مما ذكرناه او مما لم نذكره فشدة تعلقه بالله وكثرة عبادته وتورعه عن البغي وزهده في الحياة الدنيا, وصفحه عمن يسئ اليه وغيرها مؤشرات ضخمة على تسلح الامام عليه السلام بصبر لا يعرف الهزيمة ولا النكوص على القصد بشكل جعل الامام عليه السلام وكأنه الصبر صار انسانا.
ومع ان تلك المواقف والممارسات تمنح الدليل تلو الدليل على حجم الصبر الذي يتمتع به الامام عليه السلام فانه من المناسب ان نذكر الى جانب ذلك مواقف واحداثاً جرت في حياة علي عليه السلام وقد واجهها بالصبر ورباطة الجأش التي لا نظير لها. نذكر منها:
1. فحين اجمعت قريش في دار الندوة على قتل المصطفى صلى الله عليه وآله من خلال عملية جماعية يتولاها من كل قبيلة شاب قوي ليذهب دم الرسول صلى الله عليه وآله هدراً بزعمهم دون ان تستطيع بنو هاشم -عشيرة النبي- ان تطالب بدمه..
حين اجمع رؤوس الشرك على تدمير ذلك الجرم, انبأ الله تعالى رسوله صلي الله عليه وآله بأمرهم: (واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)(الانفال/30).
وامره تعالى بوجوب الهجرة الى دار الاسلام يثرب فخرج صلي الله عليه وآله مهاجراً بعد ان ترك عليا عليه السلام في فراشه ملتحفا ببردته فقضى الامام عليه السلام ليلته في فراش رسول الله صلي الله عليه وآله دون ان يكترث بما حوله من مكر مبيت. فلقد كان محتملا ان ينقض اولئك الاوغاد على الامام عليه السلام بسيوفهم دون رحمة, مدفوعين بالحقد الجاهلي الاسود البليد, دونما اقل اكتراث ظنا منهم انه الرسول صلي الله عليه وآله, والامام عليه السلام كان يتوقع ذلك منهم ولكن ارادة علي عليه السلام ورباطة جأشه المعروفة المستمدة من الثقة المطلقة بالله والايمان الكامل بقدره وقضائه تعالى وقوة صبر الامام عليه السلام على مواجهة المصاعب والاحداث قد حملته على ان يسخر بما يبيتون حتى اذا طلع الصباح هجم القوم على حجرة الرسول صلي الله عليه وآله وعلي عليه السلام فيها, وهم يظنون انه رسول الله صلى الله عليه وآله.. فواجههم الامام صلي الله عليه وآله بصلابة ارادته المعهودة:
ماشأنكم؟ قالوا: اين محمد قال: (اجعلتموني عليه رقيباً؟ الستم قلتم نخرجه من بلادنا, فقد خرج عنكم!!
هكذا يخاطب الامام عليه السلام المتأمرين بمنتهى الصبر والاباء والصرامة ساخرا باولئك الاوباش.
انه موقف شجاع تتصاغر امامه ارادة الابطال من الرجال!
وبتلك الارادة بقى الامام عليه السلام في مكة بعد هجرة رسول الله صلي الله عليه وآله يواجه مسؤولية في تنفيذ وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وادا المهمات المناطة به كافة.
2. وفي يوم هجرته خرج الامام عليه السلام جهارا يقود قافلة المهاجرات من اهل البيت: فاطمة الزهراء وفاطمة بنت اسد وسواهما فجرت محاولة من المشركين للحيلولة دون هجرته ولكن ارادة علي عليه السلام وقوة تحمله للعقبات افشلت المحاولة فلم يعبأ بالفرسان الثمانية الذين ارسلوا لاعتراض سبيله فواجههم بسيفه واهوى به على قائدهم بضربة قاضية تحول الرجل بعدها الى جثة هامدة يخور بدمه في تلك الفلاة من الارض, ففر الباقون مخلفين قائدهم المضرج في الميدان...
3. وفي دار الهجرة واجه الامام عليه السلام مسؤولياته العظيمة كجندي من جنود الرسالة في الرعيل الاول فأبدى عليه السلام من قوة الارادة ومضاء العزيمة والقدرة على مواجهة المصاعب ما يعد مفخرة يعتز بها انسان الاسلام بامتداد وجوده التاريخي فالامام عليه السلام عبر المعارك الهجومية والدفاعية التي خاضها رسول الله صلي الله عليه و آله من اجل نشر الرسالة الالهية او حماية وجودها العملي في حياة الناس -كان قطب رحاها الخائض المقدام لغمراتها الذي لا تأخذه في الله لومة لائم من اجل طغيان الشرك والمشركين واعداء الرسالة المتربصين كافة, فما من حرب تسعر وما من معركة تدور رحاها الا دعى علي عليه السلام لاخماد فتنتها وتنكيس رايات الجاهلية فيها: في بدر واحد والاحزاب وحنين وخيبرو..الخ
وفي كثير من المواقف يسود الهلع في معسكر المسلمين ويستبد الوهن والنكوص عن مواجهة العدوفيعيد سيف علي عليه السلام الثقة للنفوس ويجدد في معسكر الايمان روح القدرة على المواجهة ضد العدوان..
الامر الذي يكشف عما يتمتع به الامام عليه السلام من نفس كبيرة تعلو على كل وهن وتسخر من كل ضعف وترتفع فوق كل ذلة وهوان.. انها قوة الارادة ومضاء العزيمة وشدة الصبر على المكاره مقرونة باليقين العميق بالله تعالى والاستمداد منه والتوكل عليه دون سواه.
4. وقد تولى الامام عليه السلام الخلافة في ظروف صعبة دقيقة على مضض وبعد محاولات عديدة من الرفض لها من قبله وما عقدت له البيعة حتى نكث قوم وقسط اخرون ومرق غيرهم كل ذلك من اجل ان يحال بين الامام عليه السلام وبين استئناف المسيرة الاسلامية التي بداها رسول الله صلي الله عليه وآله.
وقد تحمل امير المؤمنين عليه السلام ما تحمل من الآلام والمشقات في سبيل اخماد الفتن السوداء التي اثارها اصحاب المنافع الشخصية واصحاب المصلحة من سياسة الانحراف في طريق مسيرته الاصلاحية فقابل كل ذلك بالصبر الجميل والتسليم لقضاء الله تعالى حتى رحل الى ربه الاعلى شهيدا مثقلا بالمتاعب والالام.
5. واذا تركنا تلك الامور جانبا والقينا نظرة على جوانب أخرى من حياة الامام لنحدد مواقع الصبر والارادة الصلبة لما صح ان تفوتنا مواقف الصبر التي وقفها امير المؤمنين عليه السلام حين يفارق احبته ورفاق الدرب واولهم رسول الله صلي الله عليه وآله الذي فاضت نفسه الشريفة في حجر الامام عليه السلام وواراه الثرى بنفسه وعايش مأساة فراقه بكل ابعادها وها هو يخطب رسول الله صلي الله عليه وآله وهو يلي غسله وتجهيزه بكلمات حزينة تدمي القلب وتزرع الاسى: (بأبي انت وامي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والانبياء واخبار السماء.
خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك؟ وعممت حتى صار الناس فيك سواء ولولا انك امرت بالصبر ونهيت عن الجزع لانفدنا عليك ماء الشؤون ولكان الداء مماطلا والكمد محالفاً وقلالك ولكنه ما لا يملك رده ولا يستطاع دفعه! بأبي انت وامي اذكرنا عند ربك وجعلنا من بالك).
واذا اعدنا الاذهان ما يحظى به رسول الله صلي الله عليه وآله من حب وتعظيم في نفس امير المؤمنين عليه السلام لادركنا حجم الاسى الذي صب على الامام عليه السلام بفقده صلي الله عليه وآله, فعلي عليه السلام قد حظى بتربية الرسول عليه السلام ورعايته واعداده ومصاحبته منذ الصبا حتى فارق رسول الله صلي الله عليه وآله الدنيا.ولقد كانت تلك التربية وتلك الاخوة بينهما مليئة بضروب الود والحنان والوفاء والاخلاص مما ليس له نظير.
على ان الامام التزم جانب الصبر راضيا بقضاء الله المحتوم في رسول الله صلي الله عليه وآله.
6. وفي خضم الاحداث المريرة التي عايشها امير المؤمنين عليه السلام في هذه الفترة ألمت بالزهراء سيدة نساء العالمين العلة التي توفيت على اثرها فلحقت بالراحل العظيم ابيها حيث كان الامام عليه السلام طوال فترة المرض الذي عانت منه فاطمة عليه السلام يعايش ما تعاني بملء كيانه فهي وديعة رسول الله صلي الله عليه وآله ومدرسة الامامة التي خرّجت قادة الامة الهداة عليه السلام وهي الصابرة المحتسبة وهي بعد ذلك زوجه الوفية التي عايشت معه آماله طوال حياتها..
ولقد راى الامام عليه السلام زهراء الاسلام بعد رسول الله صلي الله عليه و آله وهي تعايش مرارة الاسى ثم وهي تستسلم لفراش المرض فيشحب لونها وتتردى اوضاعها الصحية يوما بعد يوم ثم يراها وهي تفارق الدنيا فيباشر تغسيلها وتجهيزها ودفنها عليها السلام ثم يقف على شفير قبرها مودعا بعبارات تذيب القلوب الحديدية: (السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك! قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ورق عنها تجلدي الا ان في التأسي لي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزِ فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت بين نحري وصدري نفسك فانالله وانا اليه راجعون فلقد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة اما حزني فسرمد واما ليلي فمسهد الى ان يختار الله لي دارك التي انت بها مقيم وستنبئك ابنتك بتضافر امتك على هضمها فاحفها السؤال واسختبرها الحال, هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر والسلام عليكما سلام مودع لاقالِ ولا سئم فان انصرف فلا عن ملالة وان اقم فلا عن سوء ظن بما وعدالله الصابرين).
وهكذا استسلم الامام لقضاء الله تعالى واستعان على الاسى بجميل الصبر.
7. وكما صبر الامام لفقد رسول الله والصديقة الزهراء عليه السلام تجمل بالصبر كذلك لفقده اخوة له في الله انقطعوا اليه في الوفاء وبذلوا ارواحهم وكل ما يملكون في سبيل رسالة الله تعالى وقد تصدوا لهدم الباطل وواجهوا الانحراف فاستشهدوا في ساحات الجهاد كعمار بن ياسر ومالك بن التيهان وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت الانصاري ومالك الاشتر ومحمد بن ابي بكر وسواهم.
8. وها هو الامام عليه السلام يذكرهم قبل اغتياله بايام في خطبة له جاءفيها: ( اين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ اين عمار؟ واين ابن التيهان؟ واين ذو الشهادتين؟ واين نظراؤهم من اخوانهم الذي تعاقدوا على المنية؟ وابرد برؤوسهم الى الفجرة).
ثم اطال البكاء وقال: (اوه على اخواني الذي تلوا القران فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه, احيوا السنة واماتوا البدعة, دعوا للجهاد فاجابوا ووثقوا بالقائد فاتبعوه..).
9. ومن شواهد صبر الامام عليه السلام كذلك رفضه للدنيا ولذاتها وتحمله لاذى الجوع والتقشف وزهده بالمال حتى يبلغ به الحال احيانا ان يشد حجر المجاعة على بطنه ولقد رايت في حديثنا عن زهده وعدالته ما يغنيك عن تعداد شواهد اخرى من قوة تحمله وارادته في مواجهة المشقات وعقبات الحياة.
وهكذا عايش الامام عليه السلام حياة مليئة بالكدح والالام زاخرة بالرزايا حافلة بالمحن غير انه واجهها جميعها بقوة صبره وعظيم ارادته التي لا تقهر.