وبذلك عاش الإمام حوالي أربع سنوات في ظل الحكم الأموي ولكنها كانت سنوات الغليان الثوري والنقمة الشعبية العارمة ضد الأمويين.
وسرق العباسيون ثورة الأمة وتولوا الحكم تحت شعار (إلى الرضا من آل محمد) وكان أول حاكم عباسي هو أبو العباس السفاح والذي دخل الكوفة حاكماً في 12 ربيع الأول سنة 132هـ واشتغل طوال فترة حكمه بتصفية الأمويين وإرساء دعائم الحكم الجديد وغفل عن العلويين لضعف سلطته آنذاك ولأن الحكم قد قام باسمهم ولاستمالتهم وإرضائهم وقد توفي بتاريخ 12 ذي الحجة سنة 136هـ.
وتولى السلطة بعده وبوصية منه أخوه أبو جعفر المنصور وفي عهده اتضحت معالم السياسة العباسية للناس والتي لم تكن تختلف عن سياسة الأمويين فهي قائمة على أساس الحكم الوراثي والاستبداد والظلم والفساد واغتصاب الأمر من أصحابه الشرعيين أهل البيت (عليهم السلام).
وبينما استغل الإمام الصادق (عليه السلام) فترة نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي في نشر العلوم والمعارف الإسلامية والتي طمست وأصابها التحريف والتشويه بواسطة أدعياء الدين الملتفين حول السلطة وفي تربية الكوادر والعناصر المؤمنة الملتزمة الواعية بحقيقة الدين.. وكان للإمام الكاظم دور كبير في هذا المجال منذ حداثة سنّه.
في نفس الوقت كان بعض الثوار العلويين ممن شاركوا في صنع الثورة وإنجاحها يعملون ضد سرقة العباسيين للثورة وممارستهم لسياسة ظالمة منحرفة عن الإسلام وبالطبع لم تكن هذه الثورات بعيدة عن توجيهات الأئمة بل كانوا يرعونها سراً..
وعرف المنصور العباسي توجهات العلويين ضد حكمه فبدأ يمارس معهم سياسة البطش والإرهاب والقمع والحرمان مما زاد في نقمتهم وسخطهم..
واندلعت الثورات العلوية ضد العباسيين وكان أولها ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن المسمى (ذي النفس الزكية) والذي كان من المفروض أن يستلم الحكم بعد الأمويين لأن الهاشميين قد بايعوه بالخلافة لذلك لم يعترف بالحكم العباسي ولم يبايع للسفاح ولا للمنصور من بعده.. وحينما تصاعد الجور والاضطهاد العباسي للعلويين أعلن الثورة ضدهم وسيطر على المدينة سنة 145هـ فأرسل المنصور جيشاً ضخماً يتكون من فرقتين الأولى بقيادة عيسى بن موسى وفيها (4000) فارس والثانية بقيادة حميد بن قحطبة وفيها (5000) فارس وحاصر الجيش العباسي المدينة وقمعوا الثورة وقتل قادتها ونال أهل المدينة من بطش الجيش العباسي الشيء الكثير(1).
تلتها ثورة إبراهيم بن عبد الله العلوي في البصرة في ذات السنة وكان مصيرها نفس مصير الثورة السابقة.
وبالطبع لم يقتصر القمع العباسي على الثوار العلويين بل امتد ليشمل كل العلويين وأتباعهم حتى الذين لم يشتركوا في الثورة مباشرة وهكذا بدأت الضغوط تتوالى على الإمام الصادق (عليه السلام) من قبل السلطة العباسية والتي كانت تعتقد بأنه محرك العلويين وباعث روح الثورة في نفوس الأمة.
فأمر المنصور عامله على المدينة أن ينهي حياة الإمام الصادق بشكل غير واضح فدس له سماً قطع أمعاء الإمام والتحق بالرفيق الأعلى سنة 148هـ.
