البث المباشر

عقائد

الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 - 13:03 بتوقيت طهران

هذا دين الله(1)

عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: دخلت على سيّدي عليّ بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، فلمّا بصر بي، قال لي:
مرحباً بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّاً.
قال: فقلت له: يا بن رسول الله إنّي أريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيّاً أثبت عليه حتّى ألقى الله عزّ وجلّ.
فقال: هات يا أبا القاسم.
فقلت: إنّي أقول: إنّ الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج عن الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه، وأنّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة.
وأقول: إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمد بن عليّ، ثمّ جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن عليّ، ثمّ أنت يا مولاي.
فقال (عليه السّلام): ومن بعدي: الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟
قال: فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟
قال: لأنّه ﻻ يرى شخصه ولا يحلّ ذكره باسمه حتّى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
قال: فقلت: أقررت وأقول: إنّ وليهم وليّ الله، وعدوّهم عدو الله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله.
وأقول: إنّ المعراج حقّ، والمساءلة في القبر حقّ، وإنّ الجنّة حقّ، وإنّ النار حقّ، والصراط حقّ، والميزان حقّ، وإنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وإنّ الله يبعث من في القبور.
وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فقال عليّ بن محمّد (عليه السّلام): يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

القرآن حقّ لا ريب فيه(2)

