حيث وضعوه إما تحت الإقامة الجبرية، وإما في قعر السجون المظلمة حتى دسوا إليه السم، فمات شهيداً مظلوماً. وخلال السنين الأربع الأولى من عهد إمامته تجرع الإمام كوالده غصص الألم. وهناك قصتان تعكسان طبيعة هذه الغصص:
يروي أبو الصلت الهروي: كان الرضا ذات يوم جالساً في منزله إذ دخل عليه رسول هارون الرشيد فقال: أجب أمير المؤمنين فقام، فقال لي:" يا أبا الصلت إنه لا يدعوني في هذا الوقت إلاّ لداهيةٍ، فوالله لا يمكنه أن يعمل بي شيئاً أكرهه لكلمات وقعت إليّ من جدي رسول الله". قال فخرجت معه حتى دخلنا على هارون الرشيد فلما نظر إليه الرضا قرأ هذا الحرز( وذكره) فلما وقف بين يديه نظر إليه هارون الرشيد وقال: يا أبا الحسن قد أمرنا لك بمائة ألف درهم، واكتب حوائـــــج أهلـــك، فلما ولي عنه علي بن موســى وهارون ينظر إليه في قفاه قال: ( أردت وأراد الله وما أراد الله خيــــر ).
وقد أشار يحيى البرمكي على هارون بقتل الإمام الرضا كما أشار غيره بذلك فاستعظم الأمر، وقال: ما ترى تريد أن أقتلهم كلهم.
والقصة الثانية تلك التي رويناها سابقاً عن دخول الجلودي على الإمام وسلبه أهله. حتى هلك هارون، وشب الخلاف بين ورثته بدأ الإمام نشاطه بقدر من الحرية النسبية.
لقد وصّى هارون لثلاثة من أبنائه بولاية العهد وهم الأمين والمأمون والمؤتمن بالترتيب، ولمعرفته بميول العباسيين إلى الأمين الذي كانت والدته زبيدة ترعاه، خشي على المأمون الذي كان يرى فيه كفاءة أكثر لادارة البلاد فمنحه بعض المناصب في الدولة.. وكـان الفرس الذين كانوا لا يزالون متنفذين في الدولة العباسية بالرغـم من نكبة البرامكة يميلون نحو المأمون لأن أمه منهم ولأنه تربى في أحضانهم. من هنا كانت سحُب الفتنة تتجمع في سماء الأمة، وكان هلاك هارون الرشيد في خراسان في وقت مبكر وقبل أن يرتب أوضاع البلاد، فعجَّل ذلك في اشتعال نار الفتنة، كما أن مرافقة المأمون لوالده التي جاءت - حسب بعض الروايات - بإشارة من فضل بن سهل ساهمت فيها.
لقد سارع الأمين وربما بإشارة من بعض قواده العباسيين في خلع أخيه ونصب ابنه ولياً للعهد، وكان من الطبيعي أن يرفض المأمون ذلك مما حدى بالأمين إلى بعث بعض قواده ليأتون به مغلولاً. وقد شجع المأمون بعض قادة جيشه ولا سيما من هم من الفرس على التمرد، ففعل وانتهى إلى الحرب بين الأخوين التي انتهت بخلع الأمين واستتب الأمر لأخيه. وكانت هذه الحرب أول حرب بين العباسيين، ومن أسوأ الحروب الداخلية بين المسلمين. مما زعزع الثقة بالنظام السياسي عند الجماهير وشجع المعارضة على الثورة، فإذا بأطراف البلاد تنتفض وتخلع الحاكم وتبايع واحداً من العلويين.
وكانت أخطر وأعظم هذه الثورات حركة أبي السرايا في الكوفة التي قادها السري بن منصور، وعقدت لواء الزعامة لواحد من أبناء الإمام الحسن المجتبى عليه السلام واسمه محمد بن إبراهيم بن إسماعيل. وانتشرت هذه حتى شملت الكوفة والواسط والبصرة والحجاز واليمن. ووقعت بينها وبين جيوش بني العباس معارك طاحنة لم يظفر العباسيون بها إلاّ بالحيلة والمكر. وفي مكة المكرمة ثار محمد ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام وبويع بالخلافة ولقب بـ ( أمير المؤمنين ).
وكانت هناك ثورات أخرى في بلاد الشام والمغرب وكلها تدل على اضطراب الوضع السياسي، حتى أن الناس لم يبايعوا المأمون إلاّ بعد أن استتب الأمر له وعاد إلى بغداد، وبعد حروب أكلت مئات الألوف من المسلمين. وكان عصر المأمون يتميز - كما أشرنا سابقاً - بتنامي التيارات الفكرية الغريبة التي كان من شأنها زعزعـــة النظام الثقافي للأمة، وكانت نتيجة طبيعية لحركة الترجمة التي شجّعها العباسيون من دون رؤيــة.
كما أن الثقة عند قيادات الجيش الذي يمثل العماد الأصلي للنظام كادت تنهار، حتى قال هرثمة بن حازم ( أحد قيادات العسكر ) للمأمون: يـــا أميــر المؤمنين لن ينصحك من كذبك، ولن يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك. ولعلنا نضيف إلى كل ذلك حالة المجون والترف التي اشتهرت بين رجال الدولة وبطانتهم، والتي كان يشجعها النظام لإلهائهم عن الحقائق المرة التي يعيشها المسلمون. وإذا كان آل ( برمك ) بالأمس أبطال هذا الميدان، فإن آل ( سهل ) خلفوهم فيه، وما يذكره بعض المؤرخين عن زواج الخليفة (ببوران) وما رافقه من مظاهر البذخ والترف شاهد على ذلك.