وآلت الإمامة إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) وكان عمره الشريف عشرين سنة. وظل الإمام يمارس مسؤولياته بعد أبيه بحذر وحكمة حتى هلك المنصور العباسي في ذي الحجة سنة 158هـ بعد 22 سنة من الحكم الموغل في الظلم والإرهاب.
وعهد بالأمر لولده المهدي والذي بدأ خلافته بإصدار عفو عن جميع المعتقلين السياسيين ورد الأموال المصادرة من قبل أبيه إلى أهلها بما في ذلك الأموال التي صادرها المنصور من الإمام الصادق فقد ردها المهدي إلى الإمام الكاظم (عليه السلام).
وكان المهدي ماجناً خليعاً اشتغل باللهو والغناء والجواري والبذخ.. وقد استمر في الحكم إحدى عشر سنة 158هـ إلى 169هـ وعزم مرة على اعتقال الإمام الكاظم حينما رأى اتساع نشاطه والتفاف الأمة حوله فجلبه من المدينة إلى عاصمته بغداد ولكنه أطلق سراحه على أثر رؤيا رآها في المنام كما سيأتي تفصيل ذلك.
وحكم بعده ولده موسى الهادي بوصية منه وكان شاباً يبلغ من العمر 25 سنة وكان ماجناً طائشاً وهو أول خليفة عباسي أولع بشرب الخمر وكان مبغضاً لأهل البيت (عليهم السلام) حاقداً عليهم ومن بداية حكمه أعلن ضدهم القمع والشدة فتفجرت تلك الثورة العلوية العظيمة بقيادة الحسين بن علي حفيد الإمام الحسن السبط (عليه السلام) في سنة 169هـ والتي انتهت بمقتله مع أصحابه في واقعة (فخ) المشهورة.
وحينما أراد الحسين شهيد فخ الخروج ودعه الإمام الكاظم (عليه السلام) بقوله:
(إنك مقتول فأحدّ الضراب فإن القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله أحتسبكم من عصبة)(2).
وكانت السلطة العباسية تعرف موقف الإمام موسى المؤيد للثورة دون أن تمتلك أي مستمسك يدين الإمام بوضوح ولذلك لما سمع الخليفة الهادي العباسي عن أخبار الثورة وجه اتهامه فوراً إلى الإمام موسى الكاظم مهدداً له بالقتل حيث قال:
(والله ما خرج حسين إلا عن أمره، ولا اتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل البيت قتلني الله إن أبقيت عليه).
وأضاف يقول في تهديده:
(ولولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور ما كان به جعفر ـ يعني الإمام الصادق ـ من الفضل المبرز عن أهله في دينه وعمله وفضله وما بلغني من السفاح فيه من تعريضه وتفضيله لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً).
وكان في مجلسه القاضي أبو يوسف فانبرى إليه قائلاً:
(نساؤه طوالق، وعتق جميع ما يملك من الرقيق، وتصدق جميع ما يملك من المال، وحبس دوابه، وعليه المشي إلى بيت الله، إن كان مذهب موسى بن جعفر الخروج، ولا يذهب إليه، ولا مذهب أحد من ولده ولا ينبغي أن يكون هذا منهم).
ولكن الأنباء تناقلت تهديده الشديد مما سبب القلق والاضطراب في نفوس العلويين وأتباعهم خوفاً على حياة الإمام واقترحوا على الإمام أن يختفي من وجه الطاغية فتبسم الإمام موسى وتمثل بقول كعب بن مالك:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها
وليغلبن مغالب الغلاب
ويقول الآخر:
أبشر بطول سلامة يا مربع
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
واتجه الإمام نحو القبلة وأخذ يتضرع إلى الله ويتوسل إليه لينجيه من شر الطاغية.
والتفت الإمام موسى (عليه السلام) بعد الدعاء إلى أصحابه قائلاً:
(ليفرج روعكم فإنه لا يأتي الكتاب من العراق إلا بموت موسى الهادي).
