ينبغي على هذا أن نوضح راي القران في المجتمع وأحداثه وتطوراته قبل البحث في مسألة الانتظار.
ليس ثم شك في أن القرآن الكريم يذكر التاريخ على أنه مصدر للتذكر والتفكر ولتلقي العبرة والدروس. لكن السوال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد يدور حول طبيعة النظرة القرآنية للتاريخ، أهي نظرة فردية أم اجتماعية؟ هل ينطلق القرآن في طرح العبر والدروس من حياة الافراد أم من حياة الجماعات؟ و اذا كان القرآن يتجه في سرده للتاريخ الى حياة الجماعات لا الافراد.. فهل هذا يعني أن القرآن يعتبر المجتمع شخصية مستقلة مدركة، ذات قوة وشعور، ومستقلة عن حياة الافراد؟ و اذا كان جواب السوال الاخير ايجابيا، فهل نستطيع أن نستنبط من القران الكريم السنن والقوانين التي تحكم المجتمعات؟ هذه المواضيع تحتاج الى دراسات وافية وتتطلب تدوين رسالات مستقلة. نستطيع هنا أن نشير بشكل موجز جدا الى أن القرآن ينطلق في قسم من دروسه وعبره - على الاقل - من حياة الامم والجماعات. "تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون" القرآن يطرح مراراً مسألة حياة الامم وآجالها فيقول مثلا: "و لكل أمة أجل فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". القرآن الكريم يرفض بشدة النظرة العبثية الى التاريخ ويشدد على وجود قواعد ثابتة دائمة لمسيرة الامم والجماعات فيقول: "فهل ينظرون الا سنة الاولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا". القرآن يشير الى مسألة تربوية هامة في حقل القوانين التي تحكم التاريخ حين يؤكد أن البشرية هي التي ترسم بيدها مصيرها عن طريق ما تقوم به من أعمال صالحة أم طالحة. وهذا يعني أن النظرية القرآنية تذهب الى أن قوانين المسيرة البشرية ما هي الا سلسلة من ردود الفعل لما تفعله الاقوام والجماعات. من هنا نفهم أن النظرية القرآنية تؤكد على وجود قوانين ونواميس كونية ثابتة لمسيرة التاريخ، كما تؤكد في الوقت ذاته على دور الانسان وحريته واختياره. في القرآن الكريم آيات كثيرة بهذا الصدد، نذكر منها على سبيل المثال الاية 11 من سورة الرعد:
"ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم".
تفسير تكامل التاريخ
المدرسة الفكرية التي تنظر الى المجتمع باعتباره موجوداً ذا شخصية مستقلة وطبيعة خاصة، لها نظرتها المعينة أيضا الى تكامل المجتمع، ولها تفسيرها الخاص لطبيعة المسيرة البشرية ولمسألة التكامل. مربنا أن القران الكريم يؤكد على شخصية المجتمع وواقعيته، كما يؤكد أيضا على الاتجاه الارتقائي التكاملي للمجتمع. و من جهة اخرى نعلم أن ثمة مدارس فكرية اخرى تذهب ايضا الى أن مسيرة البشرية تسير سيرا ارتقائيا تفرضه حتمية التاريخ. من هنا كان لزاما علينا أن نلقي الضوء على الفرق بين النظرة القرآنية في هذا المجال ونظرة بعض المدارس الفكرية الاخرى، وأن نفهم من خلال ذلك دور الانسان ومسؤوليته لنستجلي من ذلك كله طبيعة "الانتظار الكبير" وكيفيته.
طريقتان مختلفتان
تكامل التاريخ يمكن تفسيره بطريقتين مختلفتين: احدى هاتين الطريقتين نطلق عليها اسم التفسير "الالي" والديالكتيكي. و الطريقة الاخرى: التفسير "الانساني" و"الفطري". ومن هاتين الطريقتين المتباينتين لتفسير تكامل التاريخ ينبثق اتجاهات فكريان مختلفان شكلا وماهية. نستعرض فيما يلي هاتين الطريقتين بقدر ما يتعلق الموضوع بمسألة "الانتظار" و"الامل" بالمستقبل لا اكثر.