من علي بن محمد: سلام عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته.
فإنّه ورد عليّ كتابكم وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر، ومقالة من يقول منكم بالجبر، ومن يقول بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثمّ سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلّه.
اعلموا رحمكم الله أنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممن يعقل عن الله جلّ وعزّ ﻻ تخلو من معنيين: إمّا حقّ فيتّبع، وإمّا باطل فيجتنب.
وقد اجتمعت الأمّة قاطبة ﻻ اختلاف بينهم أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه مصيبون مهتدون، وذلك بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ﻻ تجتمع أمّتي على ضلالة) فأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأمّة كلّها حقّ، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً، والقرآن حقّ ﻻ اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه، فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه وأنكر الخبر طائفة من الأمّة لزمهم الإقرار به ضرورة، حين اجتمعت في الأصل على تصديق الكتاب، فإن (هي) جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملّة، فأوّل خبر يعرف تحقيقه من الكتاب وتصديقه والتماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه، بحيث ﻻ تخالفه أقاويلهم حيث قال: (إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي - أهل بيتي - لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض).
فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصّاً مثل قوله جلّ وعزّ: (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون)(3). وروت العامّة في ذلك أخباراً لأمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه تصدّق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه، فوجدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أتى بقوله: (من كنت مولاه فعليّ مولاه).
وبقوله: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ﻻ نبيّ بعدي).
ووجدناه يقول: (علي يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم من بعدي).
فالخبر الأوّل الذي استنبطت منه هذه الأخبار، خبر صحيح مجمع عليه ﻻ اختلاف فيه عندهم، وهو أيضاً موافق للكتاب، فلمّا شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشواهد الأخر لزم على الأمّة الإقرار بها ضرورة، إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة، ووافقت القرآن والقرآن وافقها.
ثمّ وردت حقائق الأخبار من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن الصادقين (عليهما السلام) ونقلها قوم ثقاة معروفون فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً على كلّ مؤمن ومؤمنة، ﻻ يتعدّاه إلاّ أهل العناد، وذلك أنّ أقوال آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) متصلة بقول الله، وذلك مثل قوله في محكم كتابه: (إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً)(4).
ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من آذى عليّاً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن ينتقم منه).
وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله): (من أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أحبني فقد أحب الله).
ومثل قوله (صلى الله عليه وآله) في بني وليعة: (لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله قم يا علي فسر إليهم).
وقوله (صلى الله عليه وآله) يوم خيبر: (لأبعثنّ إليهم غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرار، ﻻ يرجع حتّى يفتح الله عليه) فقضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالفتح قبل التوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا كان من الغد دعا علياّ (عليه السّلام) فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه المنقبة وسمّاه كراراً غير فرار، فسماه الله محباً لله ولرسوله، فأخبر أنّ الله ورسوله يحبانه.
وإنّما قدّمنا هذا الشرح والبيان دليلاً على ما أردنا وقوّة لما نحن مبيّنوه من أمر الجبر والتفويض، والمنزلة بين المنزلين، وبالله العون والقوّة وعليه نتوكّل في جميع أمورنا.
فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادق (عليه السّلام): (ﻻ جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين وهي صحّة الخلقة، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت، والزاد مثل الراحلة، والسبب المهيّج للفاعل على فعله).
فهذه خمسة أشياء جمع به الصادق (عليه السّلام) جوامع الفضل، فإذا نقض العبد منها خلّة كان العمل عنه مطروحاً بحسبه، فأخبر الصادق (عليه السّلام) بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته، ونطق الكتاب بتصديقه، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله، لأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله)، وآله (عليهم السلام) ﻻ يَعْدُون شيئاً من قوله وأقاويلهم حدود القرآن فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل فوجد لها موافقاً وعليها دليلاً كان الاقتداء بها فرضاً ﻻ يتعدّاه إلاّ أهل العناد كما ذكرنا في أوّل الكتاب.
ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله الصادق (عليه السّلام) من المنزلة بين المنزلتين وانكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدّق مقالته في هذا وخبر عنه أيضاً موافقاً لهذا أنّ الصادق (عليه السّلام) سئل: هل أجبر الله العباد على المعاصي؟
فقال الصادق (عليه السّلام): هو أعدل من ذلك.
فقيل له: فهل فوّض إليهم.
فقال (عليه السّلام): هو أعزّ وأقهر لهم من ذلك.
وروي عنه أنّه قال: الناس في القدر على ثلاثة أوجه:
رجل يزعم أن الأمر مفوّض إليه فقد وهن الله في سلطانه فهو هالك.
ورجل يزعم أنّ الله جل وعزّ أجبر العباد على المعاصي وكلّفهم ما ﻻ يطيقون، فقد ظلّم الله في حكمه فهو هالك.
ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ.
فأخبر (عليه السّلام) أنّ من تقلّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف الحقّ، فقد شرح الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، وأنّ الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.
ثمّ قال (عليه السّلام): وأضرب لكلّ باب من هذه الأبواب مثلاً يقرّب المعنى للطالب ويسهّل له البحث عن شرحه، تشهد به محكمات آيات الكتاب، وتحقّق تصديقه عنه ذوي الألباب وبالله التوفيق والعصمة.
فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أنّ الله جلّ وعز أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلّم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله: (ولا يظلم ربّك أحداّ)(5) وقوله: (ذلك بما قدّمت يداك وأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد)(6) مع آي كثيرة في ذكر هذا.
فمن زعم أنّه مجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله، وقد ظلّمه في عقوبته، ومن ظلّم الله فقد كذّب كتابه، ومن كذّب كتابه لزمه الكفر باجتماع الأمّة، ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً مملوكاً ﻻ يملك نفسه ولا يملك عرضاً من عرض الدنيا، ويعلم مولاه ذلك منه، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملّكه ثمن ما يأتيه به من حاجته، وعلم المالك أنّ على الحاجة رقيباً ﻻ يطمع أحد في أخذها منه إلاّ بما يرضى به من الثمن، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة، وإظهار الحكمة، ونفي الجور، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنّه سيمنعه، وعلم أنّ المملوك ﻻ يملك ثمنها ولم يملّكه ذلك، فلمّا صار العبد إلى السوق وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها وجد عليها مانعاً يمنع منها إلاّ بشراء وليس يملك العبد ثمنها فانصرف إلى مولاه خائباً بغير قضاء حاجته، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبة عليه، أليس يجب في عدله وحكمه أن ﻻ يعاقبه وهو يعلم أنّ عبده ﻻ يملك عرضاً من عروض الدنيا ولم يملّكه ثمن حاجته؟ فإن عاقبه، عاقبه ظالماً متعدّياً عليه، مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذّب نفسه في وعيده إيّاه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة، تعالى عمّا يقولون علوّاً كبيراً، فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلّم الله، ونسبه إلى الجور والعدوان، إذ أوجب على من أجبر(ه) العقوبة.
ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله أنّ الله يدفع عنهم العقوبة.
ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذّب الله في وعيده، حيث يقول: (بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(7).
وقوله: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)(8).
وقوله: (إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إنّ الله كان عزيزاً حكيماً)(9) مع آي كثيرة في هذا الفنّ، ممّن كذّب وعيد الله يلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر، وهو ممّن قال الله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون)(10) بل نقول: إنّ الله عز وجل يجازي العباد على أعمالهم، ويعاقبهم على أفعالهم، بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها فأمرهم ونهاهم، بذلك نطق كــتابه: (من جــاء بالحسنــة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجــزى إلاّ مثلها وهم ﻻ يظلمون)(11).
وقال جلّ ذكره: (يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه)(12).
وقال: (اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت ﻻ ظلم اليوم)(13) فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به، ومثلها في القرآن كثير، اختصرنا ذلك لئلاّ يطول الكتاب، وبالله التوفيق.
فأمّا التفويض الذي أبطله الصادق (عليه السّلام) وأخطأ من دان به وتقلده فهو قول القائل: إنّ الله جلّ ذكره فوّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته، وإلى هذا ذهبت الأئمّة المهتدية من عترة الرسول (عليهم السلام)، فإنّهم قالوا: لو فوّض إليهم على جهة الإهمال لكان لازماً له رضى ما اختاروه، واستوجبوا منه الثواب، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعاً، وتنصرف هذه المقالة على معنيين:
إمّا أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة، كره ذلك أم أحبّ، فقد لزمه الوهن.
أو يكون جلّ وعز عجز عن تعبّدهم بالأمر والنهي على إرادته، كرهوا أو أحبّوا ففوّض أمره ونهيه إليهم وأجراهما على محبّتهم، إذ عجز عن تعبّدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان، ومثل ذلك رجل ملك عبداً ابتاعه ليخدمه، ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه، وادّعى مالك العبد أنّه قاهر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب، وأوعده على معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره ونهيه، فأيّ أمر أمره أو أيّ نهي نهاه عنه لم يأته على إرادة المولى، بل كان العبد يتّبع إرادة نفسه، واتباع هواه، ولا يطيق المولى أن يردّه إلى اتباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته، ففوض اختيار أمره ونهيه إليه ورضى منه بكلّ ما فعله على إرادة العبد ﻻ على إرادة المالك، وبعثه في بعض حوائجه وسمّى له الحاجة فخالف على مولاه، وقصد لإرادة نفسه، واتبع هواه، فلمّا رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به فإذا هو خلاف ما أمره به فقال له: لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟
فقال العبد: اتّكلت على تفويضك الأمر إليّ فاتبعت هواي وإرادتي لأنّ المفوّض إليه غير محظور عليه فاستحال التفويض، أو ليس يجب على هذا السبب إمّا أن يكون المالك للعبد قادراً يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته ﻻ على إرادة العبد، ويملّكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرّفه الثواب والعقاب عليهما، وحذّره ورغّبه بصفة ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملّكه من الطاقة لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه فيكون عدله وإنصافه شاملاً له، وحجّته واضحة عليه للإعذار والإنذار، فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه، أو يكون عاجزاً غير قادر ففوض أمره إليه أحسن أم أساء أطاع أم عصى عاجز عن عقوبته وردّه إلى اتباع أمره، وفي إثبات العجز نفي القدرة والتألّه، وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب، ومخالفة الكتاب، إذ يقول: (ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)(14).
وقوله عز وجلّ: (اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون)(15).
وقوله: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)(16).
وقوله: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)(17).
وقوله: (أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون)(18).
فمن زعم أنّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليه قبول كلّ ما عملوا من خير وشرّ، وأبطل أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده لعلّة ما زعم أنّ الله فوّضها إليه لأنّ المفوّض إليه يعمل بمشيئته، فإن شاء الكفر أو الإيمان كان غير مردود عليه ولا محظور فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: (افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون)(19) تعالى الله عمّا يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً.
لكن نقول: إنّ الله عز وجل خلق الخلق بقدرته، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد فقبل منهم اتباع أمره ورضى بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذمّ من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهي عمّا يكره ويعاقب عليه، بالاستطاعة التي ملّكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لأنّه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحدّة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده اصطفى محمّداً (صلى الله عليه وآله) وبعثه برسالاته إلى خلقه فقال من قال من كفّار قومه حسداً واستكباراً: (لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)(20) يعني بذلك أميّة بن أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي، فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول: (أهم يقسمون رحمت ربّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريّا ورحمت ربّك خير ممّا يجمعون)(21).
ولذلك اختار من الأمور ما أحبّ، ونهى عمّا كره، فمن أطاعه أثابه، ومن عصاه عاقبه، ولو فوّض اختيار أمره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أميّة بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله)، فلمّا أدّب الله المؤمنين بقوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)(22) فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم ولم يقبل منهم إلاّ اتباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه فمن أطاعه رشد، ومن عصاه ضلّ وغوى ولزمته الحجّة بما ملّكه من الاستطاعة لاتباع أمره واجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه، وأنزل به عقابه، وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل، فقال له أمير المؤمنين: سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟
فسكت عباية.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السّلام): قل يا عباية.
قال: وما أقول؟
قال (عليه السّلام): إن قلت أنّك تملكها مع الله قتلتك! وإن قلت: تملكها دون الله قتلتك!
قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟
قال (عليه السّلام): تقول: إنّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن يملّكها إيّاك كان ذلك من عطائه، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه هو المالك لما ملّكك، والقادر على ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة حين يقولون: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله؟
قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟
قال (عليه السّلام): ﻻ حول عن معاصي الله إلاّ بعصمة الله، ولا قوّة لنا على طاعة الله إلاّ بعون الله.
قال: فوثب عباية فقبّل يديه ورجليه.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله قال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربّك.
قال (عليه السّلام): بالتمييز الذي خوّلني، والعقل الذي دلّني.
قال: أفمجبول أنت عليه؟
قال: لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً على إحسان، ولا مذموماً على إساءة، وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء، فعلمت أنّ الله قائم باق، وما دونه حدث حائل زائل، وليس القديم الباقي كالحديث الزائل.
قال نجدة: أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين!
قال: أصبحت مخيّراً فإن أتيت السيئة مكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر؟
قال (عليه السّلام): نعم يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلاّ بقضاء وقدر من الله.
فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين.
فقال (عليه السّلام): مه يا شيخ، فإنّ الله قد عظّم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين، ولا إليه مضطرين، لعلّك ظننت أنّه قضاء حتم وقدر لازم، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعيد، ولما ألزمت الأشياء أهلها على الحقائق، ذلك مقالة عبدة الأوثان وأولياء الشيطان، إنّ الله جلّ وعز أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
فقام الشيخ فقبّل رأس أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأنشأ يقول:

