إنّ مقام الإمامة الإلهيّة التي خصّ اللَّه بها آل محمّدصلى الله عليه وآله مقام أثير عند اللَّه عزيز عليه، و قد وهبهم سبحانه ما أحبّ من عطائه الذي لا ينفد، و أجرى على أيديهم من خزائن رحمته ما لا يقوى على عَدّه العادّون. و هي خزائن تظلّ - مهما فاضت به من خير على الخلق - بِكراً كأنّها لم تُمَسّ، يقسم منها بتفضّله مايشاء.
و قد تجلّت مظاهر الرحمة و الرأفة في حياة أهل البيتعليهم السلام، بما حفلت به مصادر الحديث و السيرة والتاريخ، ممّا هو واقع متواتر موثوق. و لا غَرو، فهم معدن الخير و أصله، و منبع الرحمة وأهلها.
وهذه الوقائع التي عُرفت باسم «المعجزات والكرامات»، تصدر منهم - سلام اللَّه عليهم - في حياتهم و بعد شهادتهم مصداقاً من مصاديق الدلالة على اللَّه تعالى و الإيصال إليه، و من مصاديق الإعانة للخلق والشفقة على العباد في دفع الضرّ و إزالة الكرب وتفريج الشدائد والملمّات.
إنّه من السهل اليسير على أولياء اللَّه و أحبّائه و على من اجتباهم واصطفاهم و اختارهم من خلقه أن يَهَبوا مثل هذه الهِبات الإعجازيّة.. و هم الذين خلقهم اللَّه أنواراً فكانوا بعرشه مُحدِقين، حتّى مَنّ علينا بهم فجعلهم في بيوتٍ أذِن اللَّه أن تُرفَع و يُذكر فيها اسمُه.
و حديث الإعجاز إنّما هو من مظاهر الحياة الإيمانيّة التوحيديّة التي تعتقد بأنّ اللَّه على كلّ شيء قدير، و أ نّه لا يُعجزه شيء في السماوات ولا الأرض، وأ نّه يهب ما يشاء لمن يشاء كيف يشاء.
و القرآن الكريم - و هو كتاب اللَّه الصادق المصدَّق - يحكي في مواضع متعدّدة عن وقائع إعجازيّة يكذّب القرآنَ مَن يكذّبها، و يزيغ عن صراط الحقّ مَن يتأوّلها تأوّلاً يُخرجها إلى مرتبة الفعل العاديّ، أو ينسبها إلى معنىً رمزيّ بعيد عن الواقع و غير مطلوب.
إنّ حديث القرآن عن نملة سليمان و هُدهُده ممّا هو ثابت لامِراء فيه. أمّا إذا جئنا إلى سيرة أنبياء اللَّه في القرآن فإنّنا نلقى فيها من الفعل الإعجازيّ شيئاً كثيراً؛ فهذه نار إبراهيمعليه السلام التي أُلقي فيها فاستحالت عليه برداً و سلاماً. و هذه عصا موسى التي تحوّلت إلى ثعبان عظيم يلقف ما أظهره سَحَرة فرعون من حيّات السحر، والتي فلقت - في واقعة أخرى - يَمّ البحر فكان كلُّ فِرق منه كالطود العظيم. وهذا عيسى بن مريم يشفي أصحاب الأمراض المزمنة المستعصية، ويعيد الأموات بعد موتهم إلى الحياة. أمّا سيرة رسول اللَّه المصطفىصلى الله عليه وآله فهي حافلة بمثل هذه المعجزات التي ذكرها القرآن أو نقلتها كتب الحديث والسيرة، من تسبيح الحصى في يده، و حنين الجذع إليه، ونبوع الماء من بين أصابع يده المقدّسة، والغمامة التي تظلّله من حرّ الشمس و تسير معه حيثما سار، ثمّ حادثة المعراج المذهلة و ما فيها من آيات و دلالات... وغيرها كثير.
إنّ المعجزة كما تكون برهاناً على صدق نبوّة النبيّ تكون برهاناً على صدق إمامة الإمام. و هي - في غير هذا - مَجْلى للإعانة و الإغاثة والرحمة بالخلق. و قد صدّق المسلمون على اختلاف مشاربهم صدور كرامات ممّن يتوسّمون فيهم الخير و التقوى و الصلاح، فكيف بمن هم حُجَج اللَّه و أمناؤه في أرضه!
إنّ فعل المعجز - كما نصّ الإمام الصادقعليه السلام - من مزايا الإمام الذي ينصبه اللَّه تعالى عَلَماً وحجّة، و من هذه المزايا: «العصمة، وأن يكون أعلم الناس، و أتقاهم للَّه، و أن يكون صاحب الوصيّة الظاهرة، و يكون له المعجز و الدليل، و تنام عينه ولا ينام قلبه».(1) و عن صفات الإمام أيضاً يقول الإمام الباقرعليه السلام: «... و أن يُسأل فيجيب... و يُخبِر الناس بما يكون في غد، ويكلّم الناس بكلّ لسان ولغة».(2)
لقد شهد الماضي - كما يشهد الحاضر الحيّ الذي نعيش فيه - وقائع حيّة كثيرة من هذا النوع تَحدُث مقرونة بلطف من الإمام الرؤوف أنيس النفوس و ملجأ الغرباء عليّ بن موسى الرضا صلوات اللَّه عليه. و قد دَوّنت السابقَ منها المصادرُ الموثوقة بحيث تصل إلى حدّ التواتر المعنويّ القطعيّ الذي لاريب فيه. و ما نزال نشهد كثيراً مثل هذه الكرامات الإعجازيّة التي يتفضّل بها الإمام على زائريه و قاصديه و آمِليه. وقد دُوِّن العديد منها في كتب موثّقه، و غالبها ما يفوز به - في نفحات روحيّة رضويّة غامره - أصحاب الشدائد المضطرّون والمُبتلَون بأدواء تستعصي على العلاج.
و في هذه العجالة نقتطع نصّاً لأحد العلماء المحقّقين من أعلام القرن السادس الهجريّ، يومئ فيه إلى طرف من هذه المعجزات والكرامات الرضويّة الكريمة. هو ذا الشيخ أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ، يقول في كتابه «إعلام الورى بأعلام الهدى»: و أمّا ما ظهر للناس بعد وفاته من بركة مشهده المقدّس و علاماته، و العجائب التي شاهَدَها الخلق فيه، وأذعن العامّ والخاصّ له، وأقرّ المخالف و المؤالف به إلى يومنا هذا.. فكثير خارج عن حدّ الإحصاء و العَدّ. ولقد أُبرئ فيه الأكمَه و الأبرَص، واستُجيبت الدعوات، و قُضِيَت ببركته الحاجات، و كُشِفَت المُلِمّات. وشاهَدْنا كثيراً من ذلك و تَيَقنّاه، و عَلِمنا عِلماً لا يتخالج الشكّ و الريب في معناه، فلو ذهبنا نخوض في إيراد ذلك لخرجنا عن الغرض في هذا الكتاب.(3)
المصادر:
1) بحار الأنوار 25: 140.
2) نفسه 25: 141.
3) إعلام الورى 62.