الطريقة الديالكتيكية والآلية
هذه الطريقة تفسر تكامل التاريخ على أساس الصراع بين النقائض. وأولئك الذين يتخذون من هذه الطريقة وسيلة لتفسير تكامل المسيرة البشرية لا يقتصرون على التاريخ بل يفسرون كل اجزاء الطبيعة على هذا الاساس. نشير فيما يلي بشكل موجز الى التفسير الديالكتيكي للطبيعة بأعتباره أساسا للتفسير الالي للتاريخ. يقوم التفسير الديالكتيكي للطبيعة على الاسس التالية: اولا: الطبيعة في حركة مستمرة ودائمة، وليس فيها ما هو ساكن وثابت، فالنظرة الصحيحة للطبيعة اذن هي أن نرى الاشياء في حالة حركة وتغير دائمين، والفكر هو أيضا متغير باعتباره جزءا من الطبيعة. ثانيا: كل جزء من اجزاء الطبيعة يتأثر باجزاء الطبيعة الاخرى ويؤثر فيها. فهناك ارتباط عام بين جميع الاجزاء، وعلى هذا فالنظرة الى الطبيعة لا تكون صحيحة مالم تدرس جميع الاشياء وهي مرتبطة مع بعضها، لا مفككة ومجزأة. ثالثا: الحركة ناشئة عن صراع النقائض. فكما قال "هرقليطس" اليوناني قبل خمس وعشرين قرنا: الصراع أساس كل تطور. وصراع النقائض يأتي عن طريق اتجاه كل ظاهرة نحو ضدها ونقيضها، وهذه الظاهرة تحمل نقيضها معها. فكل ظاهرة موجودة ومعدومة في آن واحد. لانها تحمل عوامل عدمها وفنائها معها. ومع نمو النقيض يحتدم الصراع بين الظاهرة الاصلية التي نريد الحفاظ على وضعها ووجودها، وبين نقيضها الذي يريد أن يبدلها الى ضدها. رابعا: الصراع بين النقائض داخل الظواهر يزداد شدة باستمرار حتى يبلغ ذروته، أي ان التغيير الكمي يزداد ليبلغ أقصى حد ممكن، وحينئذ تحدث طفرة ثورية في التغييرات الكمية لتتحول الى تغييرات كيفية، وينتهي الصراع لصالح القوى الجديدة، وتندحر القوى القديمة ويتبدل الشيء باجمعه الى نقيضه. فهذه الطريقة لفهم الوجود تتلخص اذن في افتراض قضية اولى وجعلها أصلا وهي ما يطلق عليها اسم "الاطروحه" ثم ينقلب هذا الاصل الى نقيضة وهو "الطباق" بحكم الصراع في المحتوي الداخلي بين المتناقضات، ثم يأتلف النقيضان في وحدة وهي "التركيب". وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلا ونقطة انطلاق جديدة، وهكذا يتكرر هذا التطور الثلاثي وبهذا الشكل تطوي الطبيعة مراحل تكاملها. فالطبيعة ليست هادفة ولا تنشد كمالها، بل تتجه نحو انهدامها، لكن هذا الانهدام يحمل بدوره عنصر انهدامه، وكل نقيض يتجه بدوره نحو نقيضة.. ونفي النفي نوع من التركيب الذي يؤدي الى دفع التاريخ نحو التكامل بشكل حتمي وجبري. والتاريخ جزء من الطبيعه، وهو لذلك يطوي نفس مسيرة الطبيعة على الرغم من أن عناصر المسألة التاريخية هم افراد البشر. أي ان التاريخ تحرك مستمر وارتباط متبادل بين الانسان والطبيعة، والانسان والمجتمع.. وهو مواجهة وجدل دائمان بين المجموعات الانسانية الفتية، والمجموعات التي تتجه نحو الزوال.. وهذه المواجهة تؤدي في نهاية الامر الى حركة حادة ثورية لصالح القوى الفتية النامية. بعبارة أخرى: التاريخ مسرح لصراع