البث المباشر

من مناقبه وفضائله

الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 - 13:01 بتوقيت طهران

لقد تحلّى الإمام الهادي(عليه السلام) بمكارم الأخلاق التي بعث جدّه الرسول الأعظم لتتميمها، واجتمعت في شخصيته كل عناصر الفضل والكمال التي لا يسعنا الاحاطة بها ولا تصويرها، ولكن هذا لا يمنع أن نشير الى جملة من مكارم أخلاقه التي تجلّت في صور من سلوكه. وإليك بعض هذه المكارم التي نصّت عليها كتب السيرة والتاريخ.

الكرم

كان (عليه السلام) من أبسط الناس كفاً، وأنداهم يداً، وكان على غرار آبائه الذين أطعموا الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وكانوا يطعمون الطعام حتى لا يبقى لأهلهم طعام، ويكسونهم حتى لا يبقى لهم كسوة(1).
وقد روى المؤرّخون بوادر كثيرة من برّ الإمام الهادي (عليه السلام) واحسانه إلى الفقراء وإكرامه البائسين، نقتصر منها على ما يلي:
1 ـ وفد جماعة من أعلام الشيعة على الإمام الهادي (عليه السلام) وهم أبو عمرو عثمان بن سعيد، وأحمد بن اسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الحمداني، فشكا إليه أحمد بن اسحاق ديناً عليه، فالتفت (عليه السلام) إلى وكيله عمرو، وقال له: ادفع له ثلاثين ألف دينار، والى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، كما أعطى وكيله مثل هذا المبلغ.
وعلّق ابن شهرآشوب على هذه المكرمة العلوية بقوله: « فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء »(2).
2 ـ اشترى اسحاق الجلاب لأبي الحسن الهادي (عليه السلام) غنماً كثيرة يوم التروية، فقسمها في أقاربه(3).
3 ـ وكان قد خرج من سامراء إلى قرية له، فقصده رجل من الأعراب، فلم يجده في منزله فأخبره أهله بأنه ذهب إلى ضيعة له، فقصده، ولما مثل عنده سأله الإمام عن حاجته، فقال بنبرات خافتة: ياابن رسول الله، أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاية جدّك علي بن أبي طالب، وقد ركبني فادح ـ أي دين ـ أثقلني حمله، ولم أرَ من أقصده سواك.
فرقّ الإمام لحاله، وأكبر ما توسل به، وكان (عليه السلام) في ضائقة لا يجد ما يسعفه به، فكتب (عليه السلام) ورقة بخطّه جاء فيها: أن للأعرابي ديناً عليَّ، وعيّن مقداره، وقال له: خذ هذه الورقة، فإذا وصلت إلى سر من رأى، وحضر عندي جماعة فطالبني بالدين الذي في الورقة، وأغلظ عليّ في ترك إيفائك، ولا تخالفني فيما أقول لك. فأخذ الأعرابي الورقة، ولما قفل الإمام إلى سرّ من رأى حضر عنده جماعة كان فيها من عيون السلطة ومباحث الأمن، فجاء الأعرابي فأبرز الورقة، وطالب الإمام بتسديد دينه الذي في الورقة فجعل الإمام(عليه السلام) يعتذر إليه، والاعرابي يغلظ له في القول، ولما تفرّق المجلس بادر رجال الأمن إلى المتوكل فأخبروه بالأمر فأمر بحمل ثلاثين ألف درهم إلى الإمام فحملت له، ولما جاء الأعرابي قال له الإمام(عليه السلام):
« خذ هذا المال واقضِ منه دينك، وانفق الباقي على عيالك وأهلك واعذرنا... ».
وأكبر الاعرابي ذلك، وقال للامام: ان ديني يقصر على ثلث هذا المبلغ. فأبى الإمام(عليه السلام) أن يستردّ منه من الثلاثين شيئاً، فولّى الاعرابي وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته(4).

الزهد

لقد عزف الإمام الهادي(عليه السلام) عن جميع مباهج الحياة ومتعها وعاش عيشة زاهدة إلى أقصى حدّ، لقد واظب على العبادة والورع والزهد، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة، وآثر طاعة الله على كل شيء، وقد كان منزله في يثرب وسرّ من رأى خالياً من كل أثاث، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة، وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأى، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر وهو جالس على الرمل والحصى، ليس بينه وبين الأرض فراش (5).

العمل في المزرعة

وتجرّد الإمام العظيم من الأنانية، حتى ذكروا إنّه كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله، فقد روى عليّ بن حمزة حيث قال: «رأيت أبا الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق فقلت له: جعلت فداك أين الرجال ؟
فقال الإمام: يا علي قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه.
قلت: من هو ؟
قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين»(6).

إرشاد الضالين

واهتمّ الإمام الهادي (عليه السلام) اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحق وهدايتهم إلى سواء السبيل، وكان من بين من أرشدهم الإمام وهداهم أبو الحسن البصري المعروف بالملاح، فقد كان واقفياً يقتصر على إمامة الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) ولا يعترف بإمامة أبنائه الطاهرين، فالتقى به الإمام الهادي فقال له: « الى متى هذه النومة ؟ أما آن لك أن تنتبه منها؟!».
وأثّرت هذه الكلمة في نفسه فآب إلى الحقّ، والرشاد (7).

التحذير عن مجالسة الصوفيين

وحذّر الإمام الهادي(عليه السلام) أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم لأنهم مصدر غواية وضلال للناس، فهم يظهرون التقشّف والزهد لاغراء البسطاء والسذّج وغوايتهم.
فلقد شدّد الإمام الهادي(عليه السلام) في التحذير من الاختلاط بهم حتى روى الحسين بن أبي الخطاب قال: كنت مع أبي الحسن الهادي (عليه السلام) في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند الإمام (عليه السلام) وبينما نحن وقوف اذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم:
« لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين، ومخرّبو قواعد الدين، يتزهّدون لإراحة الأجسام، ويتهجّدون لصيد الأنعام، يتجرّعون عمراً حتى يديخوا للايكاف(8) حمراً، لا يهللون إلاّ لغرور الناس، ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملء العساس واختلاس قلب الدفناس(9)، يكلّمون الناس باملائهم في الحبّ، ويطرحونهم بإذلالهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حياً أو ميتاً ، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحداً منهم فكـأنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان».
فقال أحد أصحابه: وإن كان معترفاً بحقوقكم ؟
فزجره الإمام وصاح به قائلاً: « دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية، والصوفية كلهم مخالفونا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الاُمة، أُولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون»(10).

