فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهاجموا داره ليلاً، فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى، وهو متوّجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن. وعلى هذه الحال حمل إلى المتوكل العباسي، وأدخل عليه، وكان المتوكل في مجلس شراب، وبيده كأس الخمر، فناول الإمام الهادي ، فردّ الإمام : «والله ما خامر لحمي ولا دمي قط فأعفني»، فأعفاه. فقال له: «أنشدني شعراً»، فقال الإمام : «أنا قليل الرواية للشعر». فقال: «لا بد». فأنشده:
باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرســـــهم غُلْبُ الرجال فما أغنتهمُ القُلــــــــل
واستنزلوا بعد عـــزّ عن معاقــلهم فأودعوا حُفَراً، يا بئس ما نزلـــــوا
ناداهُم صارخ من بعد ما قبـــــروا أين الأسرة والتيجان والحــــــــلل؟
أين الوجوه التي كانت منــــــعمة من دونها تضرب الأستار والكــــــــلل
فأفصح القبـر عنهم حين ساء لهم تلك الوجوه عليها الدود يقــــــــــــتتل
قد طالما أكلوا دهراً وما شــــــربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
وطالما عمروا دوراً لتحصـــــنهم ففارقوا الدور والأهلين وانتقلـــــــوا
وطالما كنزوا الأموال وادخــــــروا فخلّفوها على الأعداء وارتحــــــلوا
أضحت مَنازِلُهم قفْراً مُعَطــــــــــلة وساكنوها إلى الأجداث قد رحـــــلوا
قال الراوي: «والله لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته!. وبكى من حضره، ثم أمر أن يرفع الشراب، وأمر بإرجاع الإمام إلى داره مكرماً».