الاضداد.. حيث تتجه كل ظاهرة نحو ضدها ثم يتم التكامل على أثر تركيب الاضداد. هذه النظرية تذهب بعد ذلك الى أن العمل الانتاجي هو أساس حياة البشرية والعامل المحرك للتاريخ. فالعمل الاجتماعي في أية مرحلة من مراحل التاريخ يخلق نوعا خاصا من العلاقات الاقتصادية بين الافراد. وهذه العلاقات الاقتصادية تؤدي الى انبثاق مجموعة من العلاقات الاخرى كالعلاقات الخلقية والسياسية والقضائية والعائلية ونظائرها. والعمل الانتاجي لا يتوقف على شكل معين، اذ ان الانسان مزود بقدرة على تطوير وسائل الانتاج، وتكامل وسائل الانتاج يؤدي الى زيادة الانتاج والى خلق جيل جديد يحمل أفكارا جديدة متكاملة.. أي ان هناك تاثيرا متبادلا بين الانسان والاله، الانسان يخلق الآلة، و الالة تخلق الانسان الجديد. ومن جهة أخرى، زيادة الانتاج تؤدي الى ايجاد علاقات اقتصادية جديدة، ومن هذه العلاقات الاقتصادية الجديدة تنبعث مجموعة اخرى من العلاقات الاجتماعيه. وهذا هو المقصود من مقوله: الاقتصاد يشكل البناء التحتي للمجتمع، وكل ما عداه فهو بناء فوقي. أي ان جميع الاوضاع الاجتماعية معلولة للوضع الاقتصادي. وعندما يتغير البناء التحتي على أثر تطور وسائل الانتاج تتغير كل الابنية الفوقية. وفي هذه الحالة تحاول القوى التي ترتبط مصالحها بالوضع الاقتصادي القديم ان تحافظ على هذا الوضع بشكله الموجود، لكن الطبقة الفتية المرتبطة بوسائل الانتاج الجديدة ترى أن مصالحها تقتضي تغير الاوضاع واحلال نظام اقتصادي جديد، ومن هنا تسعى الى تغيير المجتمع وتطويره والى ايجاد نوع من التناسق بين المسائل الاجتماعية من جهة ووسائل الانتاج المتكاملة ومستوى الانتاج الجديد من جهة أخرى. ويستمر الصراع بين الفريقين: فريق رجعي ومرتبط بالماضي، والاخر تقدمي يرتبط بالمستقبل. احدهما: يرى ضرورة بقاء الاوضاع الموجودة من اجل استبقاء وجوده. والاخر: يسعى نحو اجواء جديدة وأوضاع جديدة: أحدهما: يتجه نحو الزوال، والاخر: نحو النمو. ويشتد هذا الصراع ويحتدم ليبلغ ذروته حيث يحدث الانفجار، ويتبدل المجتمع في خطوه ثوريه تبدلا يتمثل بتغير النظام القديم واحلال النظام الجديد وانتصار القوى الجديدة وفشل القوى القديمة. وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل التاريخ، وهذه المرحلة الجديدة تتطور أيضا الى مرحلة جديدة أخرى بنفس الطريقة السابقة. فالتاريخ في مفهوم هذه النظرية يطوي مسيرته عبر الاضداد. وكل مرحلة من مراحل التاريخ تحل في أحشائها المرحلة التالية. وبعد صراع مستمر تترك المرحلة السابقة مكانها للمرحلة التالية. هذا الاتجاه الفكري لتفسير الطبيعة والتاريخ يسمي الاتجاه الديالكتيكي. ولما كان هذا الاتجاه يعتبر كل القيم والاوضاع الاجتماعية في جميع مراحل التاريخ مرتبطة بوسائل الانتاج وتابعة لها، فقد أطلقنا عليه اسم "التفسير الآلي" ومتى ما ذكرنا مصطلح "التفسير الآلي للتاريخ" فاننا نقصد به هذا اللون من التفكير.