فقالوا جميعاً: (وما ذاك أصلحك الله؟).
قال (عليه السلام):
(وحرمة صاحب هذا القبر ـ مشيراً إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مات موسى الهادي من يومه هذا، والله إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)(3).
فكان كما أخبر (عليه السلام).
وهلك موسى الهادي سنة 170هـ في شهر ربيع الأول بعد سنة وشهرين تقريباً من توليه السلطة.
وتولى بعده السلطة أخوه هارون الرشيد العباسي بنص من أبيهما ومارس ضد العلويين وشيعتهم سياسة القمع والإرهاب وأقسم مرة على استئصالهم فقال:
(والله لأقتلنهم ـ أي العلويين ـ ولأقتلن شيعتهم).
وأرسل طائفة كبيرة منهم إلى ساحات الإعدام ودفن قسماً منهم وهم أحياء وأودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون.. وأصدر مرسوماً يقضي بإخراج العلويين فوراً من بغداد إلى يثرب.. وأمر بهدم مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) حينما رأى تهافت الشيعة على زيارته وهدم الدور المجاورة له وأمر بحرث أرض كربلاء ليمحو بذلك كل أثر للقبر الشريف.
كما أعدم الرشيد جماعة من زعماء العلويين وشخصيات أهل البيت منهم عبد الله بن الحسن أبي علي بن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والعباس بن محمد بن عبد الله بن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وإدريس بن الحسن ابن الإمام الحسن السبط (عليه السلام)، ويحيى بن عبد الله بن الحسن بن الإمام الحسن السبط (عليه السلام)، ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الإمام الحسن السبط، والحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وإسحاق بن الحسن بن زيد بن الإمام الحسن السبط (عليه السلام)(4).
سياسة الحكم العباسي
قام الحكم العباسي في أكثر أدواره على الظلم والجور نهج فيه العباسيون منهجاً فردياً خاصاً بعيداً عن العدل السياسي والعدل الاجتماعي، تسلموا جميع السلطات الإدارية والقضائية، ولم يكن عندهم ثمة مجلس إداري أو استشاري تعالج فيه أمور الرعيّة ومصالحها ووسائل تطورها وتقدمها. فالخليفة يحكم بحسب رأيه وهواه وكأنّه ظل الله على الأرض ـ كما يقولون ـ فالطابع الاستبدادي للحكم العباسي واضح لا لبس فيه. استبداد ونهب أموال، ومصادرة الحريات، وظلم، وإرغام الناس على ما يكرهون.
والواقع أن الحكم العباسي لا يختلف في مادته وصورته عن الحكم الأموي فالنظام الإداري العباسي هو نفسه في جوهره نظام الأمويين.
الدوائر الرسمية في العصر العباسي أجحفت كثيراً بحقوق العامة في الوقت نفسه كانت تصانع ذوي النفوذ والوجوه المعروفة فتمارس الظلم والجور على الأهالي المساكين الذين يدفعون الضرائب ويلبون الدعوة للجهاد، بينما كان الحكام ينفقون أموال الشعوب الإسلامية على شهواتهم وحواشيهم، ولا نغالي إذا قلنا أن التاريخ يعيد نفسه في أكثر العصور.
جاء في تاريخ الإسلام أن العتابي سُئل: لماذا لا تتقرّب بأدبك إلى السلطان؟
فقال: (إني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون!!) ولما قتل المأمون ووزيره الفضل بن سهل، عرض الوزارة على أحمد بن أبي خالد فأبى أن يقبلها وقال:
(لم أر أحداً تعرض للوزارة وسلمت حاله) والسبب واضح في ذلك أن الحكم العباسي لم يكن جارياً على قانون معروف أو دستور مكتوب، بل كان يجري حسب نزعات الحاكم ويمول الخليفة، فهو الذي كان يوزع الموت أو الحياة على من كره أو على من أحب.
