إن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قد جسد هذه الصفة السلوكية والاخلاقية كما جسدها آباؤه الكرام حقيقة وحياة فقد روي عنه انه :( كان جلوس الرضا عليه السلام في الصيف على حصير وفي الشتاء على مسح ولبسه الغليظ من الثياب حتى اذا برز للناس تزين لهم).
فالامام الرضا عليه السلام مع ما كان بيده من ثروة وغنى ومع ما كان له مقام وقدرة على الاقتناء والاستمتاع. كان معرضا عن زخرف الدنيا وزينة الحياة، ولكنه على الرغم من ذلك كان تشير الرواية انه كان يعتني بمظهره الذي يلقى به الناس، ويتعامل به مع المجتمع فهو مع نفسه وربه متخل عن كل حب للمقتنيات وزينة الحياة الا انه يرى من ضرورات الحشمة والوقار الاجتماعي ان يظهر للناس بالمظهر الذي يعتنون بالظهور به، ليواكب تفكير المجتمع ويوافق طبيعة الحياة في غير محرم. وتنقل جارية الحياة في بيته، فتصور طبيعة زهد وعبادة بعيدة عن حياة الترف وقصور ذلك العصر وجواريه. فتقول:
(... اشتريت مع عدة جواري من الكوفة، وكنت من مولداتها قالت، فحملنا الى المأمون فكنا في داره في جنة من الاكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير فوهبني المأمون للرضا عليه السلام، فلما صرت في داره فقدت جمع ما كنت فيه من النعيم، وكانت علينا قيمة تنبهنا الليل وتأخذنا بالصلاة، وكان ذلك من اشد ما علينا. وأعظم الزهد زهده في الخلافة بالطريقة التي عرضها عليه المأمون العباسي، فإن من الناس من يزهد في الدنيا طلباً لما هو أعظم من متاعها. ولا أعظم من الرئاسة في أعين الإنسان.
يقول الفضل بن سهل الذي شهد حوار المأمون مع الإمام الرضا في شأن الخلافة ما رأيت الملك ذليلاً مثل ذلك اليوم. يقول المأمون العباسي فيما روي منه، فجهدت الجهد كله وأطمعته في الخلافة وما سواها فما أطمعني في نفسه.
أخلاقه وأدبه
كان الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في اخلاقه العلمية وسلوكه الخلقي الرفيع يصور لنا جانبا من عظمة اهل البيت عليه السلام ويحكي لنا حقيقة هذه الشخصيات الرسالية القدوة التي ما عرفت يوما الانفصام بين القول والعمل.
فها هو ابراهيم بن العباس الصولي يصف لنا جانبا من أدب الامام وحسن خلقه وجميل معاشرته وسموا انسانيته وادب محادثته وحسن استماعه، قال: (ما رايت ابا الحسن جفا احدا بكلامه قط، وما رأيت قطع على احد كلامه حتى يفرغ منه، وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليه، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ولا رأيته شتم احدا من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم). وتتجسد اخلاقه وانسانيته في تعامله مع الفقراء والخدم والعبيد والمساكين فلا ينظر اليهم الا بعين الاخوة في الله ووحدة النوع والانساني، ولا يفاضل بين نفسه وغيره الا بالتقوى.
فها هو ينصب مائدة الطعام وهو متجه الى خراسان ليستلم ولاية عهد المسلمين، ويتسلم رئاسة الدولة الاسلامية الكبرى، فترى الحب والتواضع وطيب المعاشرة تطوف حول المائدة تعم اجواء الاجتماع، يحدثنا بعض مرافقيه فيقول:
(كنت مع الرضا عليه السلام في سفره الى خراسان فدعا يوما بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم فقلت جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: مه، انه الرب تبارك وتعالى واحد والام واحد والاب واحد والجزاء بالاعمال). وترى رفقه واحترامه للانسانية ولمشاعر الانسان يتجسد في تعامل آخر مع خدمه وغلمانه، يقول نادر الخادم: (كان ابو الحسن اذا اكل احدنا لا يستخدمه حتى يفرغ من طعامه). ونقل هذه الخصلة النبيلة عن الامام ايضا ياسر الخادم ونادر الخادم فقالا: (قال لنا ابو الحسن: اذا قمت على رؤسكم وانتم تأكلون، فلا تقوموا حتى تفرغو، وربما دعا بعضن، فيقال: هم يأكلون، فيقول دعوهم حتى يفرغوا). وهكذا نجد احترام الانسانية وحسن المعاشرة والتواضع لله سبحانه ظاهرة بارزة في حياة اهل البيت عليه السلام وهي آبرز الاسس والقواعد التي يقوم عليها نظام الاسرة والمجتمع والحياة، فهي مصدر الحب والتماسك والترابط بين الناس.