تكريمه للعلماء

وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يكرم رجال الفكر والعلم ويحتفي بهم ويقدّمهم على بقية الناس لأنّهم مصدر النور في الأرض، وكان من بين من كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم، وكان قد بلغه عنه انه حاجج ناصبياً فأفحمه وتغلّب عليه فسرّ الإمام (عليه السلام) بذلك، ووفد العالم على الإمام فقابله بحفاوة وتكريم، وكان مجلسه مكتظّـاً بالعلويين والعباسيين، فأجلسه الإمام على دست، وأقبل عليه يحدّثه، ويسأل عن حاله سؤالاً حفياً، وشقّ ذلك على حضار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلى الإمام، وقالوا له: كيف تقدّمه على سادات بني هاشم ؟
فقال لهم الإمام: «إيّاكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ( ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولّى فريق منهم وهم معرضون ) (11) أترضون بكتاب الله عزّوجلّ حكماً ؟»
فقالوا جميعاً: بلى ياابن رسول الله(12).
وأخذ الإمام يقيم الدليل على ما ذهب إليه قائلاً: أليس الله قال: ( يا أيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ـ إلى قوله ـ: والذين أُوتوا العلم درجات ) (13) فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه قال تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات ) أو قال: يرفع الله الذين أُوتوا شرف النسب درجات؟! أو ليس قال الله: (...هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟...)(14).
فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله، إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأشرف من كل شرف في النسب.
وسكت الحاضرون، فقد ردّ عليهم الإمام ببالغ حجّته، إلاّ ان بعض العبّاسيين انبرى قائلاً:
يا ابن رسول الله لقد شرّفت هذا علينا، وقصرتنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الاسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه.
وهذا منطق رخيص فإن الاسلام لا يخضع بموازينه إلاّ للقيم الصحيحة التي لم يعِها هذا العباسي، وقد ردّ عليه الإمام (عليه السلام) قائلاً:
سبحان الله! أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي، والعباس هاشمي، أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب، وهو هاشمي أبو الخلفاء، وعمر عدوي، وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى، ولم يدخل العباس؟! فإن كان رفعاً لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكراً، فأنكروا على العباس بيعته لأبي بكر وعلى عبد الله بن عباس بخدمته لعمر، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز»(15).

عبادته

إنّ الاقبال على الله والإنابة إليه واحياء الليالي بالعبادة ومناجاة الله وتلاوة كتابه هي السّمة البارزة عند أهل البيت(عليهم السلام).
أما الإمام الهادي (عليه السلام) فلم يرَ الناس في عصره مثله في عبادته وتقواه وشدّة تحرّجه في الدين، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتى بها، وكان يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأول سورة الحديد إلى قوله تعالى: ( انّه عليم بذات الصدور ) وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات(16).
قيل للمتوكل: إن في منزله أسلحة يطلب الخلافة، فوجه إليه رجالاً هجموا عليه فدخلوا داره فوجدوه في بيته، وعليه مدرعة من شعر، وعلى رأسه الشريف ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة ليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل والحصى، وهو يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فحملوه إليه على ألبسته المذكورة فلما رآه عظمه وأجلسه إلى جنبه، فكلمه فبكى المتوكل بكاء طويلاً، ثم قال: يا أبا الحسن عليك دين؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر المتوكل بدفعها إليه، ثم رده إلى منزله مكرماً(17).

بركات ولايته

• روى المجلسي بإسناده عن هبة الله بن أبي منصور الموصلّي أنه كان بديار ربيعة كاتب نصراني، وكان من أهل كفرتوثا(18) يسمّى يوسف بن يعقوب وكان بينه وبين والدي صداقة، قال: فوافى فنزل عند والدي. فقال له: ما شأنك فدمت في هذا الوقت؟ قال: دعيت إلى حضرة المتوكل ولا أدري ما يراد منّي إلاّ أنّي اشتريت نفسي من الله بمائة دينار، وقد حملتها لعليّ بن محمد بن الرضا (عليه السلام) معي، فقال له والدي: قد وفّقت في هذا.
قال: وخرج إلى حضرة المتوكّل وانصرف إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً فقال له والدي: حدّثني حديثك، قال: صرت إلى سرّ من رأى وما دخلتها قطّ، فنزلت في دار وقلت: أحبّ أن أُوصل المائة إلى ابن الرضا (عليه السلام) قبل مصيري إلى باب المتوكّل وقبل أن يعرف أحد قدومي قال: فعرفت أنّ المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره فقل: كيف أصنع؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا لا آمن أن يبدر بي فيكون ذلك زيادة فيما أحاذره.
قال: ففكّرت ساعة في ذلك فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد ولا أمنعه من حيث يذهب لعليّ أقف على معرفة داره من غير أن اسأل أحداً قال: فجعلت الدنانير في كاغذة، وجعلتها في كمّي وركبت فكان الحمار يتخرّق الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء إلى أن صرت إلى باب دار، فوقف الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل، فقلت للغلام: سلْ لمن هذه الدّار؟ فقيل: هذه دار ابن الرضا! فقلت: الله أكبر، دلالة والله مقنعة.
قال: وإذا خادم أسود قد خرج فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟ قلت: نعم قال: انزل فنزلت فأقعدني في الدهليز فدخل فقلت في نفسي: هذه دلالة أُخرى من أين عرف هذا الغلام اسمي، وليس في هذا البلد من يعرفني ولا دخلته قط.
قال: فخرج الخادم فقال: مائة دينار التي في كمّك في الكاغذ هاتها! فناولته إيّاها قلت: وهذه ثالثة ثم رجع إليّ وقال: ادخل فدخلت إليه وهو في مجلسه وحده فقال: يا يوسف ما بان لك؟ فقلت: يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفى، فقال: هيهات إنّك لا تسلم ولكن سيسلم ولدك فلان، وهو من شيعتنا، يا يوسف إنّ أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم، كذبوا والله إنها لتنفع أمثالك، امضِ فيملا وافيت له فإنّك سترى ما تحبّ قال: فمضيت إلى باب المتوكّل فنلت كلّ ما أردت فانصرفت.
قال هبة الله: فلقيت ابنه بعد هذا ـ يعني بعد موت والده ـ والله وهو مسلم حسن التشيّع، فأخبرني أنّ أباه مات على النصرانيّة، وأنّه أسلم بعد موت أبيه، وكان يقول: أنا بشارة مولاي)(19).

• وروى بإسناده عن أبي محمد الفحّام بالإسناد عن أبي الحسن محمد بن أحمد قال: حدّثني عمّ أبي قال: (قصدت الإمام يوماً فقلت: إنّ المتوكّل قطع رزقي وما أتّهم في ذلك إلاّ علمه بملازمتي لك، فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته فقال: تكفى إن شاء الله، فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكّل، رسول يتلو رسولاً، فجئت إليه فوجدته في فراشه فقال: يا أبا موسى يشتغل شغلي عنك وتنسينا نفسك، أي شيء لك عندي؟ فقلت الصلة الفلانية وذكرت أشياء فأمر لي بها ويضعفها، فقلت للفتح، وافى عليّ بن محمد إلى هاهنا أو كتب رقعة؟ قال: لا قال: فدخلت على الإمام فقال لي: يا أبا موسى هذا وجه الرضا، فقلت: ببركتك يا سيّدي ولكن قالوا إنّك ما مضيت إليه ولا سألت، قال: إنّ الله تعالى علم منّا أنا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ونخاف أن نعدل فيعدل بنا)(20).