العنصر الاساسي
ما هو العنصر الاساسي الذي يمتاز به التفكير الديالكتيكي في حقل التاريخ والطبيعة؟ ما هو الفرق الرئيسي بين هذا الاتجاه وهذا المنطق، والاتجاهات الفكرية والمنطقية الاخرى. ما الذي يميز هذا التفسير للظواهر الطبيعية عن التفسير الذي يطلق عليه ارباب المنطق الديالكتيكي اسم "التفسير الميتافيزيقي"؟ دعاة المنطق الديالكتيكي يتبعون مع الاسف طريقة "الغاية تبرر الوسيلة" في عرض المفاهيم، وهم لذلك يلقون التهم تلو التهم على ما يسمونه بالمنطق الميتافيزيقي، عند اجابتهم على الاسئلة المذكورة. ويقولون أيضا: ان التفكير الديالكتيكي ينظر الى جميع الاشياء باعتبارها متحركة، بينما يعتبر الاتجاه الميتافيزيقي جميع اجزاء الطبيعة ساكنة جامدة. لكن الحقيقة غير ذلك، فأرباب الاتجاه الميتافيزيقي لا ينظرون الاشياء باعتبارها جامدة غير متحركة، بل بالعكس فالبحوث المتعلقة بالطبيعة في الفلسفة الالهية ترى أن السكون في الطبيعة مفهوم نسبي والثبات من خصائص ماوراء الطبيعة. ويقولون ايضا: ان التفكير الديالكتيكي يعتبر الاشياء مرتبطة مع بعضها وذات تاثير متبادل على بعضها. بينما اصحاب ما يسمى بالمنطق الميتافيزيقي ينظرون الى الاشياء مفككة غير مترابطة مع بعضها. وهذا مخالف للواقع، فما يسمونه بالمنطق الميتافيزيقي لا ينظر الى الاشياء باعتبارها منفصلة مفككة عن بعضها. والفلاسفة الالهيون اول من نظر الى أجزاء العالم باعتبارها مرتبطة مع بعضها ارتباطا عضويا، والى العالم على أنه انسان كبير، والى الانسان على أنه عالم صغير، مع فارق في التعبير وطريقة الاستنتاج بين الماديين والالهيين في هذا الصدد. و يقولون كذلك: ان المسألة الاساسية التي تميز التفكير الديالكتيكي عن التفكير الميتافيزيقي هي مسألة التضاد. و يستند هؤلاء الى المبدأ المعروف في المنطق والفلسفة القائل بعدم امكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما ليستنتجوا: أن التفكير الميتافيزيقي يرفض ذي نوع من التناقض وانه يرى جميع أجزاء الطبيعة منسجمة مع بعضها حتى الماء والنار وأن ارباب التفكير الميتافيزيقي يدعون القوي الاجتماعية الكادحة المسحوقة - انطلاقا من رؤيتهم هذه - الى المصالحة والمسالمة "كذا". والحقيقة أن المبدأ المذكور لا علاقة له اطلاقا بمسألة التناقض، وهذا اللون من الاستنتاج تحريف للحقائق.. فاصحاب التفكير الالهي يرون أن التضاد في عناصر الطبيعة شرط لازم لدوام الفيض من الباري تعالى. ويدعون أيضا: أن العنصر الاساسي الذي يمتاز به التفكير الديالكتيكي في حقل التاريخ والطبيعة هو مبدأ قفزات التطور والحركات الثورية في التاريخ. لكن هذا الادعاء مرفوض أيضا لان مسألة قفزات التطور ليست لها أصالة في التفكير الديالكتيكي. هيغل - ابو الديالكتيك - لم يذكر هذا المبدأ ضمن مباديء الديالكتيك، وهكذا كارل ماركس. ظهر مبدأ قفزات التطور خلال القرن التاسع عشر في علم الاحياء وأضافة أنجلس - تلميذ ماركس - الى مباديء الديالكتيك، واليوم يعتبر هذا المبدأ من قوانين علم الاحياء، وليس له ارتباط بأية مدرسة فكرية.