أنـت الإمــام الذي نرجو بطاعته

يوم النــجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت مـن ديننا ما كان ملتبساً

جـزاك ربك عـنّا فـيه رضوانا

فليس معذرة فــي فعل فاحشة

قـد كنت راكبها ظلماً وعصيانا

فقد دلّ قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) على موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلدهما الباطل والكفر، وتكذيب الكتاب، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر ولسنا ندين بجبر ولا تفويض، لكنّا نقول بمنزلة بين المنزلتين، وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكنا الله وتعبّدنا بها على ما شهد به الكتاب ودان به الأئمّة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.
ومثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملك عبداً وملك مالاً كثيراً أحبّ أن يختبر عبده على علم منه بما يؤول إليه، فملّكه من ماله بعض ما أحبّ، ووقفه على أمور عرّفها العبد، فأمره أن يصرف ذلك المال فيها، ونهاه عن أسباب لم يحبّها، وتقدّم إليه أن يجتنبها، ولا ينفق من ماله فيها، والمال يتصرّف في أيّ الوجهين، فصرف المال أحدهما في اتباع أمر المولى ورضاه، والآخر صرفه في اتباع نهيه وسخطه، وأسكنه دار اختبار أعلمه أنّه غير دائم له السكنى في الدار، وأنّ له داراً غيرها، وهو مخرجه إليها فيها ثواب وعقاب دائمان، فإن أنفذ العبد المال الذي ملّكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنّه مخرجه إليها، وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود، وقد حدّ المولى في ذلك حدّاً معروفاً وهو المسكن الذي أسكنه في دار الأولى فإذا بلغ الحدّ استبدل المولى بالمال وبالعبد على أنّه لم يزل مالكاً للمال والعبد في الأوقات كلّها، إلاّ أنّه وعد أن ﻻ يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الأولى إلى أن يستتمّ سكناه فيها، فوفى له، لأنّ من صفات المولى العدل والوفاء والنصفة والحكمة أو ليس يجب إن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب وتفضل عليه بأن استعمله في دار فانية وأثابه على طاعته فيها نعيماً دائماً في دار باقية دائمة، وإن صرف العبد المال الذي ملّكه مولاه أيّام سكناه تلك الدار الأولى في الوجه المنهيّ عنه وخالف أمر مولاه كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذّره إيّاها غير ظالم له لما تقدّم إليه وأعلمه وعرّفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده بذلك يوصف القادر القاهر.
وأمّا المولى فهو الله جلّ وعز، وأمّا العبد فهو ابن آدم المخلوق، والمال قدرة الله الواسعة، ومحنته إظهار(ه) الحكمة والقدرة، والدار الفانية هي الدنيا، وبعض المال الذي ملّكه مولاه هو الاستطاعة التي ملّك ابن آدم، والأمور التي أمر الله بصرف المال إليها هو الاستطاعة لاتباع الأنبياء والإقرار بما أوردوه عن الله جلّ وعز، واجتناب الأسباب التي نهى عنها هي طرق إبليس، وأمّا وعده فالنعيم الدائم وهي الجنّة، وأما الدار الفانية فهي الدنيا، وأمّا الدار الأخرى فهي الدار الباقية وهي الآخرة، والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة التي ملك العبد، وشرحها في الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق (عليه السّلام) أنّها جمعت جوامع الفضل، وأنا مفسّرها بشواهد من القرآن والبيان إنّ شاء الله.
(تفسير صحّة الخلقة):
أمّا قول الصادق: (فإنّ معناه كمال الخلق للإنسان وكمال الحواسّ وثبات العقل والتمييز، وإطلاق اللسان بالنطق، وذلك قول الله: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً)(23) فقد أخبر عز وجلّ عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع ودوابّ البحر والطير وكلّ ذي حركة تدركه حواسّ بني آدم بتمييز العقل والنطق، وذلك قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)(24).
وقوله: (يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم * الذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أيّ صورة ما شاء ركّبك)(25) وفي آيات كثيرة.
فأول نعمة الله على الإنسان صحّة عقله وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان، وذلك أنّ كلّ ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسّه مستكمل في ذاته ففضّل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواسّ.
فمن أجل النطق ملّك الله ابن آدم غيره من الخلق حتّى صار آمراً ناهياً، وغيره مسخّر له، كما قال الله: (كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم)(26).
وقال: (وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها)(27).
وقال: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس)(28) فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلى اتباع أمره وإلى طاعته بتفضيله إيّاه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة، بعد أن ملّكهم استطاعة ما كان تعبّدهم به بقوله: (فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا)(29) وقوله: (ﻻ يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها)(30) وقوله: (ﻻ يكلف الله نفساً إلا ما آتاها)(31) وفي آيات كثيرة.
فإذا سلب من العبد حاسّة من حواسّه رفع العمل عنه بحاسّة كقوله: (ليس على الأعمى حرج ولأعلى الأعرج حرج)(32)، فقد رفع عن كلّ من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الأعمال التي ﻻ يقوم إلاّ بها، وكذلك أوجب على ذي اليسار الحجّ والزكاة لما ملّكه من استطاعة ذلك، ولم يوجب على الفقير الزكاة والحجّ، قوله تعالى: (والله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً)(33).
وقوله في الظهار: (والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) إلى قوله: (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً)(34) كلّ ذلك دليل على أنّ الله تبارك وتعالى لم يكلّف عباده إلاّ ما ملّكهم استطاعته بقوّة العمل به ونهاهم عن مثل ذلك فهذه صحّة الخلقة.
وأمّا قوله: تخلية السرب:
فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره الله به وذلك قوله فيمن استضعف وحظر العمل فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلاً كما قال الله تعالى: (إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﻻ يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) فأخبر أنّ المستضعف لم يخلّ سربه وليس عليه من القول شيء إذا كان مطمئنّ القلب بالإيمان.