• روى الأربلي بإسناده عن جماعة من أهل أصفهان، منهم أبو العبّاس أحمد بن النصر، وأبو جعفر محمد بن علويّة قالوا: (كان بأصفهان رجل يقال له عبد الرحمن وكان شيعيّاً، فقيل له: ما السبب الذي أوجب عليك القول بإمامة عليّ النقيّ دون غيره من أهل الزمان؟ فقال: شاهدت ما يوجب عليّ ذلك، إنّي كنت رجلاً فقيراً وكان لي لسان وجرأة فأخرجني أهل أصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين، فجئنا إلى باب المتوكّل متظلّمين، وكنّا بباب المتوكل يوماً إذ خرج الأمر بإحضار علي بن محمد بن الرضا فقلت لبعض من حضره: من هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره؟ فقيل: هذا رجل علويّ تقول الرافضة بإمامته، ثم قيل: ونقدر أنّ المتوكل يحضره للقتل فقلت: لا أبرح من هاهنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو؟
قال: فأقبل راكباً على فرس، وقد قام الناس صفّين يمنة الطريق ويسرتها ينظرون إليه، فلمّا رأيته وقفت فأبصرته فوقع حُبّه في قلبي، فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شرّ المتوكّل فاقبل يسير بين الناس، وهو ينظر إلى عرف دابّته لا يلتفت وأنا دائم الدعاء له فلمّا صار إليّ أقبل عليّ بوجهه وقال: استجاب الله دعاءك وطوّل عمرك وكثّر مالك وولدك قال: فارتعدت ووقعت بين أصحابي فسألوني ما شأنك؟ فقلت: خير ولم أخبرهم.
فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان، ففتح الله عليّ وجوهاً من المال حتى أنّي أغلق باب علي ما قيمته ألف ألف درهم سوى مالي خارج داري، ورزقت عشرة من الأولاد وقد بلغت من عمري نيّفاً وسبعين سنة، وأنا أقول بإمامة هذا الذي علم ما في قلبي واستـجـاب الله دعـاءه لي)(21).

• روى المجلسي بإسناده عن كافور الخادم قال: (كان في الموضع مجاور الإمام من أهل الصنايع صنوف من الناس، وكان الموضع كالقرية وكان يونس النقّاش يغشى سيّدنا الإمام (عليه السلام) ويخدمه. فجاء يوماً يرعد، فقال: يا سيّدي أُوصيك بأهلي خيراً. قال: وما الخبر؟ قال: عزمت على الرحيل قال: ولِمَ يا يونس؟ وهو (عليه السلام) متبسّم قال: موسى بن بغا، وجّه إليّ بفصّ ليس له قيمة قبلت أن أنقشه فكسرته باثنين وموعده غداً، وهو موسى بن بغا، إمّا ألف سوط أو القتل، قال: امضِ إلى منزلك إلى غد فما يكون إلاّ خيراً.
فلمّا كان من الغد وافى بكرة يرعد فقال: قد جاء الرسول يلتمس الفصّ قال: امضِ إليه فما ترى إلاّ خيراً، قال: وما أقول له يا سيّدي؟ قال: فتبسّم وقال: امض إليه واسمع ما يخبرك به، فلن يكون إلاّ خيراً.
قال: فمضى وعاد يضحك، قال: قال لي: يا سيّدي الجواري اختصمن فيمكنك أن تجعله فصّين حتى نغنيك؟ فقال سيّدنا الإمام (عليه السلام): اللّهمّ لك الحمد إذ جعلتنا ممّن يحمدك حقّاً فأيش قلت له؟ قال: قلت له: أمهلني حتى أتأمّل أمره كيف أعمله؟ فقال: أصبت)(22).

• قال ابن الصباغ المالكي: وأما مناقبه، فقال الشيخ كمال الدين بن طلحة: فمنها ما حل في الآذان محل جلالها باتصافها، واكتناف اللئالي اليتيمة بأصدافها وشهد لأبي الحسن علي الرابع أن نفسه موصوفة بنفايس أوصافها وأنه نازل في الدرجة النبوية في دار أشرافها، وشرفات أغرافها، فمن ذلك أن أبا الحسن كان قد خرج يوماً من سر من رأى إلى قرية له لمهمٍّ عرض له فجاء رجل من بعض الأعراب يطلبه في داره فلم يجده، وقيل له: إنه ذهب إلى الموضع الفلاني فقصده إلى موضعه فلما وصل إليه قال له: ما حاجتك؟ فقال له: أنا رجل من أعراب الكوفة المستمسكين بولاء جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد ركبتني ديون فادحة أثقل ظهري حملها، ولم أر من أقصده لقضائها سواك، فقال له أبو الحسن: كم دينك؟ فقال: نحو العشرة آلاف درهم، فقال: طب نفساً وقر عيناً يقضى دينك إن شاء الله تعالى، ثم أنزله فلما أصبح قال له: يا أخا العرب أريد منك حاجة لا تعصني فيها ولا تخالفني، والله الله فيما آمرك به وحاجتك تقضى إن شاء الله تعالى، فقال الأعرابي: لا أَخالفك في شيء مما تأمرني به، فأخذ أبو الحسن ورقة وكتب فيها بخطه ديناً عليه للأعرابي بالمذكور، وقال: خذ هذا الخط معك فإذا حضرت سر من رأى، فتراني أجلس مجلساً عاماً فإذا حضر الناس واحتفل المجلس فتعال إلي بالخط، وطالبني وأغلظ علي في القول ولا عليك، والله الله أن تخالفني في شيء مما أوصيك به فلما وصل أبو الحسن إلى سر من رأى جلس مجلساً عاماً وحضر عند جماعة من وجوه الناس وأصحاب الخليفة المتوكل وأعيان البلد وغيرهم فجاء ذلك الأعرابي، وأخرج الخط وطالبه بالمبلغ المذكور، وأغلظ عليه الكلام فجعل أبو الحسن يعتذر إليه، ويطيب نفسه وبالقول، ويعده بالخلاص عن قريب، وكذلك الحاضرون، وطلب منه المهلة ثلاثة أيام، فلما انفك المجلس نقل ذلك الكلام إلى الخليفة المتوكل فأمر لأبي الحسن على الفور بثلاثين ألف درهم فلما حملت إليه تركها إلى أن جاء الأعرابي، فقال له: خذ هذا المال فاقض فنه دينك، واستعن بالباقي على قوتك، والقيام على عائلتك، فقال الأعرابي: يابن رسول الله، والله إن في العشرة آلاف بلوغ مطلبي ونهاية اربي وكفاية لي فقال أبو الحسن: والله لتأخذن ذلك جميعه، وهو رزقك الذي ساقه الله إليك ولو كان أكثر من ذلك ما نقصناه، فأخذ الأعرابي الثلاثين ألف درهم وانصرف وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته(23).

• قال كمال الدين محمد بن طلحة: فأخذ المال وانصرف، وهذه منقبة من سمعها حكم بمكارم الأخلاق، وقضى له بالمنقبة المـحكومة بالإنفاق(24).