فما هو العنصر الأساسي اذن؟
العنصر الاساسي الذي يمتاز به هذا الاتجاه الفكري عن غيره من الاتجاهات يتلخص بما يلي: قوله بديالكتيكية الفكر: أي ان الفكر الانساني جزء من الطبيعة، وهو بالتالي خاضع لقوانين الديالكتيك الاربعة: "حركة التطور - وتناقضات التطور - وقفزات التطور - والارتباط العام". والاتجاه الديالكتيكي ينفرد في هذا، ولا يشاركه فيه اتجاه آخر. 2 - تحديده للتناقض بالانتقال من الاطروحة الى الطباق ومنه الى التركيب، أي ان الديالكتيك يفهم التناقض بانه ضرورة احتواء كل ظاهرة على ضدها، ثم انتقال تلك الظاهرة الى حالة الضد، وهذه الحالة الجديدة تستمر في التطور على نفس الطريقة، وبذلك فالطبيعة والتاريخ يطويان مسيرتهما عبر الاضداد. والتكامل في رأي الديالكتيك هو اجتماع الضدين في تركيب جديد. مبدأ التناقض قديم، وهو يعني أن أجزاء الطبيعة في حالة صراع بل واحيانا في حالة تركيب مع بعضها. وما أضافة الفكر الديالكتيكي الى هذا المبدأ هو أن الصراع بين المتناقضات لا يقتصر على أجزاء الطبيعة، بل ان كل ظاهرة تربى في أحشائها نقيضها، وتبرز ظاهرة التناقض بالصراع بين العوامل الجديده. هاتان الخاصيتان تشكلان العنصر الاساسي للفارق بين التفكير الديالكتيكي والتفكير غير الديالكتيكي. ومن الخطا - بناء على ما تقدم - اضفاء صفة الديالكتيك على كل مدرسة تؤمن بمبدأي الحركة والتناقض بين أجزاء الطبيعة. لقد حاول البعض وصف الفكر الاسلامي بأنه فكر ديالكتيكي بعد أن شاهدوا مبدا الحركة والتغير والصيرورة وكذلك مبدا التناقض في التراث الاسلامي. والحقيقة غير ذلك، فالفكر الاسلامي يؤمن بوجود حقائق ثابتة خالدة غير قابلة للتغير، وهذا ما لا يؤمن به الفكر الديالكتيكي الذي يعتبر كل ما في الذهن من حقائق عن العالم انما هي مؤقتة ونسبية. اضافة الى ذلك: فالتناقض في التراث الاسلامي يتعارض مع مفهوم التناقض الديالكتيكي الذي يحصر حركة التاريخ والطبيعة بالسير عبر مثلث "الاطروحة والطباق والتركيب" هذا الخطأ ناشيء بالدرجة الاولى من التهريج الذي يعمد اليه كثير من أتباع المادية الديالكتيكية حين يطلقون في احاديثهم اسم الاتجاه الميتافيزيقي على كل اتجاه فكري غير ديالكتيكي، ثم يرشقون هذا الاتجاه الميتافيزيقي بوابل من التهم كعدم الايمان بالحركة وبالارتباط العام وبالتناقض. هذه التهم تطرح ضمن ثرثرة لغوية مسهبة وبعبارات قاطعة حاسمة تدفع بقارئها السطحي الى الايمان بان الحركة والارتباط العام والتناقض مباديء يختص بها الفكر الديالكتيكي وحده لاغير. ومثل هذا القاريء، يتخذ تجاه الفكر