وأمّا المهلة في الوقت:
فهو العمر الذي يمتّع الإنسان من حدّ ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله، فمن مات على طلب الحقّ ولم يدرك كماله فهو على خير وذلك قوله: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله)(35) وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلّة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره، وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ)(36)، فلم يجعل عليهنّ حرجاً في إبداء الزينة للطفل وكذلك ﻻ تجري عليه الأحكام.
وأمّا قوله: الزاد
فمعناه الجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به، وذلك قوله: (ما على المحسنين من سبيل)(37).
ألا ترى أنّه قبل عذر من لم يجد ما ينفق، وألزم الحجّة كلّ من أمكنته البلغة والراحلة للحجّ والجهاد وأشباه ذلك، كذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقّاً في مال الأغنياء بقوله: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)(38)، فأمر بإعفائهم، ولم يكلّفهم الإعداد لما ﻻ يستطيعون ولا يملكون.
وأمّا قوله: في السبب المهيّج، فهو النيّة التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال، وحاسّتها القلب، فمن فعل فعلاً وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل الله منه عملاً إلاّ بصدق النيّة، ولذلك أخبر عن المنافقين بقوله: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون)(39) ثمّ أنزل على نبيّه (صلى الله عليه وآله) توبيخاً للمؤمنين:
(يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما ﻻ تفعلون)(40)، فإذا قال الرجل قولاً واعتقد في قوله دعته النيّة إلى تصديق القول بإظهار الفعل، وإذا لم يعتقد القول لم تتبيّن حقيقته، وقد أجاز الله صدق النيّة وإن كان الفعل غير موافق لها لعلّة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله: (إلاّ من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان)(41).
وقوله: (ﻻ يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)(42) فدلّ القرآن وأخبار الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّ القلب مالك لجميع الحواسّ، يصحح أفعالها، ولا يبطل ما يصحح القلب شيء، فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق (عليه السّلام) أنّها تجمع المنزلة بين المنزلتين، وهما الجبر والتفويض، فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال وجب عليه العمل كملاً لما أمر الله عز وجل به ورسوله، وإذا نقض العبد منها خلّة كان العمل عنها مطروحاً بحسب ذلك.
فأمّا شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة.
ومن ذلك قوله: (ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرون ونبلو أخباركم)(43).
وقال: (سنستدرجهم من حيث ﻻ يعلمون)(44).
وقال: (الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم ﻻ يفتنون)(45).
وقال: في الفتن التي معناها الاختبار: (ولقد فتنّا سليمان)(46).
وقال في قصّة موسى (عليه السّلام): (فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامري)(47).
وقول موسى: (إن هي إلاّ فتنتك)(48) أي: اختبارك.
فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض، وأمّا آيات البلوى بمعنى الاختبار قوله: (ليبلوكم فيما آتاكم)(49).
وقوله: (ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم)(50).
وقوله: (إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة)(51).
وقوله: (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً)(52).
وقوله: (وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات)(53).
وقوله: (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)(54) وكلّ ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أوّلها فهي اختبار وأمثالها في القرآن كثيرة، فهي إثبات الاختبار والبلوى أنّ الله جلّ وعزّ لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدىً، ولا أظهر حكمته لعباً، بذلك أخبر في قوله: (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً)(55).
فإن قال قائل: فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتّى اختبرهم؟
قلنا: بلى قد علم ما يكون منهم قبل كونه، وذلك قوله: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه)(56) وإنّما اختبرهم ليعلمهم عدله ولا يعذّبهم إلاّ بحجّة بعد الفعل، وقد أخبر بقوله: (ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً)(57).
وقوله: (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً)(58).
وقوله: (رسلاً مبشّرين ومنذرين)(59) فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملّكها عبده وهو القول بين الجبر والتفويض، وبهذا نطق القرآن وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله).
فإن قالوا: ما الحجّة في قول الله: (يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء) وما أشبهها؟
قيل: مجاز هذه الآيات كلّها على معنيين:
أمّا أحدهما: فإخبار عن قدرته أي أنّه قادر على هداية من يشاء وضلال من يشاء، وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب على نحو ما شرحناه في الكتاب.
والمعنى الآخر: أنّ الهداية منه تعريفه كقوله: (وأمّا ثمود فهديناهم) أي: عرّفناهم (فاستحبّوا العمى على الهدى)(60) فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلّوا، وليس كلّما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجّة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها، من ذلك قوله: (منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم..)(61).
وقال: (فبشّر عباد * الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه) أي: أحكمه وأشرحه (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)(62).
وفّقنا الله وإيّاكم إلى القول والعمل لما يحب ويرضى، وجنّبنا وإياكم معاصيه بمنّه وفضله، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