استجابة دعائه

وقد ذكرت بوادر كثيرة من استجابة دعاء الإمام (عليه السلام) عند الله كان منها:
1 ـ ما رواه المنصوري عن عمّ أبيه، قال: قصدت الإمام عليّاً الهادي، فقلت له: يا سيّدي ان هذا الرجل ـ يعني المتوكّل ـ قد اطرحني، وقطع رزقي، وملّني وما اُتّهم به في ذلك هو علمه بملازمتي بك، وطلب من الإمام التوسّط في شأنه عند المتوكّل، فقال (عليه السلام): تُكفى إن شاء الله، ولما صار الليل طرقته رسل المتوكل فخفّ معهم مسرعاً إليه، فلما انتهى إلى باب القصر رأى الفتح واقفاً على الباب فاستقبله وجعل يوبّخه على تأخيره ثم أدخله على المتوكّل فقابله ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: يا أبا موسى تنشغل عنّا، وتنسانا؟! أي شيء لك عندي؟
وعرض الرجل حوائجه وصِلاته التي قطعها عنه، فأمر المتوكّل بها وبضعفها له، وخرج الرجل مسروراً.
وانصرف الرجل فتبعه الفتح فأسرع إليه قائلاً:
لست أشكّ أنك التمست منه ـ أي من الإمام ـ الدعاء، فالتمس لي منه الدعاء.
ومضى ميمّماً وجهه نحو الإمام (عليه السلام) فلمّا تشرّف بالمثول بين يديه قال(عليه السلام) له: يا أبا موسى هذا وجه الرضا.
فقال الرجل بخضوع: ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيت إليه ولا سألته.
فأجابه الإمام ببسمات قائلاً: ان الله تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمات إلاّ إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.
وفطن الرجل إلى ان الإمام قد دعا له بظهر الغيب، وتذكّر ما سأله الفتح فقال: يا سيّدي ان الفتح يلتمس منك الدعاء.
فلم يستجب الإمام له وقال: ان الفتح يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدعاء انّما يدعى له إذا أخلص في طاعة الله، واعترف برسول الله(صلى الله عليه وآله) وبحقّنا أهل البيت(25).
2 ـ روي أن عليّ بن جعفر كان من وكلاء الإمام (عليه السلام) فسعي به إلى المتوكّل فحبسه، وبقي في ظلمات السجون مدّة من الزمن، وقد ضاق به الأمر فتكلّم مع بعض عملاء السلطة في إطلاق سراحه، وقد ضمن أن يعطيه عوض ذلك ثلاثة آلاف دينار، فأسرع إلى عبيد الله وهو من المقرّبين عند المتوكّل، وطلب منه التوسّط في شأن عليّ بن جعفر، فاستجاب له، وعرض الأمر على المتوكل، فأنكر عليه ذلك وقال له: لو شككت فيك لقلت: إنّك رافضي، هذا وكيل أبي الحسن الهادي وأنا على قتله عازم.
وندم عبيد الله على التوسّط في شأنه، وأخبر صاحبه بالأمر، فبادر إلى عليّ بن جعفر وعرّفه أن المتوكّل عازم على قتله ولا سبيل إلى إطلاق سراحه، فضاق الأمر بعليّ بن جعفر، فكتب رسالة إلى الإمام جاء فيها:
« يا سيّدي الله الله فيَّ، فقد خفت أن أرتاب، فوقّع الإمام على رسالته: « أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك »، وأصبح المتوكّل محموماً دنفاً، وازدادت به الحمّى فأمر باطلاق جميع المساجين، وأمر بإطلاق سراح علي بن جعفر بالخصوص، وقال لعبيدالله: لِمَ لَمْ تعرض عليَّ اسمه ؟ فقال:
لا أعود إلى ذكره أبداً، فأمره بأن يخلّي عنه، وأن يلتمس منه أن يجعله في حلّ مما ارتكبه منه، وأطلق سراحه، ثم نزح إلى مكّة فأقام بها بأمر من الإمام »(26).
هذه بعض البوادر التي ذكرها الرواة من استجابة دعاء الإمام، ومن المؤكّد ان استجابة الدعاء ليس من عمل الانسان وصنعه، وانّما هو بيد الله تعالى فهو الذي يستجيب دعاء من يشاء من عباده، ومما لا شبهة فيه ان لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) منزلة كريمة عنده تعالى لأنّهم أخلصوا له كأعظم ما يكون الاخلاص، وأطاعوه حقّ طاعته وقد خصّهم تعالى باستجابة دعائهم كما جعل مراقدهم الكريمة من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء (27).
 

شفاء المريض بدعاء الامام الهادي

• روى أبو هاشم الجعفري أنه ظهر برجل من أهل سر من رأى برص فتنغّص عليه عيشه، فجلس يوماً إلى أبي علي الفهري فشكا إليه حاله فقال له: لو تعرضت يوماً لأبي الحسن علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) فسألته أن يدعو لك لرجوت أن يزول عنك.
فجلس له يوماً في الطريق وقت منصرفه من دار المتوكل، فلما رآه قام ليدنو منه فيسأله ذلك، فقال: تنح عافاك الله، وأشار إليه بيده، تنح عافاك الله، تنح عافاك الله ثلاث مرات فأبعد الرجل ولم يجسر أن يدنو منه وانصرف، فلقي الفهري فعرفه الحال وما قال: فقال: قد دعا لك قبل أن تسأل فامض فإنك ستعافى، فانصرف الرجل إلى بيته فبات تلك الليلة فلما أصبح لم ير على بدنه شيئاً من ذلك(28).

• قال علي بن محمد الحجال: كتبت إلى أبي الحسن: أنا في خدمتك وأصابني علة في رجلي، ولا أقدر على النهوض والقيام بما يجب فإن رأيت أن تدعو الله أن يكشف علتي ويعينني على القيام بما يجب علي، وأداء الأمانة في ذلك ويجعلني من تقصيري من غير تعمد مني، وتضييع ما لا أتعمده من نسيان يصيبني في حل، ويوسع علي وتدعوا لي بالثبات على دينه الذي ارتضاه لنبيه (عليه السلام) فوقع: كشف الله عنك وعن أبيك، قال: وكان بأبي علة ولم أكتب فيها فدعا له ابتداءً(29).

سمو منزلته

• يقول محمد بن الحسن بن الأشتر العلوي: كنت مع أبي بباب المتوكل، وأنا صبي في جمع من الناس ما بين طالبي إلى عباسي إلى جندي إلى غير ذلك، وكان إذا جاء أبو الحسن (عليه السلام) ترجّل الناس كلهم حتى يدخل. فقال بعضهم لبعض: لم نترجل لهذا الغلام؟ وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسننا ولا بأعلمنا؟ فقالوا: والله لا نترجل له. فقال لهم أبو هاشم: والله لترجلن له صغاراً وذلة إذا رأيتموه، فما هو إلا أن أقبل وبصروا به فترجل له الناس كلهم فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنكم لا تترجلون له؟ فقالوا: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا.
وكان الإمام إذا دخل على المتوكل رفعوا له الستر واحترموه بكل وقار، تقول الرواية: إن أحد الأشرار قال للمتوكل العباسي يوماً: ما يعمل أحد بك أكثر مما تعمله بنفسك في علي بن محمد، فلا يبقى في الدار إلا من يخدمه ولا يتعبونه برفع ستر ولا فتح باب ولا شيء، ولهذا كان الناس يقولون: لو لم يعلم استحقاقه للأمر ما فعل هذا.
ويظهر من هذا الحديث المفصل الذي أخذنا منه موضع الحاجة أنه (عليه السلام) كان مهيباً مبجلاً حتى في بلاط أشد الخلفاء العباسيين إرهاباً في عصره وهو المتوكل العباسي.
وكان (عليه السلام) إذا دخل على الخليفة جابهه بالحق، فقد دخل يوماً عليه فقال المتوكل: يا أبا الحسن من أشعر الناس، قال الإمام فلان ابن فلان العلوي حيث يقول:

لقد فاخرتنا من قريش عصابة

بمــط خدود وامتداد أصابع

فلما تنازعنا القضاء قضـى لنا

عليه بما فاهوا نداء الصوامع

قال وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟
قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً.. جدي أم جدكم، فضحك المتوكل كثيراً ثم قال: هو جدك لا ندفعك عنه.
ومرة أخرى أدخل المتوكل الإمام (عليه السلام) إلى مجلس لهوه وطلب منه المشاركة فيما كان فيه، فوعظه الإمام عظة بليغة.
 

