أوّلي وحدانيّ(1)
إلهي تاهت أوهام المتوهّمين وقصر طرف الطارفين وتلاشت أوصاف الواصفين، واضمحلّت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنك، أو الوقوع بالبلوغ إلى علوّك، فأنت في المكان الذي ﻻ يتناهى ولم تقع عليك عيون بإشارة ولا عبارة، هيهات ثمّ هيهات يا أوليّ يا وحدانيّ يا فردانيّ، شمخت في العلوّ بعزّ الكبر، وارتفعت من وراء كلّ غورة ونهاية بجبروت الفخر.
نزّه نفسه(2)
سألت أبا الحسن عليّ بن محمد العسكري (عليه السّلام) عن قوله الله عزّ وجلّ (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه)(3)؟ فقال: ذلك تعيير الله تبارك وتعالى لمن شبّهه بخلقه، ألا ترى أنّه قال: (وما قدروا الله حقّ قدره) إذ قالوا: إنّ الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه، كما قال عزّ وجلّ: (وما قدروا الله حقّ قدره) إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء ثمّ نزّه عز وجلّ نفسه عن القبضة واليمين، فقال: (سبحانه وتعالى عمّا يشركون).
البعيد القريب(4)
إنّ الله ﻻ يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به، نأى في قربه، وقرب في نأيه، كيّف الكيف بغير أن يقال كيف، وأيّن الأين بلا أن يقال: أين، منقطع الكيفيّة والأينية، الواحد الأحد، جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه.
هو الواحد الصمد(5)
قال فتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمنّي وأبا الحسن (عليه السّلام) الطريق حين منصرفي من مكّة إلى خراسان وهو صائر إلى العراق فسمعته وهو يقول: من اتقّى الله يُتّقى، ومن أطاع الله يُطاع.
قال: فتلطّفت في الوصول إليه فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام وأمرني بالجلوس وأوّل ما ابتدأني به أن قال:
يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحلّ به الخالق سخط المخلوق، وإنّ الخالق ﻻ يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به.
جلّ عمّا يصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيّف الكيف فلا يقال كيف، وأيّن الأين فلا يقال أين، إذ هو منقطع الكيفية والأينيّة، هو الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فجلّ جلاله.
أم كيف يوصف بكنهه محمّد (صلى الله عليه وآله) وقد قرنه الجليل باسمه، وشركه في عطائه وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته، إذ يقول: (وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله)(6).
وقال: يحكي قول من ترك طاعته، وهو يعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا)(7) أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(8).
وقال: (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم)(9) وقال: (إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها)(10) وقال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ﻻ تعلمون)(11).
يا فتح، كما ﻻ يوصف الجليل جلّ جلاله، والرسول، والخليل، وولد البتول (عليه السّلام)، فكذلك ﻻ يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا، فنبيّنا أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاّء، ووصيّه أكرم الأوصياء، اسمهما أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى وأجلاها، لو لم يجالسنا إلاّ كفو لم يجالسنا أحد، ولو لم يزوّجنا إلاّ كفو لم يزوّجنا أحد.
أشدّ الناس تواضعاً، وأعظمهم حلماً وأنداهم كفّاً وأمنعهم كنفاً، ورث عنهما أوصياؤهما علمهما، فاردد إليهم الأمر، وسلّم إليهم، أماتك الله مماتهم، وأحياك حياتهم، فاذهب إذا شئت رحمك الله.
قال فتح: فخرجت فلمّا كان من الغد تلطّفت في الوصول إليه فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام.
فقلت: يا بن رسول الله أتأذن لي في مسألة اختلج في صدري أمرها ليلتي؟
قال: سل! وإن شرحتها فلي وإن أمسكتها فلي، فصحّح نظرك وتثّبت في مسألتك وأصغ إلى جوابها سمعك، ولا تسأل مسألة تعنّت واعتن بما تعتني به، فإنّ العالم والمتعلّم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة منهيّان عن الغشّ.
وأمّا الذي اختلج في صدرك ليلتك فإن شاء العالم أنبأك، إنّ الله لم يظهر على غيبه أحد إلاّ من ارتضى من رسول، فكلّ ما كان عند الرّسول كان عند العالم.
وكلّ ما اطّلع عليه الرسول فقد اطّلع عليه أوصياؤه لئلا تخلو أرضه من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته.
يا فتح عسى الشيطان أراد اللّبس عليك، فأوهمك في بعض ما أودعتك، وشكّكك في بعض ما أنبأتك، حتّى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم؟
فقلت: (متي أيقنت أنّهم كذا فهم أرباب) معاذ الله إنّهم مخلوقون مربوبون، مطيعون لله، داخرون راغبون، فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به.
فقلت له: جعلت فداك! فرّجت عنّي، وكشفت ما لبّس الملعون عليّ بشرحك فقد كان أوقع في خلدي أنّكم أرباب.
قال: فسجد أبو الحسن (عليه السّلام) وهو يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً.
قال: فلم يزل كذلك حتّى ذهب ليلي.
ثمّ قال: يا فتح كدت أن تَهلك وتُهلك. وما ضرّ عيسى (عليه السّلام) إذا هلك من هلك فاذهب إذا شئت رحمك الله.
قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عنّي من اللّبس بأنّهم هم، وحمدت الله على ما قدرت عليه.
فلمّا كان في المنزل الآخر، دخلت عليه وهو متّكئ، وبين يديه حنطة مقلوّة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان في خلدي أنّه ﻻ ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفة، والإمام غير مأوف.
فقال: اجلس يا فتح فإنّ لنا بالرسل أسوة كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكلّ جسم 0مغذوّ بهذا إلاّ الخالق الرازق، لأنه جسّم الأجسام، وهو لم يجسّم، ولم يجزّأ بتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص مبرّأ من ذاته ما ركّب في ذات مَن جسّمه.
الواحد الأحد الصد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، وهو السميع العليم، اللّطيف الخبير الرّؤوف الرحيم تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
لو كان كما يوصف لم يُعرف الربّ من المربوب ولا الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المُنشَأ، ولكنّه فرق بينه وبين من جسّمه، وشيّأ الأشياء إذ كان، ﻻ يشبهه شيء يرى ولا يشبه شيئاً.
المصادر:
-موقع http://www.14masom.com
1 - التوحيد 66، ب 2، ح 19: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثني محمد بن جعفر البغدادي، عن سهل بن زياد، عن أبي الحسن عليّ بن محمد (عليه السّلام) أنه قال: ...
2 - معاني الأخبار 14، ب 13، ح 4: حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثنا علي بن محمد المعروف بعلان الكليني، قال: حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد، قال:...
3 - سورة الزمر: الآية 67.
4 - تحف العقول 482: عن أبي الحسن الثالث (عليه السّلام)، قال:...
5 - كشف الغمة 2/386.
6 - سورة التوبة: الآية 74
7 - سورة الأحزاب: الآية 66
8 - سورة النساء: الآية 59
9 - سورة النساء: الآية 83
10 - سورة النساء: الآية 58
11 - سورة النحل: الآية 43