السجود لله أو لآدم؟(63)

إنّ السجود من الملائكة لآدم (عليه السّلام) لم يكن لآدم (عليه السّلام) وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لآدم.

التنصيص بالإمامة(64)

حدثنا الصقر بن أبي دلف قال: سمعت عليّ بن محمّد بن عليّ الرضا (عليهم السلام) يقول:
إنّ الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم، الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

الإمام الغائب(65)

عن أبي هاشم الجعفري قال سمعت أبا الحسن العسكري (عليه السّلام) يقول:
الخلف من بعدي الحسن ابني، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟
قلت: ولم جعلني الله فداك؟
قال: لأنّكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه.
قلت: فيكف نذكره؟
فقال: قولوا: الحجّة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله).

عليكم بصاحبكم(66)

عن أحمد بن عيسى العلويّ، من ولد عليّ بن جعفر قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السّلام) بصريا(67) فسلمّنا عليه، فإذا نحن بأبي جعفر وأبي محمّد قد دخلا، فقمنا إلى أبي جعفر لنسلّم عليه. فقال أبو الحسن (عليه السّلام):
ليس هذا صاحبكم، عليكم بصاحبكم وأشار إلى أبي محمّد (عليه السّلام).

صاحبكم بعدي(68)

عن عبد الله بن محمّد الأصفهاني قال: قال لي أبو الحسن (عليه السّلام):
صاحبكم بعدي الّذي يصلّى عليّ.
قال: ولم نكن نعرف أبا محمّد قبل ذلك.
قال: فخرج أبو محمّد بعد وفاته فصلّى عليه.

تنصيص وتعيين(69)

عن أبي بكر الفهفكي قال: كتب إليّ أبو الحسن (عليه السّلام):
(أبو محمّد ابني أنصح آل محمد غريزة، وأوثقهم حجّة، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخلف، وإليه ينتهي عرى الإمامة وأحكامها، فما كنت سائلي فسله عنه، فعنده ما يحتاج إليه).

إذا غاب صاحبكم(70)

عن عليّ بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السّلام) أسأله عن الفرج فكتب إليّ:
إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين، فتوقعوا الفرج.

صاحب هذا الأمر(71)

عن إسحاق بن محمّد بن أيوب قال: سمعت أبا الحسن عليّ بن محمد بن علي بن موسى (عليهما السلام) يقول: صاحب هذا الأمر من يقول الناس: لم يولد بعد.
 