تأثير مواعظه

• المسعودي، قال: سُعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد (عليه السلام) أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا على داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن، فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب فدخل عليه والكأس في يد المتوكل. فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده فقال: والله ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً. فقال (عليه السلام): إني قليل الرواية للشعر فقال: لابد، فأنشده (عليه السلام) وهو جالس عنده:

باتوا على قلل الأجبال تحرســهم

غـلب الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنزلوا بعد عز من معاقلـهم

وأسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفـنهم

أيـن الأساور والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منـعَّمة

مـن دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود تقتتل

قد طالما أكلوا دهراً وقد شربـوا

وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

قال: فبكى المتوكل حتى بلت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع إلى علي (عليه السلام) أربعة آلاف دينار، ثم رده إلى منزله مكرّماً.
 

تأثير شخصيته في الناس

وحسبما نقرأ في المصادر التاريخية، كان الكثير من بطانة الخليفة يتشيع للإمام، إما واقعاً أو لما يجد عند الشيعة من ثقل سياسي، مثل الفتح بن خاقان الذي كان من أعظم وزراء المتوكل، والذي قتل معه عندما انقلب عليه عسكره من الأتراك، كان يحاول التقرب إلى الإمام، ويظهر من بعض الروايات أن المتوكل كان يتهمه بذلك مما يدل على أنه قد أحسَّ بأمره.
وجاء فيه: فقال المتوكل: يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجه الفتح وضحك الفتح في وجهه. كما يظهر من القصة التالية أن بعض قادة النظام العسكريين كانوا يكنون للإمام الحب وربما الولاء، كما أن القصة تعكس جانباً من انتشار حب الإمام واحترامه بين عامة الناس لاسيما في الحرمين الشريفين.
ينقل عن القائد العباسي يحيى بن هرثمة قال: أرجعني المتوكل إلى المدينة لإشخاص علي بن محمد (عليه السلام) لشيء بلغه عنه، فلما صرت إليها ضج أهلها وعجوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله، فجعلت أسكنهم وأحلف أني لم أؤمر فيه بمكروه، وفتشت منزله، فلم أصب فيه إلاّ مصاحف ودعاء وما أشبه ذلك، فأشخصته وتوليت خدمته، وأحسنت عشرته.
فبينما أنا في يوم من الأيام والسماء صاحية والشمس طالعة، إذ راكب وعليه ممطر عقد ذنب دابته فتعجبت من فعله، فلم يكن من ذلك إلا هنيئة حتى جاءت سحابة فأرخت عزاليها، ونالنا من المطر أمر عظيم جداً فالتفت إليّ فقال: أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيت، وتوهمت أني أعلم من الأمر ما لم تعلم، وليس ذلك كما ظننت ولكني نشأت بالبادية، فأنا أعرف الرياح التي تكون في عقبها المطر فتأهبت لذلك.
فلما قدمت إلى مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد، فقال: يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمتوكل من تعلم، وإن حرّضته عليه قتله، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خصمك، فقلت: والله ما وقفت منه إلاّ على أمر جميل.
فصرت إلى سامراء فبدأت بوصيف التركي وكنت من أصحابه، فقال لي: والله لئن سقط من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون الطالب بها غيري، فتعجبت من قولهما، وعرَّفتُ المتوكل ما وقفت عليه من أمره، وسمعته من الثناء فأحسن جائزته، وأظهر بره وتكريمه.

كراماته

• روى ابن شهر آشوب بإسناده عن أبي محمد الفحام بالإسناد عن سلمة الكاتب قال: قال خطيب ـ يلقب بالهريسة ـ للمتوكل: ما يعمل أحد بك ما تعمله بنفسك في علي بن محمد، فلا في الدار إلا من يخدمه ولا يتعبونه يشيل الستر لنفسه، فأمر المتوكل بذلك، فرفع صاحب الخبر أن علي بن محمد دخل الدار فلم يخدم ولم يشل أحد بين يديه الستر، فهب هواء فرفع الستر حتى دخل وخرج، فقال: شيلوا له الستر بعد ذلك، فلا نريد أن يشيل له الهواء(30).

• وروى بإسناده عن محمد بن الحسن الأشتر العلوي: كنت مع أبي على باب المتوكل في جمع من الناس ما بين طالبي وعباسي وجعفري، فتحالفوا: لا نترجل لهذا الغلام، فما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا، يعنون أبا الحسن (عليه السلام) فما هو إلا أن أقبل وبصروا حتى ترجل له الناس كلهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنكم لا تترجلون له؟ فقالوا: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا(31).