فالأحكام بالإعدام كانت تصدر من البلاط بمجرد وشاية من غير أن يطمئن أو يوثق بقول المخبر، مرة تصدر بالمفرد ومرة تصدر بالجملة.
ونعطي مثلاً نموذجاً على ذلك: فقد وشي برجل يقال له: (الفضيل بن عمران) إلى أبي جعفر المنصور، وكان كاتباً لابنه جعفر وولياً لأمره، فقد وشي به أنه يعبث بجعفر، فبعث المنصور برجلين أو جلادين، وأمرهما يقتل الفضيل حيث وجداه، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به وقال للرجلين: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله. فلما انتهيا إليه ضربا عنقه، وكان الفضيل عفيفاً صالحاً، فقيل للمنصور: إنه أبرأ الناس ممّا رمي به، وقد عجلت عليه، فندم على ذلك، ووجه رسولاً، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول فوجده جثة هامدة، فاستنكر جعفر ذلك وقال لمولاه:
(ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل، مسلم، عفيف، دين، بلا جرم ولا جناية؟!) فأجابة مولاه سويد:
(هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، وهو أعلم بما يصنع).
هكذا كان يعتقد أصحاب العقول البسيطة الساذجة، وهكذا كانت أرواح الناس يتصرفون بها حسب ما يشاءون، وما العجب فالملك في نظرهم يفعل ما يحلو له، فهو ظل الله على الأرض، لا يسأل عن ذنب ولا عن جرم. فمن يحاسبه؟ ليس هناك من سلطة قضائية معروفة، وليس عنده من ضمير يردعه عن المحرمات. ومع ذلك يعد نفسه خليفة المسلمين. أين هم وأين الإسلام؟! هوة ساحقة تفصل بينما هم أشبه بالقياصرة والأكاسرة!! والحقيقة أن البلاد الإسلامية أيام الحكم العباسي كانت ترزح تحت كابوس ثقيل من الظلم والجور والتعسّف، حيث كان حكام بني العباس ينفذون خططهم بالعنف والقتل على الظن. ولأوّل مرة في تاريخ الإسلام نجد النطع إلى جانب كرسي الخلافة، كما نجد الجلاد أداة للوصول إلى العرش على حد قول المؤرخ المعروف فليب حتي.
على هذه الحال كان الحكم العباسي في اكثر أدواره وعهوده، وكان خاضعاً للأهواء الشخصية والعواطف القبلية. فالغلمان والنساء والندماء والعابثون كان لهم الضلع الكبير في إدارة شؤون الحكم وتوزيع الهبات والجوائز على المغنين والمغنيات.
فالحكم عندهم لم يخضع لمنطق الحق والعدل اللذين أمر بهما الإسلام.
هذا الوضع غير السليم جعل العصر يحفل بقيام فرق إسلامية عديدة ومذاهب وطوائف اختلفت فيما بينها في أصول الدين وفروعه.
الدورة القيادي للامام عليه السلام
عصر الامام الكاظم عليه السلام
في عهد المنصور
التنكيل بالعلويين
مصادرة أموال العلويين
وضعهم في الاسطوانات
هلاك المنصور
في عهد المهدي
الرشوة والظلم
اهتمامه بالوضاعين
عداؤه للعلويين
المهدي والإمام موسى (ع)
عودة اعتقال المهدي للإمام (ع)
في عهد الهادي
تهديد الهادي للإمام (ع)
استهزاء الإمام به
دعاء الإمام (ع) على الهادي
هلاك الطاغية الهادي
في عهد هارون
حقد هارون الموروث
حرص هارون على المُلك
الوشاية بالإمام (ع)
صلابة موقف الإمام (ع)
الحياة السياسية للامام وجهاده
تصدي الامام للتيّارات المنحرفه
1 - جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول: ص142.
2 - حياة الإمام موسى بن جعفر: ج1 ص470.
3 - حياة الإمام موسى بن جعفر: ج1 ص472ـ482.
4 - حياة الإمام موسى بن جعفر: ج2 ص86.