كما استمروا بإكمال البناء وتعميق الطرح وتوسيع دائرة العمل حتى عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وابنه الإمام المهدي عجل الله فرجه.
لقد كانت رقابة السلطة الحاكمة على تحرّكات أهل البيت (عليهم السلام) تزيد في ضرورة إكمال الطرح والبناء. وكان لأصحاب الأئمة (عليهم السلام) وتلامذتهم وثقاتهم دور رساليّ في تحقيق بعض أهداف الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وكان لاتّساع دائرة افراد الجماعة الصالحة وتعدد مراكز النشاط والحضور في مختلف حواضر العالم الاسلامي أثر كبير في ايجاد وتوسيع دائرة نظام الوكلاء الذي كان قد أصبح ضرورة من ضرورات عمل الائمة(عليهم السلام) ليساعدهم على سهولة وسرعة التحرّك والارتباط.
كما كان لازدياد الضغط والرقابة عليهم لا سيما في عصر الإمام الرضا (عليه السلام) بعد قبوله ولاية العهد ثم الإمام الجواد (عليه السلام) أثر بالغ في الاهتمام الكبير بنظام الوكلاء الذي كان يشرف عليه الإمام المعصوم مباشرة، إذا كان الارتباط بالوكلاء بحاجة الى دقة ومراقبة لحراجة الظرف المحيط بالإمام (عليه السلام).
إن البحث عن دقة الإمام الجواد (عليه السلام) في التحرك بعد الاعتراف بأنه الإمام المعصوم والقائد الشرعي للاُمة المسلمة الذي ورث العلم والخط الصحيح من آبائه الميامين المنتجبين (عليهم السلام) يكون بحثاً مفروغاً منه.
وإنّ دراسة حياة الإمام الجواد (عليه السلام) تكشف للدارس بشكل واضح وجليّ مدى الدقة والمتانة في التحرك عند الإمام (عليه السلام)، فكل مفردة مرتبطة مع نظيرتها ومتجانسة مع ظرفها ومعبرة عن رأي الرسالة في ذلك الموضوع.
وعند الحديث عن أساليب العمل عند الإمام (عليه السلام) يَرد هذا الكلام كذلك، وسنذكر لتوضيح هذه القضية نماذج لتبيان المقصد.
ومن اُصول التحرّك عند الإمام (عليه السلام) تجاه قواعده الشعبية يمكن ذكر ما يلي:
ب- المراسلات السرّيّة:
لا شك في ان الاتصالات كانت جارية بين الإمام وأتباعه إلاّ أن بعضها كان سريّاً وذلك خشية تفشّي أسماء مرسليها إلى الإمام خصوصاً وأن الإمام كان مرصوداً من الداخل عن طريق زوجته.
هذا إلى جانب انّ نمطاً معيناً من الرسائل كان يصل الإمام دون ذكر أسماء مرسليها عليها، ولكن الإمام (عليه السلام) كان يستطيع معرفة المرسلين لهذه الرسائل بطريقته الخاصة، ولا نستبعد ان ذلك كان يتم عن طريق وجود رمز معين في هذه الرسائل، هذا اذا لم نحاول تفسير ذلك بعلم الإمام المعصوم بالغيب، باعتبار أنه: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك[1].
قال أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري: «دخلت على أبي جعفر الثاني(عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت عليّ فاغتممت لذلك، فتناول إحداهن وقال: هذه رقعة ريّان بن شبيب ثم تناول الثانية فقال: هذه رقعة محمد بن حمزة وتناول الثالثة وقال: هذه رقعة فلان فبهت فنظر اليّ وتبسّم(عليه السلام)»[2].
وقد اُحصيت مكاتبات الإمام الجواد(عليه السلام) -بحسب ما جاء في موسوعة الإمام الجواد(عليه السلام) -فبلغت اثنين وسبعين مكاتبة[3].
ج- الإحاطة بدقائق الاُمور الاجتماعية:
لم يكن الإمام (عليه السلام) بمنأى وبمعزل عن مجتمعه، بل كان حاضراً دائماً بين الناس يعيش احتياجاتهم وتطلّعاتهم.
وهناك أمثلة كثيرة تعكس مثل هذا التوجه عند الأئمة (عليهم السلام).
والإمام الجواد (عليه السلام) ينطبق عليه ما ينطبق على أجداده ومن ذلك هذا المثال:
جاء في تكملة الرواية السابقة ان داود بن القاسم الجعفري قال: وأعطاني أبو جعفر ثلاثمائة دينار في صرّة وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمّه وقال: « أما انه سيقول لك دلّني على حرّيف يشتري لي بها متاعاً فدلّه عليه.
قال: فأتيته بالدنانير فقال لي: يا أبا هاشم دلّني على حرّيف يشتري لي بها متاعاً. ففعلت»[4].
يتضح من هذا المثال أنّ الإمام (عليه السلام) كان يتتبع الاحتياجات ويسعى الى سدّها.
د- متابعة تربية الأفراد:
ومن الاُمور التي تصدّى لها الإمام الجواد(عليه السلام) اهتمامه بتربية أتباعه وشيعته ومتابعته لتربيتهم، ومن الأمثلة على ذلك موقفه من الشاعر المعروف دعبل الخزاعي:
فعن دعبل بن علي: «انه دخل على الرضا(عليه السلام) فأمر له بشيء فأخذه ولم يحمد الله، فقال له: لِمَ لَمْ تحمد الله؟ قال: ثم دخلت على أبي جعفر فأمر له بشيء فقلت: الحمد لله. فقال: تأدّبت»[5].
إنّ هذا المثال يكشف عن تتبّع الإمام(عليه السلام) لسلوك أتباعه واهتمامه بتكاملهم الثقافي والروحي.
4- التمهيد لإمامة علي الهادي(عليه السلام) المبكرة
من المهام التي اشترك فيها الائمة (عليهم السلام) دعوتهم الى الإمام الآتي بعدهم. وقد سار الإمام الجواد (عليه السلام) على منهج آبائه في قضية الدعوة الى الإمام القادم بعده وترسيخ ذلك عند الطليعة المؤمنة من الاُمة، وفيما يأتي أمثلة على هذا الأمر عند الإمام (عليه السلام):
أ- عن الخيراني عن أبيه انه قال: كنت الزم باب أبي جعفر (عليه السلام) للخدمة التي وُكّلت بها، وكان احمد بن محمد بن عيسى الاشعري يجيء في السحر من آخر كل ليلة ليتعرف خبر علّة أبي جعفر (عليه السلام)، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام أحمد وخلا به.
قال الخيراني: فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن محمد بن عيسى عن المجلس، وخلا بي الرسول، واستدار احمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول: ان مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: « اني ماض، والأمر صائر الى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي ».
ثم مضى الرسول ورجع احمد الى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك؟ قلتُ: خيراً، قد سمعتُ ما قال، وأعادَ عليّ ما سمع، فقلتُ له: قد حرّم الله عليك ما فعلتَ، لان الله تعالى يقول: ( ولا تجسّسوا )[6]، فاذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلّنا نحتاج اليها يوماً ما، واياك ان تظهرها الى وقتها.
قال: واصبحتُ وكتبتُ نسخة الرسالة في عشر رقاع، وختمتها ودفعتها الى عشرة من وجوه أصحابنا، وقلتُ: إن حدث بي حدثُ الموت قبل ان اطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.
فلمّا مضى أبو جعفر (عليه السلام) لم اخرج من منزلي حتى عرفتُ أن رؤساء العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج[7] يتفاوضون في الأمر. وكتب اليّ محمد ابن الفرج يُعلِمُني باجتماعهم عنده ويقول: لولا مخافةُ الشهرة لصرتُ معهم اليك، فاُحِبّ أنْ تركب اليّ. فركبتُ وصرتُ اليه، فوجدتُ القومَ مجتمعين عنده، فتجارينا في الباب، فوجدت اكثرهم قد شكّوا، فقلتُ لمن عنده الرقاع -وهم حضور ـ: أخرجوا تلك الرقاع، فأخرجوها، فقلت لهم: هذا ما امرتُ به.
فقال بعضهم: قد كنّا نحبّ ان يكون معك في هذا الأمر آخر ليتأكّد القول.
فقلتُ لهم: قد أتاكم الله بما تحبّون، هذا أبو جعفر الاشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة فاسألوه، فسأله القوم فتوقّف عن الشهادة، فدعوته الى المباهلة، فخاف منها، وقال: قد سمعتُ ذلك، وهي مكرمةٌ كنتُ اُحبُّ ان تكون لرجل من العرب، فأما مع المباهلة فلا طريق الى كتمان الشهادة، فلم يبرح القوم حتى سلّموا لأبي الحسن (عليه السلام)[8].
ب- عن اسماعيل بن مهران، قال: «لمّا خرج أبو جعفر(عليه السلام) من المدينة الى بغداد في الدفعة الاُولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جُعلت فداك إنّي أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ فكرّ بوجهه اليّ ضاحكاً وقال: ليس الغيبة حيث ظننتَ في هذه السنة، فلمّا اُخرج به الثانية الى المعتصم صرت اليه، فقلتُ له: جُعلت فداك أنت خارج، فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم التفت اليّ، فقال: عند هذه يُخاف عليّ، الأمرُ من بعدي إلى ابني علي»[9].
ج -عن محمد بن الحسين الواسطي انه سمع احمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي انه اشهده على هذه الوصية المنسوخة:
« شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) أشهده أنه أوصى الى علي ابنه بنفسه وإخوانه وجعل أمر موسى[10] إذا بلغ إليه وجعل عبد الله بن المساور قائماً على تركته من الضياع والاموال والنفقات والرقيق وغير ذلك إلى أن يبلغ علي بن محمد، صيّر عبد الله بن المساور ذلك اليوم اليه، يقوم بأمر نفسه، وإخوانه ويصيّر أمر موسى اليه، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها وذلك يوم الاحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطّه وشهد الحسن بن محمد ابن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وهو الجوّاني على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب وكتب شهادته بيده وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده»[11].
قال الطبرسي بعد نقل هذه النصوص الثلاثة: والأخبار في هذا الباب كثيرة، وفي إجماع العصابة على إمامته وعدم من يدّعي فيه إمامة غيره غناء عن إيراد الأخبار في ذلك، هذا وضرورة أئمتنا (عليهم السلام) في هذه الأزمنة في خوفهم من أعدائهم وتقيّتهم منهم اُحوجت شيعتهم في معرفة نصوصهم على من بعدهم الى ما ذكرناه من الاستخراج حتى أنّ أوكد الوجوه في ذلك عندهم دلائل العقول الموجبة للامامة وما اقترن الى ذلك من حصولها في ولد الحسين (عليه السلام)، وفساد أقوال ذوي النحل الباطلة وبالله التوفيق[12].
5- الإمام الجواد (عليه السلام) وقضية الإمام المهدي (عجل الله فرجه):
قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه من القضايا الاساسية في المسيرة الاسلامية والمتتبع لآثار الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لا يجد أحداً منهم غفل عن الدعوة اليها أو تجاهلها.
وعلى هذا المنهج سار الإمام الجواد (عليه السلام) فطرح قضية المهدي (عج) على الاُمة قاصداً من ذلك تركيز هذا المفهوم في أذهانها من جهة وإعدادها لاستقبال يومه من جهة ثانية، ونذكر فيما يأتي نماذج من هذه الدعوة:
1- عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني (رضي الله عنه) قال: «قلت لمحمد بن علي ابن موسى (عليهم السلام): يامولاي ! اني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال (عليه السلام):
ما منّا الا قائم بأمر الله، وهاد الى دين الله. ولكن القائم الذي يطهّر الله به الأرض من اهل الكفر والجحود ويملأها قسطاً وعدلاً هو الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سميّ رسول الله وكنيته، وهو الذي تطوى له الارض، ويذل له كل صعب، يجتمع اليه من أصحابه عدّة أهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصي الارض وذلك قول الله عزوجل: ( اينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير )[13]. فاذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الاخلاص، أظهر الله أمره، فاذا كمل له العقد وهو (عشرة آلاف) رجل، خرج باذن الله تعالى، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزوجل»[14].
2- عن أبي تراب عبد الله موسى الروياني، قال:
حدثنا عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) الحسني قال:
«دخلت على سيدي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام) وانا اريد ان اسأله عن القائم أهو المهدي او غيره فابتدأني فقال لي:
ياأبا القاسم إن القائم منّا هو المهدي الذي يجب ان ينتظر في غيبته، ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالنبوّة وخصّنا بالإمامة، انه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وإنّ الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى (عليه السلام) اذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسولٌ نبيٌ، ثم قال (عليه السلام): أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج»[15].
3- عن حمدان بن سليمان قال: حدّثنا الصقر ابن أبي دلف، قال:
سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ الرضا (عليه السلام) يقول:
« إنّ الإمام بعدي ابني عليّ، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثم سكت. فقلت له: ياابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثم قال: إنّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر. فقلت له: ياابن رسول الله لم سمّي القائم؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته. فقلت له: ولم سمّي المنتظر؟ قال: لأنّ له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون، ويكذّب بها الوقّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلمون. »[16]
[1] راجع اُصول الكافي: 1 / 201.
[2] إعلام الورى بأعلام الهدى: 2 / 98.
[3] راجع موسوعة الإمام الجواد(عليه السلام): 2/413 -515.
[4] إعلام الورى بأعلام الهدى: 2 / 98.
[5] كشف الغمة: 2 / 363.
[6] الحجرات (49): 12.
[7] هو محمد بن الفرج الرُخّجي، من اصحاب الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام).
[8] الارشاد: 2 / 298 -300.
[9] اُصول الكافي: 1 / 323.
[10] يعني ابنه الملقب بالمبرقع المدفون بقم.
[11] اُصول الكافي: 1 / 261.
[12] إعلام الورى: 339.
[13] البقرة (2): 148.
[14] الاحتجاج: 2 / 481 -482.
[15] كمال الدين وتمام النعمة: 377.
[16] كمال الدين وتمام النعمة: 378.