• وروى بإسناده عن صالح بن سعيد قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) يوم وروده بسر من رأى، فقلت له: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك. فقال: ها هنا أنت يابن سعيد، ثم أومئ بيده فإذا أنا بروضات آنفات، وأنهار جاريات،و جنات بينها خيرات عطرات: وولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي فقال لي: حيث كنا فهذا لنا يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك(32).
عن الاسباطي قال: قدمت على أبي الحسن علي بن محمد المدينة الشريفة من العراق فقال لي ما خبر الواثق عندك ؟ فقلت: خلفته في عافية وأنا من اقرب الناس به عهداً وهذا مقدمي من عنده وتركته صحيحاً فقال: إنّ الناس يقولون انّه قد مات فلما قال لي: إنّ الناس يقولون انّه قد مات فهمت انّه يعني نفسه فسكت ثمّ قال: ما فعل ابن الزيات ؟ قلت: الناس معه والأمر أمره فقال: أمّا انّه شؤم عليه ثم قال: لابد أن تجري مقادير الله وأحكامه يا جيران مات الواثق وجلس جعفر المتوكل وقتل ابن الزيات فقلت متى ؟ قال: بعد نخرجك بستة أيّام فما كان إلا أيّام قلائل حتى جاء قاصد المتوكل إلى المدينة فكان كما قال(33).
ونقل المسعودي إنّ المتوكل أمر بثلاثة من السباع فجيء بها في صحن قصره ثمّ دعا الإمام علي النقي فلما دخل أغلق باب القصر فدارت السباع حوله وخضعت له وهو يمسحها بكمه ثم صعد إلى المتوكل وتحدث معه ساعة ثم نزل ففعلت السباع معه كفعلها الأول حتى خرج فاتبعه المتوكل بجائزة عظيمة فقيل للمتوكل إنّ ابن عمك يفعل بالسباع ما رأيت فافعل بها ما فعل ابن عمك قال: انتم تريدون قتلي ثم أمرهم أن لا يفشوا ذلك..(34).
وعن علي بن إبراهيم الطايفي قال: مرض المتوكل من خراج خرج بحلقه فاشرف على الهلاك ولم يحسن احد أن يمسه بحديد فنذرت أم المتوكل لأبي الحسن علي بن محمد إن عوفيَ ولدها من هذه العلة لَتُعطيَنَهُ مالاً جليلاً من مالها، فقال الفتح بن خاقان للمتوكل: لو بعثْتَ إلى هذا الرجل يعني أبا الحسن فَسَأَلْتَهُ فربما كان على يده فرج لك فقال: ابعثوا إليه فمضى إليه رسول المتوكل فقال: خذوا كسب الغنم و ديفوه بماء الورد وضعوه على الجراح ينفتح من ليلته بِأَحسَنِ ما يكون ويكون في ذلك شفاءه إنشاء الله تعالى، فلما عادَ الرسول واخبرهم بمقالته جعل من يحضر المتوكل من خواصه يهزأ به من هذا الكلام فقال الفتح: وما يضر من تجربة ذلك فاني والله لأرجو به الصلاح فعملوه ووضعوه على الجراح فانفتح من ليلته وخرج كلما فيه فشفيَ المتوكل من الألم الذي كان يجده فأخذت أم المتوكل عشرة آلاف دينار من مالها ووضعتها في كيس وختمت عليه وبعثت به إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخذها وبعث إليه المتوكل بفضله كيسا فيه خمسمائة دينار ثم بعد ذلك بمدة طويلة كبيرة سعى شخص يقال له البطحاني بابي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكل وقال: عنده أموال وسلاح وعُدَد ولا آمن خروجه عليك فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب بان يهجم على داره ليلاً مع جماعة الرجال والشجعان ويأخذ جميع ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه، قال إبراهيم بن محمد قال لي سعيد الحاجب: سرتُ إلى دار أبي الحسن ليلاً بعد أنْ هجع الناس في جماعة من الرجال الأنجاد ومعي الأعوان بالسلالم فصعدنا إلى سطح داره وفتحنا الباب وهجمنا بالشموع والسرج والنيران وفتشنا الدار جميعاً أعلاها وأسفلها موضعاً موضعاً ومكاناً مكاناً فلم نجد فيها شيئاً مما سُعيَ به عليهِ غير كيسين احدهما كبير ملآن مختوم والآخر صغير فيه فضلة وسيف واحد في جفير خلِق معلّق ووجدنا أبا الحسن قائماً يصلي على حصير وعليه جبة صوف وقلنسوة ولم يرتع لشيء مما نحن فيه ولا اكترث فأخذت الكيسين والسيف وسرت إلى المتوكل فدخلت عليه وقلت: هذا الذي وجدنا من المال والسلاح وأخبرته بما فعلت وبما رأيت من أبي الحسن فوجد على الكيس الملآن ختم أمّه فطلبها وسألها عنه فقالت: كنت نذرت في علّتك إنْ عافاك الله منها لَأُعطيَنَّ أبا الحسن عشرة آلاف من مالي فحملتها إليه في هذا الكيس وهذا ختمي عليها فأضاف المتوكل خمسمائة دينار أخرى إلى الخمسمائة التي كانت في الكيس الصغير من قبل وقال لسعيد الحاجب: اردد الكيسين والسيف واعتذر لنا منه، قال سعيد: فرددت ذلك إليه وقلت له: أمير المؤمنين يعتذر إليك مما جرى منه و قد زادك خمسمائة دينار على الخمسمائة دينار التي كانت في الكيس من قبل واشتهي منك يا سيدي أنْ تجعلني أنا الآخر في حِل فأنّي عبد مأمور ولا اقدر على مخالفة أمير المؤمنين فقال لي يا سعيد: (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون)(35).

علمه

• روى الخطيب بإسناده عن محمد بن يحيى المعاذي، قال: قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق ـ والفقهاء بحضرته ـ من حلق رأس آدم حين حج؟ فتعالى القوم عن الجواب، فقال الواثق: أنا أحضركم من ينبئكم بالخبر، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فاحضر، فقال: يا أبا الحسن، من حلق رأس آدم؟ فقال: سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا أعفيتني، قال: أقسمت عليك لتقولن، قال: أما إذ أبيت فإن أبي حدثني عن جدي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أمر جبريل أن ينزل بياقوتة من الجنة، فهبط بها فمسح بها رأس آدم فتناثر الشعر منه فحيث بلغ نورها صار حرماً(36).

• وروى بإسناده عن الحسين بن يحيى قال: اعتل المتوكل في أول خلافته، فقال: لئن برئت لأتصدقن بدنانير كثيرة، فلما برئ جمع الفقهاء، فسألهم عن ذلك فاختلفوا، فبعث إلى علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر فسأله، فقال: يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً فعجب قوم من ذلك وتعصب قوم عليه، وقالوا: تسأله يا أمير المؤمنين من أين له هذا؟ فرد الرسول إليه. فقال له: قل لأمير المؤمنين: في هذا الوفاء بالنذر، لأن الله تعالى قال: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) فروى أهلنا جميعاً أن المواطن في الوقائع والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً، وأن يوم حنين كان الرابع والثمانين، وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير كان أنفع له وأجراً عليه في الدنيا والآخرة(37).

علم الإمام الهادي (عليه السلام) باللغات

قال أبو هاشم الجعفري: (كنت بالمدينة حتى مرَّ بها "بغا" أيامَ الواثق في طلب الأعراب، فقال أبو الحسن: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبيةِ هذا التركي فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبيته فمرّ بنا تركي فكلمه أبو الحسن بالتركية فنزل عن فرسهِ فقبّل حافرَ دابّته قال: فحلّفت التركي وقلتُ له: ما قال لك الرجل ؟ قال: هذا نبيٌّ ؟ قلتُ: ليس هذا بنبي، قال: دعاني باسم سمّيت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد إلى الساعةِ). (38)

من احتجاجاته

• روى الطبري بإسناده عن الحسن العسكري: أنه اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري أن رجلاً من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب فأفحمه بحجته حتى أبان عن فضيحته، فدخل إلى علي بن محمد وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب، وهو قاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست وأقبل عليه فاشتد ذلك على أؤلئك الأشراف، فأما العلوية فأجلوه عن العتاب وأما الهاشميون فقال لهم شيخهم: يا ابن رسول الله هكذا تؤثر عامياً على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين؟
فقال (عليه السلام): إياكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون)(39)أترضون بكتاب الله حكماً؟ قالوا: بلى.
قال: أليس الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم) إلى قوله: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(40) فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه قال: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) أو قال: يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات؟ أوليس قال الله (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(41). فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله؟ إن كسر هذا (لفلان) الناصب بحجج الله التي علمه إياها، لأفضل له من كل شرف في النسب.
فقال العباسي: يا ابن رسول الله قد أشرفت علينا هو ذا تفسير بنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه.
فقال (عليه السلام): سبحان الله أليس عباس بايع أبا بكر وهو (تيمي) والعباس (هاشمي)؟ أوليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب وهو (هاشمي) أبو الخلفاء وعمر (عدوي)ن وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكراً فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز، فكأنما ألقم الهاشمي حجراً(42).