الاسلامي احد موقفين خاطئين: اما أن يضع الاسلام باعتباره ديناً سماويا الى صف الافكار الميتافيزيقية "غير الديالكتيكيه" ويخرج بنتيجة سريعة هي: ان الفكر الاسلامي كسائر الافكار الميتافيزيقية يقوم على أساس الثبات والسكون وعدم وجود ارتباط عام بين أجزاء الطبيعة وعدم وجود تناقض بين هذه الاجزاء. واما أن يكون هذا القاريء مطلعا على الفكر الاسلامي وعالما بخلو هذا الفكر مما يتهم به الفكر الميتافيزيقي، بل بوجود مباديء الحركة والارتباط العام والتناقض في الفكر الاسلامي، فيستنتج من ذلك أن التفكير الاسلامي ليس بميتافيزيقي. ولما كان دعاة المادية الديالكتيكية قد أوحوا له أن الاتجاهات الفكرية لتفسير الطبيعة لا تزيد على اثنين: الديالكتيكي والميتافيزيقي، فان مثل هذا القاريء يضفي صفة الديالكتيكية على الفكر الاسلامي. هذه الاخطاء التي يقع فيها القاريء السطحي ناتجة - كما قلنا - عن تساهل دعاة المادية الديالكتيكية في عرض أفكار الاخرين وعن انتهاجهم اسلوب التهريج والقاء التهم بالنسبة للاتجاهات الفكرية غير الديالكتيكية، وحقيقة المسألة - كما ذكرنا - هي غير ذلك.
نتائج الاتجاه الآلي لتفسير التاريخ
1 - مفهوم القديم والجديد:
تعبير القديم والجديد في المنطق الديالكتيكي لاينطلق من تعاقب جيلي، أي لا يعني المجابهة بين الجيل الجديد والجيل القديم. لا يعني أن الجيل الجديد يقف بالضرورة في صفوف الجبهة الثورية، ولا يعني ايضا أن الجيل القديم يقف بالضرورة في الجبهة المحافظة. كما ان هذا المفهوم لا ينطلق من اطار ثقافي، أي انه لا يعني المجابهة بين المثقفين والاميين. بل انه مفهوم اجتماعي واقتصادي بحت.
فالطبقة القديمة هي التي ترتبط مصالحها بالوضع الموجود، والطبقة الجديدة هي الناقمة على الوضع الموجود، وهي التي فرضت عليها وسائل الانتاج الجديدة أن ترى الاوضاع الموجودة معارضة لمصالحها وأن تسعى الى تغيير البناء الفوقي للمجتمع. فالتقدمي في رأي هذا الاتجاه هو نصير تغيير الاوضاع الموجودة وتكامل المجتمع.. والرجعي هو الذي يطالب بالثبات وببقاء الاوضاع الاجتماعية على ما هي عليه. الطبقة المرفهة والمنتفعة من الاوضاع الموجودة هي رجعية جامدة الفكر بالضرورة، لان محتوى التفكير الاجتماعي للافراد يتكون من خلال مكانتهم الطبقية وظروفهم الاقتصادية، وبنفس السبب فالطبقة المسحوقة المستثمرة تقدمية ذات فكر متطور متحرك. وهذه مسألة لا علاقة لها بالمعلومات وبالثقافة. فالحركة الاجتماعية تبدا غالبا من الفئات والطبقات ذات المستوى العلمي الهابط، لكن هذه الفئات مثقفة لمكانتها الطبقيه.
