لقد كان الإمام أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام في معالي أخلاقه نفحة من نفحات الرسالة الاسلامية فقد كان على جانب عظيم من سموّ الأخلاق، يقابل الصديق والعدو بمكارم أخلاقه ومعالي صفاته، وكانت هذه الظاهرة من أبرز مكوناته النفسية، ورثها عن آبائه وجده رسول الله صلى الله عليه وآله الذي وسع الناس جميعاً بمكارم أخلاقه، وقد أثّرت مكارم أخلاقه على أعدائه والحاقدين عليه، فانقلبوا من بغضه الى حبه والاخلاص له. (1)
ونقل المؤرخون أنّ المتوكل الذي عرف بشدّة عدائه لأهل البيت عليهم السلام، وحقده على الإمام علي عليه السلام، أمر بسجن الإمام العسكري عليه السلام والتشديد عليه إلاّ أنّه لمّا حلّ في الحبس ورأى صاحب الحبس سمو أخلاق الإمام عليه السلام وعظيم هديه وصلاحه انقلب رأساً على عقب، فكان لا يرفع بصره الى الإمام عليه السلام إجلالاً وتعظيماً له، ولمّا خرج الإمام من عنده كان أحسن الناس بصيرة، وأحسنهم قولاً فيه. (2)
سماحته وكرمه
نقل المؤرخون نماذج من السيرة الكريمة للإمام العسكري عليه السلام نذكر بعضاً منها:
1- روى الشيخ المفيد عن محمد بن علي بن ابراهيم بن موسى ابن جعفر عليه السلام:
قال: ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: إمضِ بنا حتى نصير الى هذا الرجل ـ يعني أبا محمد ـ فإنه قد وصف عنه سماحة.
فقلت: تعرفه؟
قال: ما أعرفه، ولا رأيته قط.
قال: فقصدناه.
فقال لي أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا الى أن يأمر لنا بخمس مائة درهم مائتا درهم للكسوة ومائتا درهم للدقيق، ومائة درهم للنفقة.
وقلت في نفسي ليته أمر لي بثلاث مائة درهم، مائة اشتري بها حماراً ومائة للنفقة ومائة للكسوة، فأخرج الى الجبل.
قال ـ أي محمد بن علي ـ فلما وافينا الباب خرج غلامه، فقال: يدخل علي بن ابراهيم ومحمد ابنه، فلما دخلنا عليه وسلمنا، قال لأبي: ياعلي ما أخلفك عنا الى هذا الوقت، فقال: ياسيدي: استحييت أن ألقاك على هذا الحال، فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة، وقال: هذه خمسمائة درهم، مائتان لِلكسوة، ومائتان للدقيق، ومائة للنفقة وأعطاني صرة وقال: هذه ثلاثمائة درهم اجعل مائة في ثمن حمار، ومائة للكسوة، ومائة للنفقة، ولا تخرج الى الجبل، وصر الى سوار.
قال: فصار الى سوار وتزوج بإمرأة منها فدخله اليوم ألف دينار ومع هذا يقول بالوقف. (3)
2- وروى اسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني أبو هاشم الجعفري
قال: شكوت الى أبي محمد عليه السلام ضيق الحبس وكلب القيد(4)، فكتب إلي أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك، فاُخرجت وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال، وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه معونة في الكتاب الذي كتبته إليه فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمائة دينار، وكتب إليّ: اذا كانت لك حاجة، فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها فإنك على ما تحب إن شاء الله. (5)
3- وعن اسماعيل بن محمد بن علي بن اسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس
قال: قعدت لأبي محمد عليه السلام على ظهر الطريق، فلما مرَّ بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أن ليس عندي درهم واحد، فما فوقه، ولا غذاء ولا عشاء قال: فقال عليه السلام تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مائتي دينار؟! وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية، أعطه ياغلام ما معك، فأعطاني غلامه مئة دينار ثم أقبل عليّ فقال: إنك تحرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون إليها، وصدق عليه السلام، وذلك أني أنفقت ما وصلني به، واضطررت ضرورة شديدة الى شيء أنفقه، وانغلقت عليّ أبواب الرزق، فنبشت الدنانير التي كنت دفنتها فلم أجدها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب، فما قدرت منها على شيء. (6)
زهده وعبادته
عُرف الإمام العسكري عليه السلام في عصره بكثرة عبادته وتبتّله وانقطاعه الى الله سبحانه واشتهر ذلك بين الخاصة والعامة، حتى أنّه حينما حبس الإمام عليه السلام في سجن علي بن نارمش ـ وهو من أشد الناس نصباً لآل أبي طالب ـ ما كان من علي هذا إلاّ أن وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس قولاً فيه. (7)
ولما حبسه المعتمد كان يسأل السجّان ـ علي بن جرين ـ عن أحوال الإمام عليه السلام وأخباره في كل وقت فيخبره علي بن جرين أنّ الإمام عليه السلام يصوم النهار ويصلي الليل. (8)
عن علي بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عن عليّ بن عبدالغفّار قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد عليهما السلام.
فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام الى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين(9) .
عن محمّد بن إسماعيل العلوي قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف عندما حُبس أبو محمّد فقالوا له: ضيّق عليه، قال: وكّلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه عليّ بن بارمش واقتامش، فقد صارا من العبادة والصّلاح الى أمر عظيم يضعان خدّيهما له، ثم أمر باحضارهما فقال: ويحكما ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فقالا: ما تقول في رجل يقوم اللّيل كلّه ويصوم النّهار ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فاذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا(10).
وكان يتسوّر عليه الدار جلاوزة السلطان في جوف الليل فيجدونه في وسط بيته يناجي ربّه سبحانه.
إنّ سلامة الصلة بالله سبحانه وما ظهر على يدي الإمام من معاجز وكرامات تشير الى المنزلة العالية والشأن العظيم للإمام عليه السلام عند الله الذي اصطفاه لعهده والذي تجلّى في إمامته عليه السلام. (11)
علمه ودلائل إمامته
وإليك شذرات من علوم الإمام الحسن العسكري عليه السلام ودلائل إمامته:
1- عن أبي حمزة نصر الخادم
قال: سمعت أبا محمد عليه السلام غير مرة يكلّم غلمانه بلغاتهم، وفيهم ترك، وروم وصقالبة، فتعجّبت من ذلك وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن ـ أي الإمام الهادي عليه السلام ـ ولا رآه أحد فكيف هذا؟! اُحدّث نفسي بذلك فأقبل عليَّ وقال: إنّ الله جلّ اسمه بيّنَ حجته من ساير خلقه وأعطاه معرفة بكل شيء ويعطيه اللغات ومعرفة الأسباب والآجال والحوادث: ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق(12).
2- وقال الحسن بن ظريف:
اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب بهما الى أبي محمد عليه السلام، فكتبت إليه أسأله عن القائم اذا قام بم يقضي؟ وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس؟ وأردت أن أسأله عن شيء لحُمّى الربع، فأغفلت ذكر الحُمّى، فجاء بالجواب:
سألتَ عن القائم إذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود عليه السلام ولا يسأل البينة، وكنت أردت أن تسأل عن حمّى الرُّبع، فأنسيت فاكتب ورقة وعلّقها على المحموم فإنّه يبرأ بإذن الله إن شاء الله:( يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ). فكتبت ذلك وعلّقته على المحموم فبرئ وأفاق. (13)
3- وروى الشيخ المفيد عن أبي القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن يعقوب عن إسماعيل بن ابراهيم بن موسى بن جعفر
قال: كتب أبو محمد عليه السلام الى أبي القاسم اسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً، إلزم بيتك حتى يحدث الحادث، فلما قُتل بريحة كتب إليه قد حدث الحادث، فما تأمرني؟ فكتب إليه: ليس هذا الحادث، الحادث الآخر. فكان من المعتز ما كان. (14)
أي ان الإمام عليه السلام، أشار الى موت المعتز، فطلب من مواليه أن يلتزموا بالبقاء في بيوتهم حتى ذلك الوقت لظروف خاصة كانت تحيط بالإمام عليه السلام وبهم من الشدة وطلب السلطان وجلاوزته لهم.
ومن الطبيعي ان موت الخليفة يعقبه غالباً اضطراب في الوضع يمكّن معارضيه من التحرك والتنقل بسهولة.
4- وروى الشيخ الكليني (رضي الله عنه) عن علي بن محمد عن الحسن بن الحسين
قال: حدثني محمد بن الحسن المكفوف قال: حدثني بعض أصحابنا عن بعض فصّادي العسكر ـ أي سامراء ـ من النصارى: أن أبا محمد عليه السلام بعث إلي يوماً في وقت صلاة الظهر فقال لي:
إفصد(15) هذا العرق، قال: وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد فقلت في نفسي، ما رأيت أمراً أعجب من هذا يأمرني أن أفصد في وقت وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه، ثم قال لي إنتظر وكن في الدار، فلما أمسى دعاني فقال لي: سرّح الدم فسرّحت، ثم قال لي: أمسك فأمسكت، ثم قال لي: كن في الدار، فلما كان نصف الليل أرسل إلي وقال لي: سرّح الدم، قال: فتعجبت أكثر من عجبي الأول وكرهت أن أسأله: قال: فسرحت فخرج دم أبيض كأنه الملح: قال: ثم قال لي إحبس، فحبست. ثم قال: كن في الدار(16)، فلما أصبحت قدم إلي تخت ثياب وخمسين ديناراً وقال: خذها واعذر وانصرف فصرت إلى بختيشوع وقلت له القصة ففكر ساعة ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها نقرأ الكتب على أن نجد لهذه القصة ذكراً في العالم فلم نجد.