قال علي بن مهزيار: (عن الطيّب الهادي (عليه السلام) قال: دخلت عليه فابتدأني فكلمني بالفارسية)(43).
وقال: (أرسلت إلى أبي الحسن (عليه السلام) غلامي و كان سقلابياً (جيل حمر الألوان صهب الشعور، يتاخمون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم) فرجعَ الغلام إليَّ متعجباً فقلت: مالك يا بني ؟ قال: كيف لا أتعجب ؟ مازالَ يكلمني بالسقلابيّه كأنه واحد منا، فظننت أنه إنما دار بينهم).(44)

قال أبو هاشم: (كنتُ عند أبي الحسن (عليه السلام) وهو مجدّر، فقلت للمتطبب: (آب گرفت)، ثم التفتَ إليَّ وتبسّم، وقال: تظن أن لا يحسن الفارسية غيرك ؟ فقال للمتطبب: جُعِلْتُ فداك تحسنها ؟ فقال: أمّا فارسية هذا فنعم، قال لك: احتملَ الجدري ماء).(45)

علمه بخواطر القلوب

روى الأربلي بإسناده عن محمد بن شرف قال: (كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) أمشي بالمدينة فقال لي: ألست ابن شرف ؟ قلت: بلى فأردت أن أسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال: نحن على قارعة الطريق وليس هذا موضع مسألة).(46)

روى المجلسي بإسناده عن جماعة مِنْ أهلِ أصفهان منهم أبو العباس احمد النضر وأبو جعفر محمد بن علويّة قالوا: كان بأصفهان رجل يقال له: عبد الرحمان و كان شيعياً قيل له: ما السبب الذي أوجبَ عليك القول بإمامةِ علي النقي دون غيره من أهل الزمان ؟ قال: شاهدت ما أوجب عليَّ و ذلك أني كنتُ رجلاً فقيراً وكان لي لسان وجرأة، فأخرجني أهل أصفهان سنة من السنين مع قومٍ آخرين إلى باب المتوكل متظلمين.
فكنّا بباب المتوكل يوماً إذ خرجَ الأمرُ بإحضار علي بن محمد بن الرضا، فقلت لبعض مَنْ حضر: مَنْ هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره ؟ فقيل: هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته، ثم قال: و يقدّر أن المتوكل يحضره للقتل فقلت: لا ابرح من ها هنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أي رجل هو ؟
قال: فأقبل راكِباً على فرس، و قد قام الناس يمنةَ الطريق ويسرتها صفين ينظرون إليه، فلما رايته وقع حبّه في قلبي فجعلت أدعو في نفسي بأنْ يدفعَ اللهُ عنهُ شرَّ المتوكل، فاقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا ينظر يمنة و لا يسرة و أنا دائم الدُّعاء، فلما صار إليَّ أقبلَ بوجهه إليَّ وقال: استجاب الله دعاءك، وطوّلَ عمرك، وكثرَ مالك وولدك قالَ: فارتعدت و وقعت بين أصحابي فسألوني وهم يقولون: ما شأنك ؟ فقلت: خير ولم أخبر بذلك؟
فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان، ففتح الله عليَّ وجوهاً من المال حتى أنا اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم، سوى مالي خارج داري، و رزقت عشرةً من الأولاد وقد بلغتُ الآن من عمري نيّفاً وسبعينَ سنة وأنا أقول بإمامةِ الرجل الذي عَلِمَ ما في قلبي، و استجاب الله دعاءه فيَّ و لي).(47)

قال ابن شهرآشوب: (قال علي بن نهزيار: وردت العسكر و أنا شاكّ في الإمامةِ فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم من الربيع إلا انه صائف والناس عليهم ثياب الصيف، وعلى أبي الحسن لباد وعلى فرسه تجاف لبود، وقد عقد ذنب الفرس والناس يتعجبون منه ويقولون: ألا ترون إلى هذا المدني وما قد فعل بنفسه ؟ فقلت في نفسي: لو كان هذا إماماً ما فعلَ هذا، فلما خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا أنْ أرتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلا ابتل حتى غرق بالمطر وعاد (عليه السلام) وهو سالِم من جميعه. فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام، ثم قلت: أريد أن أسأله عن الجُنُبِ إذا عرق في الثوب، فقلت في نفسي: إن كشف وجهه فهو الإمام، فلما قرب مني كشف وجهه ثم قال: إن كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، وإن كانت جنابته من حلال فلا بأس، فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة)(48).

روى المجلسي بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال: (أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) فأذن لي فلما جلست قال: يا أبا هاشم: أيَّ نِعَمِ الله عزَّ وجل عليك تريد أن تؤدي شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدر ما أقول له.
فابتدأ (عليه السلام) فقال: رزقك الإيمان فحرّم بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبدّل، يا أبا هاشم إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكو لي مَنْ فعلَ بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها؟).(49)