2 - التسلسل المنطقي للتاريخ:
المراحل التاريخية - في المنطق الديالكتيكي - مرتبطة مع بعضها ارتباطا طبيعيا ومنطقيا. وكل حلقة من حلقات التاريخ لها مكانها المعين الخاص، وليس بالامكان أن تتقدم وتتأخر. فالرأسمالية مرحلة تاريخية تتوسط مرحلة الاقطاع والمرحلة الاشتراكية. ومن المستحيل أن ينتقل المجتمع من الاقطاع الى الاشتراكية دون أن يمر بالمرحلة الرأسمالية، فلا طفرة في مراحل التاريخ كما كان يعتقد الفلاسفة الاقدمون. فالطفرة في التاريخ تشبه انتقال نطفة الانسان الى مرحلة الطفولة دون أن تمر في المرحلة الجنينية، وتشبه انتقال الوليد الى مرحلة الشباب دون ان يمر في مرحلة الطفولة. من هنا فاصحاب هذا المنطق يطلقون اسم الاشتراكيين المثاليين على الاشتراكيين الذين ارادوا ان ينطلقوا من ايمانهم بالفكرة الاشتراكية الى تطبيق هذه الاشتراكية دون ان يراعوا جبر التاريخ والتسلسل المنطقي للمراحل التاريخيه. كما سموا اشتراكيتهم بالاشتراكية الطوباوية والخيالية، خلافا للاشتراكيين الماركسيين الذين يقيمون فكرهم على أساس التسلسل المنطقي لحلقات التاريخ.
3 - ذروة كل مرحلة:
ليس من الضروري أن يمر التاريخ في مراحلة المتوالية المرسومة دون طفرة فحسب، بل من الضروري أيضا أن تبلغ كل مرحلة من المراحل الى ذروة كمالها لتتبدل الى مرحلة جديدة اخرى، ولتستمر المسيرة التكاملية. لا بد لمرحلة الاقطاع - مثلا - أن تطوي مسيرتها بالتدريج لتبلغ مرحلة تاريخية معينة يحدث فيها التغيير. وانتظار أية مرحلة مقبلة من مراحل التاريخ دون ان تبلغ المرحلة الراهنة ذروتها كانتظار الولادة قبل ان تطوي النطفة مراحلها الجنينية. وولادة مثل هذه - ان تمت - فهي اجهاض وليست ولادة سليمة.
4 - قدسية النضال:
لما كان الصراع بين القديم والجديد شرطا أساسيا لا نتقال التاريخ من مرحلة الى مرحلة اخرى، وركنا ضروريا من اركان تكامل المجتمع البشري، فالصراع بين القديم والجديد هو نضال مقدس مهما كان لونه. فالقديم يستحق الفناء لا لكونه معتديا.. بل لانه قديم.. ولان زواله يدفع بالمجتمع نحو التكامل. من هنا فقدسية النضال لا تنطلق من كونها دفاعا عن حق وردا لهجوم.
5 - اثارة الفوضى:
نضال الجديد للقديم ليس وحده هو المشروع والمقدس بل كل تحرك يمهد للثورة ويدفع بعجله التكامل مشروع ومقدس أيضا، كاثارة الاضطرابات من اجل خلق الاستياء وتعميق الفجوات وتصعيد النضال. فالتكامل - كما ذكرنا - هو أن ينقلب الضد الى ضده في حركة ثورية سريعة. وطريق هذا التغيير هو الصراع الداخلي للتناقضات. ولا يمكن لهذا التغيير أن يتم دون أن يصل عمق الفجوات وشدة الصراع الى على مرحلة من مراحل تكامله. وكل ما من شأنه ان يوسع الثغور يعمل على الاسراع في تغيير المجتمع من مرحلة الى مرحلة أسمى. ولما كانت عملية اثارة الفوضى والاضطرابات تستطيع أن تنهض بهذا الدور، فهي مشروعه ومقدسه طبقا لهذا المنطق.
6 - الاصلاحات:
من جهة اخرى، الاصلاحات الجانبية والخطوات الرامية الى تسكين آلام المجتمع هي خيانة وتخدير ووقوف بوجه التكامل وانخراط في جبهة اعداء التطوير، اذ ان مثل هذه الاصلاحات والخطوات تقلل من الفجوات ولو بشكل موقت. وتخفض حدة التناقضات. وهذا ما يؤدي الى تأخير موعد انفجار الثورة.. وتأخير هذا الموعد يعادل زيادة مدة بقاء المجتمع في مرحلة معينة وتأخير موعد التغيير والتكامل. هذه هي أهم نتائج الاتجاه الديالكتيكي والالي لتفسير التاريخ.