السيدة فاطمة النبوية, وكذلك السيدة سكينة ابنة مولانا الامام الحسين عليه السلام ومسجدها معروف بالقاهرة كذلك باسمها.
وقد وافق دخول السيدة الطاهرة مصر, بزوغ هلال شعبان سنة احدى وستين هجرية.
وقد انزلها الوالي هي ومن معها في داره بالحمراء القصوي ترويحا لها, اذ كانت تشكو ضعفا من أثر ما مر بها, فنزلت بتلك الدار معززة مكرمة, وبقيت فيها موضع اجلال المصريين وتقديرهم, حيث كانوا يفدون الى منزلها الكريم ملتمسين بركتها ودعواتها, مستمعين الى ما ترويه من الاحاديث النبوية الشريفة والأدب الديني الرفيع.