المصادر:

-موقع http://www.14masom.com


(1) التوحيد 81-82، ب 2، ح 37: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، وعلي بن عبد الله الوراق، قال: حدثنا محمد بن هارون الصوفي، قال: حدثنا أبو تراب عبيد الله بن موسى الروياني. 
(2) تحف العقول 458-475
(3) سورة المائدة: الآية 55 و56
(4) سورة الأحزاب: الآية 57
(5) سورة الكهف: الآية 49 
(6) سورة الحج: الآية 10 
(7) سورة البقرة: الآية 81
(8) سورة النساء: الآية 10 
(9) سورة النساء: الآية 56
(10) سورة البقرة: الآية 85
(11) سورة الأنعام: الآية 160
(12) سورة آل عمران: الآية 30
(13) سورة غافر: الآية 17
(14) سورة الزمر: الآية 7
(15) سورة آل عمران: الآية 102
(16) سورة الذاريات: الآية 56 و57
(17) سورة النساء: الآية 36
(18) سورة الأنفال: الآية 20
(19) سورة البقرة: الآية 85
(20) سورة الزخرف: الآية 31
(21) سورة الزخرف: الآية 32
(22) سورة الأحزاب: الآية 36
(23) سورة الإسراء: الآية 70
(24) سورة التين: الآية 4
(25) سورة الانفطار: الآية 6-7-8
(26) سورة الحجّ: الآية 37
(27) سورة النحل: الآية 14
(28) سورة النحل: الآية 5- 7
(29) سورة التغابن: الآية 16
(30) سورة البقرة: الآية 286
(31) سورة الطلاق: الآية 7
(32) سورة النور: الآية 61 والفتح: الآية 17
(33) سورة آل عمران: الآية 97
(34) سورة المجادلة: الآية 3 و4
(35) سورة النساء: الآية 98
(36) سورة النور: الآية 31
(37) سورة التوبة: الآية 91
(38) سورة البقرة: الآية 273
(39) سورة آل عمران: الآية 167
(40) سورة الصف: الآية 2
(41) سورة النحل: 106
(42) سورة البقرة: الآية 225
(43) سورة محمّد (صلى الله عليه وآله): الآية 31
(44) سورة الأعراف: الآية 182، القلم: الآية 44
(45) سورة العنكبوت: الآية 1 و2
(46) سورة ص: الآية 34
(47) سورة طه: الآية 85
(48) سورة الأعراف: الآية 155
(49) سورة المائدة: الآية 48، الأنعام: الآية 165
(50) سورة آل عمران: الآية 152
(51) سورة القلم: الآية 17
(52) سورة الملك: الآية 2
(53) سورة البقرة: الآية 124
(54) سورة محمّد: الآية 4
(55) سورة المؤمنون: الآية 115
(56) سورة الأنعام: الآية 28
(57) سورة طه: الآية 134
(58) سورة الإسراء: الآية 15
(59) سورة النساء: الآية 165
(60) سورة فصلت: الآية 17
(61) سورة آل عمران: الآية 7
(62) سورة الزمر: الآية 17 و18
(63) تحف العقول 478: عن أبي الحسن الثالث (عليه السّلام) قال:..
(64) كمال الدين 2/ 383 ب 37 ح 10: حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) قال:..
(65) كمال الدين 2/648 ب 56 ح 4، وأصول الكافي 1/332-333، وإعلام الورى 370 ب 10 الفصل 2 وغيبة الشيخ الطوسي 121 - 122: حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله عن محمّد بن أحمد العلّوي.
(66) غيبة الشيخ الطوسي: 120، روي سعد بن عبد الله
(67) صريا: قرية أسسها موسى بن جعفر (عليه السّلام) على ثلاثة أميال من المدينة
( 68) الإرشاد 314 وأصول الكافي 1/326 ح 3 وإعلام الورى 368 ب 10 الفصل 2: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن محمّد عن جعفر بن محمد الكوفي عن بشار بن أحمد
( 69) أصول الكافي 1/327 - 328 ح 11، والإرشاد 337 وإعلام الورى 369 ب 1 فصل 2: عليّ بن محمّد، عن إسحاق بن محمّد، عن محمد بن يحيى بن درياب
( 70) كمال الدين 2/380 - 381 ب 37 ح 2 و3 حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميريّ عن محمّد بن عمر الكاتب عن عليّ بن محمّد الصيمري
(71) كمال الدين 2/381-382 ب 37 ح 6 حدثنا أبي ومحمّد بن الحسن قالاً: حدثنا سعد بن عبد الله عن الحسن بن موسى الخشّاب

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة