فهو بحاجة مبرمة إلى الله في أبسط الأمور من حياته النامية. وعلى الجانب الآخر إنّ هذا الخالق الذي خلقه، عالم بمن خلق، محيط بأدقّ التفاصيل والأسرار من وجوده، وهو على علم كذلك ببداية هذا المخلوق ونهايته. من ثمّ إقتضى عقل البشر توجيهه إلى ساحة قدسه لأنّه سبحانه مضافاً إلى ما سلف غنيّ غناءاً مطلقاً في الأمور كلّها وما هو بمحتاج إلى مخلوقاته ولو كانت حاجة جدّا طفيفة، من ثمّ لا يُتصوّر في حقّه إلّا طلب الخير للإنسان، ولكن بناءاً على الرؤية الإسلامية هذه الطاعة لاتنحصر بالله وحده، بل على الإنسان وإمتثالاً لأمر خالقه أن يطيع رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في أموره كلّها ويقتدي بهم. وهنا ينبغي أن يضاف بأنّ الطاعة المطلقة غير المشروطة ولا المقيّدة، بناءاً على ما تقدّم، مختصّة بالخالق سبحانه. وإمتثالاً لأوامره يجب علىنا طاعة النبيّ(صلّى الله علىه وآله وسلّم) والأئمّة المعصومين(عليهم السلام) في جميع الأمور.
كما أنّ أفعال الرسول والأئمّة(عليهم السلام) وأقوالهم توضّح النهج الذي يرضي الله على الأصعدة كافّة، ويؤدّي إلى سعادة الإنسان الأبديّة بدليل سلامة ساحتهم القدسيّة من الأهواء والشهوات ومن تسرّب تلك الإحتمالات إلىها. فهم بلطف الله وحسن تقديره وعنايته معصومون عن الأخطاء والمزالق والإلتواءات.
وحسب تعاليم الإسلامية لايصحّ للإنسان الخضوع والطاعة المطلقة لغير الله سبحانه بتاتاً وبغير إشتراط أو تقييد، إلّا لمن أمر الله بطاعتهم من النبيّ والأئمّة المعصومين(عليهم السلام). والحجة الأولى الباعثة على إعتبار هذه المقولة من الخضوع لله والمعصومين هو العقل كما تقدّم توّاً، خلا أنّ الذي يسندها مثولاً مع العقلانيّة البشريّة ويحملها على الإبقاء والإستمرار إنّما هي المحبة لله تعالى فهي الباعثه على دوامها والمفضية إلى كمالها. وحين ىتعمّق الإنسان بالفكر فسوف يجد نفسه مغموراً في بحر الألطاف والنعم الإلهيّة ويدرك أنّ جميع ما لديه، هو من عطايا الله سبحانه. وبالرغم من كفران الإنسان للنعم، فإنّها لم تفارقه في حال من الأحوال. وليس هذا فحسب بل إنّها تراوحه وتغاديه آناً فآناً.
وبناءاً على هذا يسعى الإنسان أن يسلك سبيل طاعة ربّ رؤوف رحيم كهذا الربّ، ولايؤدي هذا السلوك إلّا إلى كماله وسعادته. وحقيقة الولاية ومفهومها العامّ الذي تجسّده الرؤية الإسلامية ليس شىء سوى طاعة الله ورسوله والأئمّة المعصومين. من جهة أخرى إنّ العلاقة بين النبيّ الأكرم والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) واحداً بعد آخر وبين المسلمين والشيعة منهم على مستوى عميق جداً وذو جانبين ويبدأ بالجانب الأول من النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) خلال الرحمة والشفقة على المسلمين فرداً فرداً. إنّها رحمة وشفقة التي بلغت درجة قصوى عندهم، بحيث يجرّ تألّم مسلم واحد إلى تأثّر خواطرهم ومشاعرهم، ولنا على ذلك شواهد كثيرة مبثوثة في النصوص الإسلامية. ومن الجانب الآخر فإنّ المسلم لإحراز جميع الكمالات الأخلاقيّة والسجايا الروحيّة في ذوات المعصومين، يحبّهم من صميم قلبه. وهذه العلاقة العميقة بلغت بالإتّباع درجة لم تقتصر على الطاعة وحدها إزاء أقوال الإمام وأفعاله، بل لايحسّون بشىء من الإرتياب في خواطر أذهانهم إزاء هذا الإتّباع. وفي القرآن الكريم، كتاب الله المنزل من قِبله، توجد دلائل عدّة في إثبات منزلة الولاية من قبل الله تعالى للرسول الكريم(صلّى الله علىه وآله وسلّم) وللإمام أمير المؤمنين(علىه السلام) أول إمام قائم بعده. لكن ولاية سائر الأئمّة تثبت من جانب الله بواسطة إبلاغ النبيّ الأكرم.
ونحن هنا نعمد إلى آية من القرآن الكريم تختصّ بمورد الحديث أي إثبات الولاية على المؤمنين لله سبحانه وتعالى ولرسوله ولأمير المؤمنين(علىهما السلام)، فنوسّعها بحثاً وتحقيقاً وتأمّلاً إن شاء الله تعالى. ونبدأ أولاً بتحقيق المفردات التي تتركّب الآية منها والتعرّف على معانيها مستقلّة عن المعنى المجمل للآيه وبعد ذلك نشير إلى ما ورد في سبب النزول. وأخيراً سوف نعمل على تدبّر في الفقرات المختلفة للآية بدقة وتوجه كبيرين بإذن الله.
البحث في مفردات الآية مستقلاً عن مجمل المعني
إنّما
«إنّما» في اللغة العربيّة تدلّ على الحصر أي إنّ المتكلّم يأتي باللفظ المستعمل، فيقصّره على المعنى الخاصّ أو شخص معيّن المقصود له. ومثله يقال في المفاهيم إذا كانت تطلق على أكثر من معنى مقصود للمتكلّم فإنّه يحدّده بالمعنى الخاصّ المراد له وينفيه عمّا عداه. مثلاً إذا قيل: «إنّما معبودنا الله» يكون المعنى أنّ الألوهيّة والمعبوديّة منحصرة بالله وحده وسائر الموجودات بمعزل عن هذا التناول. وعلى هذا الأساس وتمشّياً مع متطلّبات الدستور في إستعمال هذا اللفظ في اللغة العربيّة(وقد وردت مستوفاة في مواضعها) فإنّ مجيء إنّما في صدر الآية يحصر الولاية في جماعة خاصّة من المؤمنين وبتعبير آخر حصرت الآية عند نزولها في موارد ثلاثة عرّفتهم بالولاية على المؤمنين ونَفتها عن سائرهم، فيكون معنى الآية على النحو التالي: وليّكم فقط الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
الوليّ
في كتب اللغة مثل «مفردات القرآن» و«لسان العرب» وردت معان عديدة للفظ الوليّ ويمكن الإشارة هنا إلى بعضها مثل «الصهر، الحليف، الصديق، وليّ أمر، الناصر وغير ذلك.» وقد جاءت هذه المعاني شرحاً للفظ«الوليّ» المستعمل في آيات أخرى سوى هذه الآية من القرآن. خلا أنّها في هذه الآية لا تعدّ كثيراً من هذه المعاني تعبيراً صحيحاً عن لفظ الوليّ إذا ما حاولنا تفسيرها بها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى آيات الأخرى في القرآن الكريم. فلو أنّنا أخذنا الصهر في شرحها ينقلب معنى الآية إلى الحقيقة التالىة: «. . . إنّما أصهاركم الله ورسوله والذين يعطون الزكاة في حال الركوع» وبطلان هذا المعنى ظاهر للعيان. والمفسّرون نظراً لما قدّمناه أختاروا من هذه المعاني ثلاثةً لتفسير معنى الوليّ الوارد في الآية:
1. الصديق
2. الناصر
3. الأولي بالأمر أو مستحق بالتصرف
الزكاة
ومعناه بذل المال في سبيل الله ومن مصاديقه دفع المال إلي المساكين والمعوزين وقد أشير إليه في آية الولاية.
الركوع
بما أنّ هذا اللفظ جاء بعد قوله تعالي: «يقيمون الصلاة» فإنّ المقصود به الحالة التي يؤدّيها المقيم الصلاة بعد قرائة الحمد والسورة من طأطأة الرأس والإنحناء ووضع اليد علي الركبتين.
إيضاح أكثر حول لفظ الركوع
للركوع ثلاثة معان. لغويّة وإصطلاحيّة ومجازيّة. معناه اللغويّ خفض الرأس والإنحناء فإذا ضمّ الفاعل إليه نيّة القربة ووقع في الصلاة يعتبر عملاً من أعمالها وهذا هو معناه الإصطلاحيّ. وبتعبير آخر معني الركوع الإصطلاحيّ يؤخذ من خفض الرأس، وهذا بفارق واحد، وهو إنضمام قصد القربة إليه في حال الصلاة.(ومعني قصد القربة أنّ التوجّه كلّه لله ويكون العمل جميعاً له ولطلب مرضاته لا لغرض آخر) ومعني الركوع المجازيّ هو ذلّ شخص وخضوعه أمام شخص آخر.
وتنبغي الإشارة هنا إلي أنّ أثناء ملاحظة أيّ نصّ من النصوص لايتبادر إلي الذهن بدءاً إلّا المعني اللغويّ لألفاظه. فإذا كانت في النصّ علامة خاصّة يؤخذ المعني الإصطلاحيّ أو الآخر المجازي. والقرآن شأنه شأن النصوص الأخري تُحمل ألفاظه أولاً علي معانيها اللغويّة وبالقرينة يتحوّل الذهن إلي الإصطلاحيّ او المجازيّ من معانيه. والركوع ليس بدعاً في القاعدة فإذا ورد في القرآن في أيّ موضع كان منه، فيلزم إقتفاءاً للقاعدة أن نتّخذ معناه اللغويّ قبل معانيه الأخري. مثلاً إذا كانت الآية تتحدّث عن الصلاة والمصلّين فإنّ علامة«الصلاة» تدلّ علي أنّ المقصود من الركوع هو المعني الإصطلاحيّ وفي حال وجود علامات تدلّ علي المجاز يكون هو المقصود بالذكر. وفي هذه الآية بما أنّ الحديث عن الصلاة(يقيمون الصلاة) المراد من الركوع هو المعني الإصطلاحيّ أي الفعل المأخوذ في الصلاة هي ركناً من أركانها.
أشرنا فيما قبل بأنه ذُكر للوليّ معان ثلاثة:
1. الصديق
2. الناصر
3. الأولي بالأمر
وعلى أساس ذلك دارت بحوث المفسّرين.
ونحن نسلط الأضواء على المعنيين الأوّلين(الصديق، الناصر) ثم نتناول المعنى الثالث فنوسّعه بحثاً لنصل إلى المعنى الحق من هذه الكلمة.
الصديق والناصر
وإذا لاحظنا هذين المعنىين يكون معنى الآية كما يلي: إنّما صديقكم وناصركم الله ورسوله والذين أمنوا الذين يؤتون الزكاة حال ركوعهم في الصلاة. قلنا آنفاً بأنّ لفظ «إنّما» أداة حصر وحينئذ عندما نأخذها بنظر الإعتبار هنا ونضمّ إلىها معنى الصديق والناصر تكون النتيجة هكذا: ليس لنا من صديق وناصر إلّا الله ورسوله والذين يعطون الزكاة حال ركوعهم في الصلاة، وبالتوجه إلى هذا المعنى، فليس لنا بعد ذلك صديق ولا ناصر، ولانستطيع التعبير عن أحد بصديقنا أو ناصرنا، ولايمكن أن نطلق على من لم يعط الزكاة في حال الركوع صديقاً او ناصراً. وهذان المعنىان يتناقضان مع سائر الأيات في القرآن الكريم: «وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ»(سورة الأنفال، الآية 72) تدلّ هذه الآية على أنّ النصرة لا تختصّ بفريق دون فريق ولا بقوم دون قوم وتقول: من استنصركم لدينه فانصروه... «تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى»(سورة المائده، الآية 2) وفي هذه الآية أيضاً وقع الطلب على إعانة الأخرى على أساس من الخير والتقوى ولم يختصّ ذلك بفئة معيّنة. «... إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(سورة الحجرات، الآية 10) وفي هذه الآية سمّى الله تعالى المؤمنين «إخوة» ونعلم أنّ الأخوة الإسلاميّة أسمى من رابطة المصادقة وأسمى من رابطة التعاون وحينئذ كيف يمكن أن نختار مُعطي الزكاة حال الركوع في الصلاة صديقنا ونطلب منه العون وحده بينما إعتبر القرآن جميع المؤمنين إخوة لبعضهم البعض. والقرآن كما نعلم كلام الله وليس فيه إختلاف أو خطأ أو تناقض. ظهر ممّا تقدّم بأنّ معنى الوليّ في آية الولاية لايمكن أن يكون الناصر او الصديق، لأنّ معناهما عامّ لايمكن أن يُحصر في فئة معيّنة.
الولي بمعني الأولى بالتصرف
حين نأخذ الولي بمعنى المتولي للأمور أو مستحق بالتصرف، لايتناقض هذا المعنى مع سائر آيات القرآن الكريم، لأن هذا المعنى لايمكن أن يعمّ الجميع، إذ ليس معنى ذلك أن يكون لكل أحد الأمر والنهي علىنا أو الولاية علىنا إلّا لأشخاص معيّنين من قبل الله تعالى، وهذه الآية تقول أنّ الولاية بعد الله ورسوله، التي هي بمعنى الأولوية بالأمر، من إختصاص شخص أو أشخاص وهم الذين يدفعون زكاتهم حال ركوعهم في الصلاة.
وهنا يلزم التعرّف على هؤلاء الذين أعطوا الزكاة حال الركوع في الصلاة. من هم الذين نزلت هذه الآية فيهم وكانت الولاية لهم بعد الله ورسوله دون من عداهم؟ أدلّ دليل على ذلك هو رجوع إلى سبب نزول الآية نفسها.
سبب النزول
ذكر مفسرو الشيعة وأهل السنة والجماعة وأصحاب الرأي أنّ مسكيناً جاء مسجد النبيّ واستجدّ العون من المصلّىن فلم يغثه أحد منهم إلّا الإمام علي بن أبي طالب(علىهما السلام) فقد أشار إلىه بإصبعه وهو راكع وفي إصبعه خاتمه فأخذه السائل. ونزلت بعد ذلك هذه الآية(أي أية 55 من سورة المائدة) على رسول الله(صلّى الله علىه وآله وسلّم).
بحث حول مختلف أقسام الآية
وصف المؤمنين الذين هم أصحاب منزلة الولاية على المؤمنينفي الآية الكريمة إشارة خاصة إلى تلك الفئة من المؤمنين الحائزين على مكانة الولاية وعرّفتهم بأنهم المؤمنون المؤدّون الزكاة حال كونهم راكعين.
من أجل كشف الواقع ومعرفة الآية بصورة أجلى ينبغي دراسة كيفية دلالة الآية على شخص من خلال وصفه وكيفية الإرشاد إلىه ليكون مرجع الناس.