علم الإمام الهادي بالمنايا والبلايا

روى الطبرسي قال: (قال أبو الحسين سعيد سهيل البصري و كان يُلَقَب بالملاح. قال: وكان يقول بالوقف جعفر بن القاسم الهاشمي البصري وكنت معه بسرّ من رأى، إذ رآه أبو الحسن في بعض الطرق فقال له: إلى كم هذه النومة ؟ أما آن لك أنْ تنتبه منها ؟
فقال لي جعفر: سمعت ما قال لي علي بن محمد ؟ قد و الله وقع في قلبي شيء، فلما كان بعد أيّام حدثَ لبعض أولاد الخليفةِ وليمة، فدعانا فيها ودعا أبا الحسن معنا فدخلنا فلما رأوه أنصتوا إجلالاً له، وجعلَ شابٌ في المجلس لا يوقره، وجعلَ يلفظ ويضحك. فأقبل عليه فقال له: يا هذا أَتضحك مِلأَ فيكَ و تذهل عن ذكر الله وأنت بعدَ ثلاثةِ أيام مِنْ أهلِ القبور؟ قال: فقلت: هذا دليلي حتى ننظر ما يكون؟ قال: فامسك الفتى وكفّ عما هو عليه وطعمنا وخرجنا. فلما كان بعد يوم أعْتَلَّ الفتى وماتَ في اليوم الثالث من أولِ النهـار ودفـن في آخره).(50)
وقال سعيد أيضاً: (اجتمعنا في وليمةٍ لبعض أهلِ سرّ من رأى و أبو الحسن معنا فجعل رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة، فأقبل على جعفر فقال: أمَا إنّه لا يأكل منْ هذا الطعام وسوف يَرِدُ عليهِ من خبر أهله ما ينغّص عليه عيشه، قال: فقدّمت المائدة قال أبو جعفر: ليس بعد هذا خبر قد بَطُلَ قوله، فوالله لقد غسلَ الرجل يده وأهوى إلى الطعام، فإذا غلامه قد دخل مِنْ باب البيت يبكي وقال له: إِلْحَقْ أمّك فقد قد وقعت مِنْ فوق البيت وهيَ بالموت، قال جعفر: فقلت والله لا وقفت بعد هذا، وقطعت عليه).(51)
قال ابن شهرآشوب: (قال أبو محمد الفحام عن المنصوري عن عمّهِ عن أبيه قال: قال يوماً الإمام علي بن محمد: يا أبا موسى أَخَرَجْتَ إلى سرّ من رأى كرهاً و لو أخرجت عنها كرهاً قال قلت: و لِمَ يا سيدي ؟ فقال: لطيب هوائها وعذوبةِ مائها وقلّةِ دائها، ثم قال: تخرب سرّ من راى حتى يكون فيها خان وقفاً للمارة وعلامة خرابها تدارك العمارة في مشهدي من بعدي. 
دخلنا كارهين لها فلما أَلِفْناها خرجنا مُكرَهينا(52).
قال الشبلنجي: (وفي تاريخ القرماني: سر من رأى هي سامراء وهي مدينة عظيمة كانت على شرقي دجلة بين تكريت وبغداد بناها المعتصم سنة إحدى وعشرين ومائتين، وسكن بجنوده حتى صارت أعظم بلاد الله وهي اليوم خراب وبها أناس قلائل كالقرية).(53)
روى المجلسي بإسناده عن زرارة قال: (أراد المتوكل أنْ يمشي إلى علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) فقال له وزيره: إن في هذا شناعة عليك وسوء قالة فلا تفعل، قال: لا بد من هذا، قال: فَإنْ لم يكن بُد من هذا فتقدم بِأنْ يمشي القوّاد والاشراف كلهم، حتى لا يظن الناس انك قصدته بهذا غيره ففعلَ ومشى (عليه السلام) وكان الصيف، فوافى الدهليز وقد عرق.
قال: فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت وجهه بمنديل وقلت: ابن عمك لم يقصد بهذا دون غيرك، فلا تجد عليه في قلبك فقال: إيهاً عنك (تمتعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعدٌ غير مكذوب ).(54)
قال زرارة: وكان عندي معلم يتشيع وكنت كثيراً أُمازحه بالرافضي فانصرفت إلى منزلي وقت العشاء وقلت: تعال يا رافضي حتى أُحدثكَ بشيءٍ سمعته اليوم من إمامكم، قال لي: وما سمعت ؟ فأخبرته بما قال، فقال: أقول لك فاقبلْ نصيحتي قلت: هاتها قال: إنْ كان علي بن محمد قال بما قلت، فاحترز واخزن كل ما تملكه، فإنّ المتوكل يموت أو يقتل بعد ثلاثة أيام، فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي فخرج.
فلما خلوت بنفسي، تفكرت وقلت: ما يضرُّني أنْ آخذَ بالحزم، فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك قال: فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها وفرّقت كل ما كان في داري إلى عند أقوام أثقُ بهم، ولم اترك في داري إلاّ حصيراً اقعد عليه.
فلما كانت الليلة الرابعة قتلَ المتوكل وَسَلِمْتُ أنا ومالي وتشيعت عند ذلك فصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أنْ يدعو لي وواليته حقَّ الولاية).(55)
 

المصادر:

- اعلام الهداية، الامام علي بن محمد الهادي(ع)، المولف: لجنة التأليف، تاريخ النشر: 1422 هـ، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت(ع)
-موقع http://www.14masom.com

(1) صفة الصفوة:2/98
(2) المناقب: 4/409
(3) مناقب آل أبي طالب: 4 / 443
(4) الاتحاف بحبّ الاشراف: 176. والفصول المهمة لابن الصباغ: 274، والصواعق المحرقة: 312
(5) اُصول الكافي:1/499 وعنه في الارشاد: 2/302، 303 وعن الكليني في اعلام الورى: 2/119. والفصول المهمة: 377
(6) كتاب من لا يحضره الفقيه: 3 / 162
(7) إعلام الورى: 2/123 عن كتاب الواحدة للعمّي، وعن الاعلام في بحار الأنوار: 50/189
(8) يديخوا: أي يذلوها ويقهروها
(9) الدفناس: الغبيّ والأحمق، كما في مجمع البحرين: 4/71
(10) حديقة الشيعة للاردبيلي: 602، 603 عن المرتضى الرازي في كتاب الفصول، وابن حمزة في كتاب الهادي الى النجاة كلاهما عن الشيخ المفيد، وعنه في روضات الجنّات: 3/134
(11) آل عمران (3): 23
(12) كذا، والصحيح: ألا ترضون.. وإلاّ فالجواب بنعم وليس ببلى
(13) المجادلة (58): 11
(14) الزمر (35): 9
(15) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 259
(16) وسائل الشيعة: 4/750
(17) فصل الخطاب لمحمد خواجه يارسا البخاري من ملحقات ينابيع المودة ص386
(18)قرية كبيرة من أعمال الجزيرة
(19) بحار الأنوار: ج50، ص144، رقم 28
(20) المصدر: ص410
(21) كشف الغمّة: ج2، ص389
(22) بحار الأنوار: ج50، ص125
(23) الفصول المهمة ص278
(24) مطالب السؤول ص242. وقال الشبلنجي: نقلها غير واحد نور الأبصار 
(25) أمالي الطوسي: 285 ح 555 وعنه في بحار الأنوار: 50/127 وفي المناقب: 4/442
(26) رجال الكشي: 606 ح 1129 وعنه في بحار الأنوار: 50/183
(27) راجع حياة الإمام علي الهادي: 42 ـ 62
(28) بحار الأنوار ج50 ص145 رقم 29
(29)كشف الغمة ج2 ص388ص192
(30) بحار الأنوار: ج50، ص144، رقم 28
(31) المصدر: ص410.
(32) كشف الغمّة: ج2، ص389
(33) بحار الأنوار: ج50، ص125
(34)إحقاق الحق ص 451
(35)إحقاق الحق ص 452
(36)ـ تاريخ بغداد ج12 ص56
(37)2 ـ المصدر، ورواهما سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص360 -361
(38)ـ النساء / 6
(39)ـ المجادلة / 11
(40)ـ الزمر / 9
(41)ـ الاحتجاج ج2 ص454
(42)أعلام الورى ص 359، مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 408
(43)بصائر الدرجات ص 333 رقم 1
(44)بصائر الدرجات ص 333 رقم 3
(45)بحار الأنوار ج 50 ص 136 رقم 18
(46)كشف الغمة ج 2 ص 385
(47)بحار الأنوار ج 50 ص 141 رقم 26
(48)المناقب ج 4 ص 413
(49)البحار ج 50 ص 129 رقم 7
(50)أعلام الورى ص 364
(51)أعلام الورى ص 314
(52)المناقب ج 4 ص 417
(53)نور الأبصار ص 192
(54)هود: 65
(55)بحار الأنوار ج 50 ص 147 رقم 32

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة