وكان تحرك الإمام الجواد (عليه السلام) ينطلق من هذه الرؤية فكان ذلك التحرك واسعاً ومؤثراً رغم كل الظروف المعرقلة التي أحاطت تحركه وفي هذا المجال نشير الى نماذج من تحرك الإمام (عليه السلام) في الميادين التي كان يتوخى منها إعداد الاُمة وطلائعها إعداداً رسالياً. ومن هذه الميادين:
أ -تعميق البناء الفكري:
كان اهتمام الإمام الجواد (عليه السلام) في بناء الجانب العقائدي في شخصية الانسان المسلم واضحاً للناظر في تراثه الذي ورثناه والذي يحتوي على مفردات اساسية تتقوم بها العقيدة ومن ذلك:
الإمام والدعوة الى التوحيد الخالص:
التوحيد اساس العقيدة الاسلامية، وسلامة تصورات المسلم عن الله تعالى هي الركيزة الجوهرية التي تستند عليها باقي المفردات العقيدية، من هنا كان الإمام(عليه السلام) يُعنى عناية شديدة بإيضاح هذا الاساس وتجليته، وفي المحاضرة التي ألقاها على داود بن القاسم الجعفري دليل على ما قلناه.
فقد قال الجعفري: «قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام): ( قل هو الله أحد )، ما معنى: الأحد؟
قال: المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) [1]، ثم يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة.
فقلت: قوله: ( لا تدركه الأبصار ) [2].
قال: ياأبا هاشم ! اوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند، والبلدان التي لم تدخلها، ولم تدرك ببصرك ذلك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار؟ !
وسئل (عليه السلام): أيجوز ان يقال لله: انه شيء؟
فقال: نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ التعطيل وحدّ التشبيه [3]»[4].
وعن أبي هاشم الجعفري، قال: «كنت عند أبي جعفر الثاني(عليه السلام) فسأله رجل، فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له اسماء وصفات في كتابه؟ وأسماؤه وصفاته هي هو؟
فقال أبو جعفر(عليه السلام): «ان لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هي هو، اي انه ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك. وان كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل، فإنّ « لم تزل » محتمل معنيين: فان قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها، فنعم، وان كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله ان يكون معه شيء غيره. بل كان الله ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها اليه ويعبدونه وهي ذكره، وكان الله ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل.
والأسماء والصفات مخلوقات، والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وانما يختلف ويأتلف المتجزئ فلا يقال: الله مؤتلف، ولا الله قليل ولاكثير، ولكنه القديم في ذاته، لأن ما سوى الواحد متجزئ، والله واحد لا متجزئ، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ او متوهم بالقلة والكثرة، فهو مخلوق دالّ على خالق له.
فقولك: ان الله قدير خبّرت انه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة العجز وجعلتالعجز سواه.
وكذلك قولك: عالم انما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل سواه، واذا أفنى الله الاشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع، ولا يزال من لم يزل عالماً.
فقال الرجل: فكيف سمّينا ربنا سميعاً؟
فقال: لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالاسماع، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس.
وكذلك سمّيناه بصيراً لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار، من لون او شخص او غير ذلك، ولم نصفه ببصر لحظة العين.
وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك، وموضع النشوء منها، والعقل والشهوة للفساد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض، ونقلها الطعام والشراب الى اولادها في الجبال والمفاوز والاودية والقفار، فعلمنا ان خالقها لطيف بلا كيف، وانما الكيفية للمخلوق المكيّف.
وكذلك قويّاً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً.
فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ ولا ندّ ولاكيف ولانهايةولا تبصار بصر، ومحرّم على القلوب أن تمثّله، وعلى الأوهام ان تحدّه، وعلى الضمائر ان تكوّنه، جلّ وعز عن أداة خلقه وسمات بريّته، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ».[5].
مكافحة الغلو:
من الانحرافات الخطيرة التي انتشرت عند البعض الغلو بأهل البيت (عليهم السلام). وقد وقف الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالمرصاد للمغالين فيهم فردّوهم وأفحموهم وأمروا أتباعهم بالابتعاد عنهم.
وقد سار الإمام الجواد (عليه السلام) على نهج آبائه في هذه المسألة وكان حذراً من نشأة بذور الغلو، كما يظهر ذلك من خلال ترصّده لبعض الممارسات ومن الادلة على هذا الأمر، ما ذكره المؤرخون عن الحسين بن محمد الاشعري حيث قال: «حدثني شيخ من أصحابنا يقال له عبد الله بن رزين قال: كنت مجاوراً بالمدينة مدينة الرسول وكان أبو جعفر (عليه السلام) يجيء في كل يوم مع الزوال الى المسجد فينزل الى الصخرة ويمرّ الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويسلّم عليه، ويرجع الى بيت فاطمة ويخلع نعله فيقوم فيصلّي فوسوس اليّ الشيطان، فقال: اذا نزل فاذهب حتى تأخذ من التراب الذي يطأ عليه فجلست في ذلك اليوم انتظره لأفعل هذا.
فلمّا ان كان في وقت الزوال أقبل (عليه السلام) على حمار له فلم يزل في الموضع الذي كان ينزل فيه فجازه حتى نزل على الصخرة التي كانت على باب المسجد ثم دخل فسلّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم رجع الى مكانه الذي كان يصلّي فيه ففعل ذلك أياماً فقلت اذا خلع نعليه جئت فأخذت الحصا الذي يطأ عليه بقدميه.
فلما كان من الغد جاء عند الزوال فنزل على الصخرة ثم دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وجاء الى الموضع الذي كان يصلّي فيه ولم يخلعهما ففعل ذلك أياماً فقلت في نفسي: لم يتهيأ لي ههنا ولكن اذهب الى باب الحمّام فاذا دخل اخذت من التراب الذي يطأ عليه فسألت عن الحمّام فقيل لي انه يدخل حمّاماً بالبقيع لرجل من ولد طلحة، فتعرّضت اليوم الذي يدخل فيه الحمّام، وصرت الى باب الحمّام وجلست الى الطلحي احدِّثه وانا انتظر مجيئه (عليه السلام).
فقال الطلحي: ان اردت دخول الحمام فقم فادخل فانه لا يتهيأ لك بعد ساعة، قلت: ولم؟ قال: لان ابن الرضا(عليه السلام) يريد دخول الحمام، قال: قلت: ومَن ابن الرضا؟ قال: رجل من آل محمد(صلى الله عليه وآله) له صلاح وورع، قلت له: ولا يجوز ان يدخل معه الحمام غيره؟ قال: نخلي له الحمام اذا جاء، قال: فبينا انا كذلك إذ أقبل(عليه السلام) ومعه غلمان له، وبين يديه غلام، ومعه حصير حتى ادخله المسلخ، فبسطه ووافى وسلّم ودخل الحجرة على حماره، ودخل المسلخ، ونزل على الحصير.
فقلت للطلحي: هذا الذي وصفته بما وصفته من الصلاح والورع؟
فقال: ياهذا والله ما فعل هذا قط الا في هذا اليوم، فقلت في نفسي: هذا من عملي أنا جنيته، ثم قلت: انتظره حتى يخرج فلعلّي أنال ما أردت إذا خرج. فلمّا خرج وتلبّس دعا بالحمار وأدخل المسلخ، وركب من فوق الحصير وخرج (عليه السلام)، فقلت في نفسي: قد والله آذيته ولا أعود أروم ما رمت منه أبداً وصحّ عزمي على ذلك. فلمّا كان وقت الزوال من ذلك اليوم أقبل على حماره حتى نزل في الموضع الذي كان ينزل فيه في الصحن، فدخل فسلّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجاء الى الموضع الذي كان يصلّي فيه في بيت فاطمة(عليها السلام) وخلع نعليه وقام يصلّي»[6].
ب -تعميق البناء العلمي
ومن جملة المجالات التي تحرّك فيها الإمام الجواد (عليه السلام) هو إكماله لبناء الصرح العلمي الذي أشاده الائمة (عليهم السلام) من آبائه الكرام، وفي سياق هذا النشاط نلاحظ إجابته على الاستفسارات العلمية والاستفتاءات الفقهية التي كانت تستجد للطائفة الشيعية والامة الاسلامية آنذاك.
والأهم من ذلك ملاحظة نشاطه في اكمال الأدوات والمنهج العلمي.
إكمال الأدوات والمنهج العلمي:
تشكّل القواعد الاُصولية جزءً من المنهج العام لفهم الشريعة واستنباط أحكامها. ونوجز منهجه (عليه السلام) فيمايلي:
أ -عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسيرها من الأئمّة (عليهم السلام).
فقد روي في الكافي عن الإمام الجواد(عليه السلام) أنه قد روى عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) أنّ رجلاً سأل أباه محمّد الباقر(عليه السلام) عن مسائل، فكان ممّا دار بينهما أن قال: «قل لهم: هل كان فيما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من علم الله -عزّ ذكره -اختلاف؟ فإن قالوا لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم الله فيه اختلاف، فهل خالف رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فيقولون: نعم، فإن قالوا: لا ; فقد نقضوا أوّل كلامهم ; فقل لهم: ما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم. فإن قالوا: من الرّاسخون في العلم؟ فقل: من لا يختلف في علمه. فإن قالوا: فمن هو ذاك؟ فقل: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاحب ذلك - إلى أن قال-: وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف في علمه أحداً فقد ضيّع من في أصلاب الرّجال ممّن يكون بعده.
قال أيضاً: وما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى، إن وجدوا له مفسّراً.
قال: وما فسّره رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: بلى قد فسّره لرجل واحد، وفسّر للاُمّة شأن ذلك الرجل، وهو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)»[7].
وقال(عليه السلام) أيضاً: «والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد; فمن حكم بما ليس فيه اختلاف، فحكمه من حكم الله عزّوجلّ; ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب، فقد حكم بحكم الطاغوت»[8].
ب -وجوب العمل بأحاديث الأئمّة (عليهم السلام) المنقولة في الكتب المعتمدة.
فقد جاء في الكافي أيضاً عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شنبولة، أنّه قال: «قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقيّة شديدة، فكتموا كتبهم، ولم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا.
فقال (عليه السلام): «حدّثوا بها، فإنّها حقّ»[9].
ج -جواز العمل بقول من أجازه الإمام (عليه السلام) في العمل برأيه.
فقد جاء في رجال الكشّي: عن خيران الخادم أنّه قال: «وجّهت إلى سيّدي [10] ثمانية دراهم -في حديث -وقال:
قلت: جعلت فداك، إنّه ربّما أتاني الرجل لك قبله الحقّ، أو يعرف موضع الحقّ لك، فيسألني عمّا يعمل به، فيكون مذهبي أخذ ما يتبرّع في سرّ؟
قال: اعمل في ذلك برأيك، فإنّ رأيك رأيي، ومن أطاعك فقد أطاعني» [11].
د -عدم جواز الافتاء من دون علم
فقد مرّ أنه حينما توفي الإمام الرضا (عليه السلام) كان عمر أبي جعفر (عليه السلام) حينذاك سبع سنين، فاختلفت كلمة الشيعة حوله ببغداد والأمصار فاجتمع وجهاء الشيعة وفقهاؤهم في الموسم ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام) فوجدوا في دار جعفر الصادق(عليه السلام) عبد الله بن موسى قد جلس في صدر المجلس وكان يُسأل فيجيب بأجوبة دعتهم الى الحيرة فاضطربوا وهمّوا بالانصراف، واذا بموفّق الخادم يدخل عليهم مع أبي جعفر (عليه السلام) فقاموا اليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه ثم جلس وبدأوا بالسؤال فكان يجيب على أسئلتهم بالحق. ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت فقال (عليه السلام):
لا إله إلاّ الله ! ياعمّ ! إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك؟ ! » [12]
الإجابة على الاستفتاءات الفقهيّة والاستفسارات العلمية:
لقد أسهمت إجابات الإمام الجواد(عليه السلام) على الاستفتاءات الفقهية وغيرها من الاستفسارات العلمية في البناء العلمي للجماعة الصالحة ولك أن تلاحظها في النصوص التالية:
وقت صلاة الفجر:
عن الحصين بن أبي الحصين، قال: «كتبت الى أبي جعفر(عليه السلام): جعلت فداك، اختلف مواليك في صلاة الفجر، فمنهم من يصلّي اذا طلع الفجر الاول المستطيل في السماء، ومنهم مَن يصلي اذا اعترض في أسفل الارض واستبان، ولست اعرف افضل الوقتين فاُصلي فيه. فان رأيت يامولاي جعلني الله فداك ان تعلّمني افضل الوقتين، وتحدّ لي كيف اصنع مع القمر والفجر لأتبين معه حتى يحمرّ ويصبح؟ وكيف أصنع مع الغيم؟ وما حدّ ذلك في السفر والحضر؟ فعلت إن شاء الله.
فكتب بخطّه (عليه السلام): «الفجر -يرحمك الله -الخيط الابيض، وليس هو الأبيض صعداً، ولا تصلّ في سفر، ولا في حضر حتى تتبيّنه -رحمك الله -، فان الله لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال تعالى: (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود من الفجر )[13] فالخيط الابيض هو الفجر الذي يحرم به الأكل والشرب في الصيام، وكذلك هو الذي يوجب الصلاة»[14].
البسملة في الصلاة:
عن يحيى بن أبي عمران الهمداني، قال: «كتبت الى أبي جعفر(عليه السلام): جعلت فداك، ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في ام الكتاب، فلمّا صار الى غير اُم الكتاب من السورة تركها؟ فقال العباسي [15]: ليس بذلك بأس.
فكتب بخط يده: يعيدها مرتين على رغم انفه -يعني العباسي -[16].
الإكراه في الزواج:
جاء في رواية علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن الاشعري، قال:
«كتب بعض بني عمي الى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما تقول في صبيّة زوّجها عمّها، فلمّا كبرت أبت التزويج؟
فكتب بخطه (عليه السلام): «لا تكره على ذلك، والأمر أمرها»[17].
حكم الوقف:
عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: «كتبت الى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) اسأله عن أرض أوقفها جدّي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير، متفرقون في البلاد؟
فأجاب (عليه السلام): ذكرت الارض التي أوقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك ان تتبع من كان غائباً»[18].
شهادة الزوج وغير الزوج:
عن محمد بن سليمان أنه قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): «كيف صار الزوج اذا قذف امرأته كانت شهادته أربع شهادات بالله؟ وكيف لا يجوز ذلك لغيره وصار اذا قذفها غير الزوج جلد الحدّ، ولو كان ولداً او أخاً؟
فقال: قد سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن هذا، فقال: الا ترى انه اذا قذف الزوج امرأته، قيل له: وكيف علمت انها فاعلة؟ فان قال: رأيت ذلك منها بعيني، كانت شهادته اربع شهادات بالله، وذلك انه قد يجوز للرجل ان يدخل المدخل في الخلوة التي لا تصلح لغيره ان يدخلها ولا يشهدها ولد ولا والد في الليل والنهار، فلذلك صارت شهادته اربع شهادات بالله اذا قال: رأيت ذلك بعيني.
واذا قال: اني لم اُعاين، صار قاذقاً في حدّ غيره، وضرب الحدّ إلاّ أن يقيم عليها البيّنة، وإن زعم غير الزوج اذا قذف وادّعى أنه رآه بعينه قيل له: وكيفرأيت ذلك؟ وما ادخلك ذلك المدخل الذي رأيت فيه هذا وحدك؟ انت متّهم في دعواك، وان كنت صادقاً فأنت في حدّ التهمة، فلا بدّ من أدبك بالحدّ الذي أوجبه الله عليك.
قال: وانما صارت شهادة الزوج اربع شهادات بالله لمكان الاربعة شهداء مكان كل شاهد يمين» [19].
إنّ ما ذكر من الامثلة السابقة نماذج لبعض توجهات الإمام الجواد (عليه السلام) وهو تفقيهه لشيعته ومواليه عن طريق مراسلتهم إياه او سؤاله بصورة مباشرة.
ج -تعميق البناء التربوي
من المفردات الاساسية التي اهتم بها الإمام الجواد (عليه السلام) هو مسألة بناء الخلق الاسلامي عند الفرد والمجتمع.
وقد كان الإمام (عليه السلام) وفي سياق تربية الامة ينقل لهم احاديث اجداده خصوصاً امير المؤمنين (عليه السلام) لما تحتويه من توجيهات تربوية عميقة ومؤثرة وفي هذا المجال سنعتبر كلمات الإمام الجواد (عليه السلام) وما نقله عن اجداده الائمة (عليهم السلام) وطرحه للاُمة مادة لفهم توجهاته التربوية.
الحكمة في العمل:
أراد الإمام الجواد (عليه السلام) ان يعلم شيعته ضرورة اعتماد الحكمة في العمل ومراعاة عامل الزمن في اتضاح الاشياء فللامور دورات زمنية ينبغي ان تمرّ بها حتى تكتمل، وعدم الالتفات الى هذا الجانب يفسد العمل ويجهضه قبل استوائه.
قال (عليه السلام): « إظهار الشيء قبل ان يستحكم مفسدة له»[20].
كما ان للمحن دورات لا يستطيع المرء ان يتخلص منها قبل انتهاء دورتها الزمنية وهذا الأمر اشبه شيئاً بالدورات المرضية التي لا يمكن تقليل مدتها، وهذا التوجه لا يعني عدم استعمال الوسيلة لإزالة المحن بل العمل مطلوب وهو يسهم بتقليل مدة المحنة وبالتالي ازالتها وإلى هذا المعنى اشار الإمام الجواد (عليه السلام) عندما نقل حديثاً عن جده امير المؤمنين (عليه السلام): « قال لقيس بن سعد، وقد قدم عليه من مصر: « ياقيس ان للمحن غايات لا بد ان ينتهي اليها، فيجب على العاقل ان ينام لها الى إدبارها، فإنّ مكايدتها بالحيلة عند إقبالها زيادة فيها»[21].
كما انه (عليه السلام) نقل عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام) العناصر المساعدة على اكتمال الأعمال فقال: « اربع خصال تعين المرء على العمل: الصحة والغنى والعلم والتوفيق »[22].
التعامل مع الظالمين:
ركّز الإمام الجواد (عليه السلام) على ضرورة ابتعاد المسلم عن مجاراة الظالمين والركون اليهم، ودعا الى رفضهم والابتعاد عنهم.
فقد روى (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
« العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء » [23].
وكذلك ما رواه عنه (عليه السلام): « من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه»[24].
كما انه (عليه السلام) شدّد على عدم طاعة المنحرفين والاستماع اليهم واعتبر ذلك كالطاعة والاستماع للشيطان. قال (عليه السلام):
« من أصغى الى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وان كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس»[25].
وبلحاظ الرفض الشديد للظالمين والتنديد بهم كان للامام الجواد (عليه السلام) تفسير مهم لمعنى التديّن يتضح من قوله (عليه السلام):
« أوحى الله الى بعض الانبياء: أما زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، واما انقطاعك اليّ فيعزِّزك بي، ولكن هل عاديتَ لي عدوّاً وواليت لي ولياً » [26] فالدين حسب هذه الرواية، يتحقق بموالاة اولياء الله ومعاداة اعداء الله، وعدم مهادنتهم ومسالمتهم ولإذكاء هذه الروح عند الاُمة كان ينقل حديث جده امير المؤمنين (عليه السلام) عندما قال لأبي ذر: « انما غضبت لله عزوجل فارج من غضبت له، ان القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، والله لو كانت السماوات والارضون رتقاً على عبد، ثم اتقى الله لجعل الله له منها مخرجاً، لا يؤنسنّك إلاّ الحق، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل»[27].
النشاط الاجتماعي:
إن حركة الانسان في المجتمع تشتدّ بمقدار تجذّره وتأثيره في ذلك المجتمع، لذلك توجّه الإمام الجواد (عليه السلام) الى توضيح المفاهيم المتصلة بالنشاط الاسلامي للطليعة المؤمنة، وفيما يأتي نذكر بعضاً من هذه المفاهيم:
1 -كلما ترسخ مركز الانسان في المجتمع ازداد توجه الناس اليه وطلبهم منه في قضاء حوائجهم وحل مشاكلهم. روى الإمام الجواد (عليه السلام) عن أجداده عن الإمام علي(عليه السلام): « ما عظمت نعمة الله على عبد إلاّ عظمت عليه مؤونة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرّض النعمة للزوال » [28].
2 -بقاء نعمة الانسان واستمرار موقعه في الاُمة مقترن بدرجة إحسانه اليها وخدمته لها، فقد روى الإمام (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): « ان لله عباداً يخصهم بالنعم، ويقرّها فيهم ما بذلوها، فاذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها الى غيرهم»[29]. وقال(عليه السلام): « أهل المعروف الى اصطناعه احوج من اهل الحاجة اليه، لأن لهم اجره وفخره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف فانما يبدأ فيه بنفسه، فلا يطلبنّ شكر ما صنع الى نفسه من غيره » [30].
3 -ضرورة مجازاة المحسن بالشكر، يقول (عليه السلام) راوياً عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، « كفر النعمة داعية المقت ومن جازاك بالشكر فقد أعطاك اكثر مما أخذ منك»[31].
4 -كما ان الإمام (عليه السلام) بيّن طرق تحسين العلاقة بين الناس واصول التعامل بين الاصدقاء فقد روى عن جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام):
« ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الانصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدّة، والانطواع والرجوع الى قلب سليم » [32].
وقال (عليه السلام): « لا يفسدك الظنّ على صديق وقد أصلحك اليقين له، ومن وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظ علانية فقد شانه. استصلاح الاخيار باكرامهم، والاشرار بتأديبهم، والمودّة قرابة مستفادة، وكفى بالأجل حرزاً، ولا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل الى ثمانية عشر سنة، فاذا بلغها غلب عليه اكثرهما فيه، وما أنعم الله عزوجل على عبد نعمة فعلم انها من الله إلاّ كتب الله جلّ اسمه له شكرها قبل ان يحمده عليها، ولا أذنب ذنباً فعلم ان الله مطّلع عليه إن شاء عذبه وان شاء غفر له، الاّ غفر الله له قبل ان يستغفره » [33].
5 -كما شدّد(عليه السلام) على ضرورة اختيار القرين الصالح لما يورثه من اثر على المرء، فقد روى(عليه السلام): « فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء، والخلق اشكال فكل يعمل على شاكلته، والناس إخوان، فمن كانت اخوته في غير ذات الله فانها تحوز عداوة، وذلك قوله تعالى: ( الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين ) [34]»[35].
فاذا حصل المرء على الاخ المخلص في الله فانه فاز بشيء عظيم وينبغي له مشاورته واستنصاحه. روى الإمام الجواد (عليه السلام) عن علي (عليه السلام) قال: «بعثني النبي (صلى الله عليه وآله) الى اليمن، فقال لي وهو يوصيني: «ياعلي، ما حار من استخار، ولا ندم من استشار»، وقال(عليه السلام): « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة »[36].
وصايا للعاملين:
كان الإمام الجواد(عليه السلام) يزرع روح الأمل والصبر في قلوب المؤمنين ليسلّحهم بالسلاح الفاعل عند مقارعتهم للظلم والطغيان وتحركهم ضده.
لقد اشار الى يوم يعاقب فيه الظالم عندما ينتصر العدل فينتقم للمظلومين من جوره اشد الانتقام. ان حمل المستضعفين لهذا المفهوم ومعايشتهم اياه يصنع منهم قوة لا تلين وثورة لا تقاوم. روى الإمام الجواد (عليه السلام): « يوم العدل على الظالم اشد من يوم الجور على المظلوم » [37].
ولقد روى(عليه السلام) «ان صبر المؤمن على البلاء من اشد الاسلحة ضد الظالمين» وقال(عليه السلام): « الصبر على المصيبة مصيبة على الشامت بها » [38].
كما انه(عليه السلام) روى عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام) المنهاج الذي ينبغي ان يلتزم به المؤمنون ليبلغوا غاياتهم السامية.
عنه(عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: « من وثق بالله أراه السرور، ومن توكل عليه كفاه الاُمور، والثقة بالله حصن لا يتحصن فيه الاّ مؤمن أمين، والتوكل على الله نجاة من كل سوء وحرز من كل عدو، والدين عزّ، والعلم كنز، والصمت نور، وغاية الزهد الورع، ولاهدم للدين مثل البدع، ولا أفسد للرجال من الطمع، وبالراعي تصلح الرعية، وبالدعاء تصرف البليّة، ومن ركب مركب الصبر اهتدى الى مضمار النصر، ومن عاب عيب، ومن شتم اجيب، ومن غرس اشجار التقى اجتنى ثمار المنى » [39].
الحث على اكتساب العلم:
حثّ الإمام الجواد (عليه السلام) على طلب العلم وبيّن فضل العلماء من خلال أحاديثه ورواياته عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام) وفيما يأتي نماذج من هذه الأحاديث:
قال (عليه السلام): « عليكم بطلب العلم، فان طلبه فريضة، والبحث عنه نافلة، وهو صلة بين الاخوان، ودليل على المروّة، وتحفة في المجالس، وصاحب في السفر، واُنس في الغربة » [40].
وقال (عليه السلام): « العلم علمان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع مسموع اذا لم يكن مطبوع، ومن عرف الحكمة لم يصبر على الازدياد منها، الجمال في اللسان، والكمال في العقل »[41].
وعنه(عليه السلام) عن علي، قال في كتاب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): « ان ابن آدم اشبه شيء بالمعيار، إما راجح بعلم -وقال مرة بعقل -أو ناقص بجهل»[42].
وقال (عليه السلام): « اقصد العلماء للمحجّة الممسك عند الشبهة، والجدل يورث الرياء، ومن أخطأ وجوه المطالب خذلته الحيل، والطامع في وثاق الذلّ، ومن احبّ البقاء فليعدّ للبلاء قلباً صبوراً»[43].
كما انه كان يتألّم لكثرة الجهلاء وابتلاء العلماء بهم وكان يعتبر سبب الاختلاف هو ما يطرحه الجهلاء نتيجة جهلهم، فقد روى عن جده أميرالمؤمنين(عليه السلام):« العلماء غرباء لكثرة الجهّال بينهم»[44].
وقال (عليه السلام): « لو سكت الجاهل ما اختلف الناس»[45].
الحث على التوبة:
دعا الإمام الى كيفية التوبة الى الله تعالى وبيّن طريقها، فقد روى عن أمير المؤمنين(عليه السلام):
« التوبة على أربعة دعائم: ندم القلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم على ان لا يعود».
«وثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار وخفض الجانب وكثرة الصدقة »[46].
كما انه (عليه السلام) اشار الى فوريّتها وحذّر من التسويف بها بقوله: « تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والاصرار على الذنب أمنٌ لمكر الله ( ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون )[47]»[48].
3 -احكام تنظيم الجماعة الصالحة واعدادها لدور الغيبة
أ -نظام الوكلاء ودقة التحرّك المراسلات السرّيّة الإحاطة بدقائق الاُمور الاجتماعية متابعة تربية الأفراد
4 -التمهيد لإمامة علي الهادي(عليه السلام) المبكرة
5 -الإمام الجواد (عليه السلام) وقضية الإمام المهدي (عجل الله فرجه)
[1] العنكبوت (29): 61.
[2] الانعام (6): 103.
[3] حد التعطيل هو عدم اثبات الوجود، والصفات الكمالية والفعلية والاضافية له تعالى، وحد التشبيه الحكم والاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات وعوارض الممكنات.
[4] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 353 ـ 354.
[5] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 354 ـ 356.
[6] بحار الانوار: 50 / 59 ـ 61.
[7] اُصول الكافي: 1/245.
[8] اُصول الكافي: 1/248.
[9] اصول الكافي: 1 / 53 ح 15، عنه الوسائل: 18 / 58 / 27.
[10] المراد بسيّده هنا إمّا الإمام الرضا، أو الإمام الجواد، أو الإمام الهادي (عليهم السلام) لأنّه خدمهم ثلاثتهم(عليهم السلام)، والمرسل إليه يحتمل الثلاثة.
[11] رجال الكشي: 610 ح 1134، وزاد فيه: قال أبو عمرو: هذا يدل على أنّه كان وكيله، ولخيران هذا مسائل يرويها عنه، وعن أبي الحسن (عليهما السلام)، عنه في الوسائل: 12 / 216 / ح 6.
[12] بحار الأنوار: 50 / 99.
[13] البقرة (2): 187.
[14] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 382 ـ 382.
[15] هو هشام بن ابراهيم العباسي وكان يعارض الرضا والجواد (عليهما السلام).
[16] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 162 ـ 163.
[17] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 475.
[18] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 466.
[19] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 484 ـ 485.
[20] تحف العقول: 457.
[21] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 276.
[22] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 276.
[23] مستدرك عوالم العلوم:: 23 / 278.
[24] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 280.
[25] تحف العقول: 456.
[26] تحق العقول: 455 ـ 456.
[27] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 257.
[28] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 276.
[29] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 276.
[30] مستدرك عوالم العلوم: 23/276.
[31] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 280.
[32] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 279.
[33] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 280.
[34] الزخرف (43): 67.
[35] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 279.
[36] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 275.
[37] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 278.
[38] مستدرك عوالم العلوم: 23/278.
[39] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 276.
[40] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 277.
[41] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 277.
[42] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 275.
[43] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 278.
[44] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 278.
[45] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 279.
[46] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 279.
[47] الاعراف (7): 97.
[48] تحف العقول: 456.