لذلك نجد الامام يقول لرجل قال له: (والله ماعلى وجه الارض اشرف منكم أب، فيقول له: التقوى شرفهم وطاعة الله اعظمهم)، وقال اخر: انت والله خير الناس، فقال له: لا تحلف يا هذ، خير مني من كان اتقى لله تعالى واطاع له، والله ما نسخت هذه الاية: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم).
عبادته
يحدثنا الرواة عنه انه كان اعبد اهل زمانه واكثرهم ورعا وتقوى، حتى خصومه ومناوئيه كانوا يعترفون له بذلك ولا يستطيعون اخفاء هذه الصفة العظيمة فيه، فهذا المأمون العباسي يشهد بنص ميثاق البيعة له: (... محبة ان يلقى الله سبحانه وتعالى مناصحا له في دينه وعبادته، ومختارا لولاية عهده ورعاية الامة من بعده افضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه، وارجاهم للقيام بامر الله تعالى وحقه وكان خيرته علي بن موسى الرضا عليه السلام، لما راى من فضله البارع وعمله الذائع، وورعه الظاهر الشائع وزهده الخالص النافع وتخليه عن الدنيا وتفرده عن الناس، قد استبان له ما تزال الاخبار عليه مطبقة والالسن عليه متفقة والكلمة فيه مجتمعة والاخبار واسعة، ولما لم نزل نعرفه به من الفضل يافعا وناشئاً وحدثا وكهل، فلذلك عقد له بالعهد والخلافة من بعده).
ووصف رجاء بن ابي الضحاك الذي رافق الامام طول سفره من المدينة الى مَرُوْ، عبادة الامام وتقواه فقال: (فكنت معه من المدينة الى مرو فوالله ما رايت رجلا كان اتقى لله تعالى منه، ولا اكثر ذكرا لله في جميع اوقاته منه، ولا اشد خوفا لله عزوجل منه، فكان اذا اصبح صلى الغداة، فاذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ويصلي على النبي حتى تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة يقف فيها حتى يتعالى النهار، ثم اقبل على الناس يحدثهم ويعظهم الى قرب الزوال).
وروي الوشاء: (دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام وبين يديه ابرق يريد ان يتهيأ منه للصلاة، فدنوت لاصب عليه، فابى ذلك، وقال: مه يا حسن، فقلت له: لم تنهاني ان اصب على يدك تكره ان أؤجر؟ قال: تؤجر انت واوزر ان، قلت له: وكيف ذلك؟ فقال: اما سمعت الله عزوجل يقول: (فمن كن يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا) وها انا ذا أتوضأ للصلاة هي عبادة فاكره ان يشركني فيها احد.
آما الليل فكان محرابه وسبحه الطويل ومأوى مناجاته ومجلس ذكره وضراعته لذا نجد الذين عايشوه يصفون عبادته وتهجده في جوف الليل، وعند هجعة العيون، وصمت الناطقين فانه يقوم لله في عبادة الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما. وتحدث راو عاصر الامام الرضا عليه السلام هو ابراهيم بن العباس الصولي قال واصفاً الامام عليه السلام: (وكان قليل النوم بالليل كثير السهر، يحيي اكثر لياليه من اولها الى الصبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة ايام في الشهر ويقول: ذاك صوم الدهر، وكان كثير المعروف والصدقة في السر واكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم انه رأى مثله في فضله فلا تصدق).