ثم قال بختيشوع: لم يبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول، فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى، فخرجت وناديته فأشرف عليّ فقال من أنت؟ قلت صاحب بختيشوع. قال: أمعك كتابه؟ قلت: نعم فأرخى لي زنبيلاً، فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب ونزل من ساعته وقال: أنت الذي فصدت الرجل؟ قلت: نعم، قال: طوبى لأمك، وركب بغلاً، وسرنا، فوافينا (سرّ من رأى) وقد بقي من الليل ثلثه، قلت: أين تحب؟ دار استاذنا أم دار الرجل ـ أي دار الإمام الحسن العسكري ـ؟ قال: دار الرجل، فصرنا الى بابه قبل الأذان الأول ففتح الباب وخرج إلينا خادم أسود وقال: أيكما راهب دير العاقول؟ فقال: أنا جعلت فداك، فقال إنزل، وقال لي الخادم: احتفظ بالبغلين، وأخذ بيده ودخلا فأقمت الى أن أصبحنا وارتفع النهار ثم خرج الراهب، وقد رمى بثياب الرهبانية ولبس ثياباً بيضاً وأسلم فقال: خذني الآن الى دار استاذك، فصرنا الى باب بختيشوع، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال، ما الذي أزالك عن دينك؟
قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده، قال: وجدت المسيح؟! قال: أو نظيره، فإن هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلاّ المسيح وهذا نظيره في آياته وبراهينه، ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات. (17)
5- وعن أبي علي المطهري
انه كتب إليه من القادسية يعلمه بانصراف الناس عن المضي إلى الحج وانه يخاف العطش إن مضى، فكتب عليه السلام: امضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله، فمضوا سالمين (ولم يجدوا عطشاً)(18) والحمدلله رب العالمين.
المصادر:
- اعلام الهداية - الامام الحسن بن علي العسكري (ع)، المولف: لجنة التأليف، تاريخ النشر: 1422 هـ، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (ع)
1- حياة الإمام الحسن العسكري عليه السلام: 42.
2- اُصول الكافي: 1/508 ح 8 وعنه في الارشاد: 2/329، 330 وفي أعلام الورى: 2/150 وعن الارشاد في كشف الغمة: 3/202.
3- اُصول الكافي: 1/506 ح 3 ب 124 وعنه في الارشاد: 2 / 326، 327 وعنه في كشف الغمة: 3 / 200.
4- كلب القيد: شدته وضيقه.
5- اُصول الكافي: 1/508 ح 10 وعنه في الارشاد: 2/330 وفي اعلام الورى: 2/140 وعن الارشاد في كشف الغمة: 3/202.
6- اُصول الكافي: 1/509 ح 14 وعنه في الارشاد: 2/322 واعلام الورى: 2/137 وعن الارشاد في كشف الغمة: 3/203، ولعلّه كان من المغضوب عليهم لدى بني العباس ولذلك لم يكفوه.
7- الكافي: 1 / 508 ح 8.
8- مهج الدعوات: 275.
9- الكافي: 1/513.
10- المناقب: 2/462.
11- اشارة الى قوله تعالى ( إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ). البقرة (2): 124.
12- اُصول الكافي: 1/509 ح 11 وعنه في الارشاد: 2/330 واعلام الورى: 2/145 وعن الارشاد في كشف الغمة: 3/202.
13- اُصول الكافي: 1/509 ح 13 وعنه في الارشاد: 2/331 واعلام الورى: 2/145 وعن الارشاد في كشف الغمة: 3/203 وحُمّى الرّبع: هو أن يأخذ يوماً ويترك يومين ويعود في اليوم الرابع، والآية من سورة الأنبياء: 69.
14- اُصول الكافي: 1/506 ح 2 وعنه في الارشاد: 2/325 وعنه في كشف الغمة: 3/200 وابن «تريخة».كذا في النسخ وفي المصدر «بريحة» وقال الطريحي في المجمع «بريمة» هو: عبدالله بن محمد بن داود الهاشمي العباسي الناصبي من ندماء المتوكل وقتله اثنان من الحسنيين بالكوفة قبل المعتز بأيام كما في الطبري: 9/388 وعنه في الكامل: 7/56، وجاء في هامش الارشاد: 2/325 بهامش بريحة وابن اُترجة
15- الفصد: شق العرق، يستخرج دمه ; لسان العرب، ابن منظور: 10 / 270، طبع بيروت، احياء التراث.
16- الكافي: 1 / 512.
17- الخرائج والجرايح: 1 / 422. وبحار الأنوار: 5 / 262.
18- الكافي: 1/507، والمناقب: 2/464.