وخلق الامام عليه السلام في الحلم والصفح عن المسئ ظل هو لم يتغير فعلى عليه السلام في صفحة وحلمه قبل خلافته, كعلي في صفحة عفوه ايام قيادته المباشرة للامة على ان عظمة الامام عليه السلام تزداد قوة وجلاء حين يظل يصفح ويمعن في عفوه حتى عن اشد خصومه في وقت يمتلك القدرة على العقاب والارهاب والقتل.
فهو في ايام خلافته في مركز يؤهله ان يقتص من خصومه, فهو رئيس الدولة والمطاع الاول بين اتباعه غير انه مع هذا وذلك ظل يحمل نفس الروح العفو والتجاوز كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله قبله سواء بسواء.
وهذه نماذج من عفوه:
- اسر مالك الاشتر رضوان الله عليه، مروان بن الحكم، يوم الجمل فلما مثل مروان بين يدي الامام عليه السلام لم يستقبله بسوء قط, وانما عاتبه على موقفه الخياني اللئيم فحسب ثم اطلق سراحه ومروان هو هو في حقده على الاسلام والامام عليه السلام وهو هو في دسائسه ومكره ودوره الخبيث في تأجيج الفتن في وجه الامام عليه السلام اشهر من ان نذكره فهو الذي عارض البيعة للامام عليه السلام وهرب من المدينة المنورة بعد البيعة مباشرة وهو الذي ساهم في فتنة البصرة والهب الناكثين واغراهم بالتعجيل بها.. الى غير ذلك من مواقفه الخسيسة.
- ولقد عفا الامام عليه السلام كذلك عن عبد الله بن الزبير بعد اسره يوم الجمل, وعبد الله بن الزبير هو الذي كان يقود الفتنة في حرب الجمل.
- وجئ بموسى بن طلحة بن عبيد الله, وكان طرفاً في فتنة الجمل فلما وقف بين يدي الامام عليه السلام خلى سبيله ولم يعنفه عن دوره في الفتنة وانما طلب منه ان يستغفر الله ويتوب اليه ثم قال: (اذهب حيث شئت وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح او كراع فخذه واتق الله فيما تستقبله من امرك واجلس في بيتك).
ومن عظيم عفوه ما رواه الامام الباقر عليه السلام قال: (كان علي عليه السلام اذا اخذ اسيراً في حروب الشام اخذ سلاحه ودابته واستحلفه ان لا يعين عليه).
أرايت موقفاً انسانيا كهذا الموقف؟
لقد كان الامام عليه السلام مدركا ان الذي يقاتلونه من اهل الشام انما يقاتلونه وهم عن حقيقته غافلون, فقد اغراهم معاوية بالمال وسد عليهم منافذ التفكير والوعي على الحقائق بما استخدمه من وعاظ سوء وواضعي حديث ممن باعوا ضمائرهم للانحراف صوب الجاهلية.
وبناء على هذا الوعي العلوي لحقيقة مقاتليه ممن اغراهم معاوية وغرر بهم فقد سبق حلم الامام عليه السلام عدله في معاملتهم فلم يعاقب من اتخذ منهم اسيراً وانما يجرده من اداة الشر ويضعه امام الله والضمير كي لا يعود لقتال معسكر الحق الذي يقوده الامام عليه السلام.
ويذكرنا هذا الموقف الكريم بموقف معاوية وعمرو بن العاص اللذين كانا يصران على قتل الاشراف من جيش الامام عليه السلام بيد انهما خشيا الفضيحة اذا اقدما على ذلك بعد ان خلى الامام عليه السلام عن اسراهم ابتداء فعدل معاوية وصاحبه عن موقفهما لا لطيب خلق منهما وانما خشية نقمة الراي العام الاسلامي.
ولِمُ نذهب بعيدا وتلك معركة صفين تحمل احداثها الكثير الكثير من مواقف الصفح العلوي.. فحين سبق جيش معاوية الى ماء الفرات اصر على منع الماء عن جيش علي عليه السلام فاوفد الامام عليه السلام لمعاوية وفداً كي يغير موقفه ولكنه مضى في اصراره وموقفه اللااخلاقي..
فاضطر الامام عليه السلام لتحريك قوة من جيشه لفك الحصار وكانت النتيجة ان سيطر جيش الامام عليه السلام على الماء وكان علياً حمله حلمه الرفيع وكرم نفسه على بذل الماء لخصمه قائلا لجنوده:
(خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا الى عساكركم وخلوا عنهم فان الله عزوجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم).
ولقد كان مقدوراً للامام عليه السلام ان يذيقهم الهزيمة الشاملة لو انه منعهم الماء وحال بينهم وبينه ولكنها الاخلاق الالهية التي يتمسك بها ويجسدها حية في دنيا الناس تأبى عليه ذلك اللون من المواقف.. حتى يقع التمييز بين منهج الهدى والصراط المستقيم في الفكر والعمل الذي يمثله علي عليه السلام وبين سبيل الانحراف والالتواء واللااخلاق التي يجسدها معاوية بن ابي سفيان.
ولنا ان نعرض شواهد من حلم الامام عليه السلام وعظيم صفحه في حياته الخاصة كذلك:
(دعا الامام عليه السلام غلاما له مراراً فلم يجبه فخرج فوجده على باب البيت فقال:
- ما حملك على ترك اجابتي؟ قال:
- كسلت عن اجابتك وامنت عقوبتك, فقال عليه السلام:
- الحمد الله الذي جعلني ممن يؤمن خلقه, امضِ فأنت حر لوجه الله).
- وقد خاطبه رجل من الخوارج بقوله: (..قاتله الله كافراً ما افقهه).
فوثب اصحاب الامام عليه السلام ليقتلوه فقال الامام عليه السلام:
- (رويداً انما هو سب بسب او عفو عن ذنب).
وهكذا شمل الرجل بعفوه وحال بين القوم وبين معاقبته.
هذا وفي سيرة الامام عليه السلام الكثير من مثل هذه المواقف التي تعبر عن خلق اللهي كريم اطرّت به شخصية علي عليه السلام على اننا لو غضنا الطرف عن مواقف الحلم كافة التي اصطبغت به حياة علي عليه السلام بالنسبة الى المسيئين له او اعدائه لكان في موقف الامام عليه السلام من قاتله ابن ملجم المرادي اعظم شاهد على تمتع الامام عليه السلام بنمط من الاخلاق السامية لم يتمتع بها سوى الانبياء والمقربين الى الله, فهل انبأك التاريخ عن انسان عامل عدوه بنفس الروح التي عامل بها علي عليه السلام قاتله, لقد شدد الامام عليه السلام على اهل بيته ان يطعموا قاتله ويسقوه ويحسنوا اليه فعن الامام الباقر عليه السلام وهو بصدد ذكر احدى وصايا الامام امير المؤمنين عليه السلام في اخر حياته يقول:
(ان علي بن ابي طالب عليه السلام قال للحسن والحسين عليه السلام: احبسوا هذا الاسير - يعني ابن ملجم المرادي- واطعموه واسقوه واحسنوا ساره فان عشت فانا اولى بما صنع في,ّ وان شئت استدقت وان شئت صالحت وان مت فذلك اليكم فان بدالكم ان تقتلوه فلا تمثّلوا به).