ويمكن القول بصورة عامة أنّ شخصاً كهذا تتمّ معرفته أو وصفه بأمرين: إشارة المتكلم إلىه بعنوان يختصّ به ولاينطبق على غيره. الثاني: إشارة إلى صفة عامة من الممكن اتّصاف كثير من الناس بها. فمن كانت الصفة فيه اختصّ بالإشارة وأرشدت الصفة إلىه وكان موضع قصد المتكلم. فقد قال الله سبحانه وتعالى: وليّكم بعد الله ورسوله أولئك المؤمنون الذين يدفعون الزكاة وهم في حال الركوع في الصلاة. إنّهم الولاة علىكم أو هم ولاة أموركم وحينئذ علىنا بالحذر والدقة في موضوع الزكاة والولاية لعدم التناسب بينهما ويكون الوصف الوارد بالآية للمؤمنين ـ الذين لهم الولاية على الجميع ـ من الوصف الأول وأعطى الله عنوانه في زمن خاص ليدلّ سبحانه على الشخص الذي يتولّاه المؤمنون بعد الله ورسوله ويولّى علىهم وبعد رجوع إلى سبب النزول يتجلّى لنا أنّ المقصود بالوصف هو الإمام علي(علىه السلام) ليس غيره.
كذلك يتبيّن من الآية حبّ الله لبذل الزكاة في حال الركوع وكأنه يخاطب المؤمنين بالواسطة بأنكم ليس بمقدوركم الولاية على المؤمنين فعلىكم بهذه الصفة وهي بذل الزكاة وأنتم راكعون ولاتؤخروا دفع الزكاة إحتجاجاً بفعل الصلاة لأنّ الدفع في حالة الركوع يحبّه الله تعالى.
إرادة الواحد من الجمع
وهنا أيضاً ينبغي الإلتفات إلى نقطة مهمة أخرى فقد جائت الآية بلفظ الجمع «المؤمنين» وربما سأل سائل ما وَجهُ الجمع هنا بينما المراد بالآية على قولكم علي(علىه السلام) وحده.
ولنا بهذه المناسبة عطف الأذهان إلى استعمال المفرد في لغة العرب. فإنّه لايطلق إلّا على الواحد دون الجمع والتثنية ولكنّ العكس صحيح وقد استعمل كثيراً. فقد ورد اللفظ بصيغة الجمع وأريد منه الواحد وفي القرآن من هذا أمثلة كثيرة، من قبيل:«وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون»(سورة المنافقون، الآية 5)
و«هم الّذين يقولون لاتنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا وللّه خزائن السماوات والأرض ولكنّ المنافقين لايفقهون»(سورة المنافقون، الآية 7)
وفي هاتين الآيتين الخطاب على المنافقين الذين يتّجهون إلى التكبر والنخوة فيقولون: لاتنفقوا على أصحاب رسول الله(صلّى الله علىه وآله وسلّم) وبعد رجوعنا إلى أسباب النزول نجد الله سبحانه مع وضعه المنافقين جميعاً موضع الخطاب وحكم علىهم كلهم إلّا أنّ المصداق الخارجي لهاتين الآيتين إنّما هو شخص واحد وهو عبد الله بن أبي. ويمكن الرجوع إلى تفسير الطبري وأيضاً تفسير السيوطي نقلاً عن إبن عباس وسوف نرى ما ورد عن إبن عباس في تفسير هاتين الأيتين. ونحن إبتغاءاً للإختصار نشير إلى بعض الأيات وأقوال المفسرين حول هذه الآيه فقط كأمثلة لاستعمال الجمع لمقصود مفرد:
1- سورة آل عمران، الآية 18(تفسير القرطبي، مجلد 4، صفحة294)
2- سورة التوبه، الآية 61(تفسير القرطبي، مجلد 8، صفحة 192، تفسير الخازن، مجلد 2، صفحة 253)
3- سورة النساء، الآية 10(تفسير القرطبي، مجلد 5، صفحة 53، الإصابة، مجلد 3، صفحة 397)
4- سورة الممتحنة، الآية 8(البخاري والمسلم وأحمد وإبن جرير وإبن أبي حاتم كما جاء في تفسير القرطبي، مجلد 18،صفحة 59)
5- سورة المائده، الآية 41(تفسير القرطبي، مجلد 6، صفحة 177، الإصابة، مجلد 2، صفحة 326).
و...
والنتيجة من خلال المطالب آنفة الذكر هي أن استعمال الجمع للمفرد لا بأس به وفي اللغة صيغ عدّة جاء الإستعمال على هذا النحو. من ناحية أخرى فإنّ استعمال الجمع للمفرد هنا والمقصود به ولي واحد دّل على معنى أكمل في الذهن. بيان ذلك أنّ الخطاب موجّه للمؤمنين من الله تعالى فكأنّ المعنى هكذا: يا أيها المؤمنون إنكم ليس بإمكانكم بلوغ الولاية، فكونوا كعليّ بن أبي طالب(علىهما السلام)، أقام الصلاة وأتى الزكاة في وقت واحد فلم يشغل بأحدهما عن الأخرى فلاتشغلكم الصلاة عن تأخير الزكاة فان وليّي علىاً جاء بعبادتين معاً ولم يجعل أحدهما عذراً لتأخير الأخرى. وقد مرّ هذا المعنى بشكل مفصّل فيما مضى.
في ختام البحث نذكر ما قاله الزمخشري حول المعنى المذكور(الزمخشري من كبار مفسري أهل السنة وقد ذكر هذا الموضوع في تفسير الكشاف تحت الآيه). قال:«فإن قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه واللفظ لفظ الجماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء، حتى إن لزمهم أمر لايقبل التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخّروه إلى الفراغ منها...».
ماهية الولاية وسنخيّتها مع ولاية الرسول الأكرم(ص)
وحين نذهب بعيداً في التحقيق يتجلّى للعيان مطلب آخر من الآيه: ذلك أن الله تعالى مع ذكره ولايته وإتباعها بولاية رسوله وولاية علي بن أبي طالب(علىهما السلام) ولكنّا نراه لم يستعمل الجمع «أوليائكم» بدلاً عن المفرد «وليّكم» ويمكن الإستدلال من تخصيص المفرد بالذكر في هذا المشهد أن الله تعالى أراد أن يعطي منزلة ولايته إلى النبي والإمام علي صلوات الله علىهما مع عدم سلبها عن ذاته سبحانه، من سنخ ولايته إشارة منه إلى إتحاد الولايات الثلاثة في سنخيّة واحدة، حيث أنه لو كان قال: «أوليائكم» بالجمع، يتبادر إلى الذهن تعدد الولايات المختلفة لأشخاص مختلفين على المؤمنين. لكن الله سبحانه لم يرد هذا المعنى بل أراد توحيد الولاية أي أن ولايته وولاية نبيّه ووصيّه ولاية واحدة مع هذا الفارق وهو أن ولاية الله ذاتيه وبشكل مستقل ومعنى ذلك أنّ الولاية لم تسند إلىه من كائن آخر سواه(إن الله الذي هو خالق جميع الأشياء ومختار في مشيئتة بالتصرف كيف يشاء...) ولكن ولاية النبيّ والإمام علي(عليهما السلام) من فضل الله علىهما وتخصيصه إيّاهما بها وهي مرتبطة بولايته سبحانه وهذا ما يقول به الشيعة من أن النبيّ والأئمّة المعصومين(علىهم السلام) عباد الله مربوبون وكل ما يسند إلىهم أو يعطى لهم هو من عند الله ومن عطاء الله إياهم ولولا ذلك لما كانوا يملكون من أنفسهم شيئاً.
النتيجة
ظهر من جميع ما تقدّم أنّ:
1- القرآن بيّن مسألة الولاية على المؤمنين بشكل دقيق ليس فيه لبس في آيات مختلفة من القرآن الكريم.
2- معنى الولاية المذكور في الآية هو ذلك المعنى الذي يتناول القيادة وإختيار التصرف والأولوية بالأمر.
3- أثبتت الولاية من نظر القرآن في جماعة خاصة وسلبت من غيرهم.
4- مقام الولاية على المؤمنين من منظر قرآني مختصّ في الأصل بالله تعالى وتكون مقبولة فيمن عداه حين كانت معطية من قبل الله.
5- على المؤمنين الرجوع إلى أوليائهم في أمورهم جميعاً وإتباعهم وإتخاذهم قدوة حسنة.
المصدر: موقع رشد