فطلب القوم من ابن أبي العوجاء تغليظ الإمام وسؤاله عما يفضحه بين المحيطين به. فأجابهم بالإيجاب واتجه - بعد أن فرَّق الناس - صوب الإمام، وقال: يا أبا عبد الله إن المجالس أمانات ولابدّ لكل من به سؤال أن يسأل، أفتأذن لي في السؤال؟
فقال له أبو عبد الله: سل إن شئت. فقال ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير، فهناك من فكر في هذا وقدر بأنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر. فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه؟ فقال الصادق عليه السلام: إن من أضله الله وأعمى قلبه استوهم الحق فلم يستحث به، وصار الشيطان وليّه وربّه يورده مناهل الهلكة ولا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلة للمصلين له، فهو شعبة لرضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما زجر، هو الله المنشئ للأرواح والصور.
فقال له ابن أبي العوجاء: فأحلت على غائب. فقال الصادق عليه السلام: كيف يكون يا ويلك غائباً من هو من خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكان، ولا يشغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان، تشهد له بذلك آثاره، وتدل عليه أفعاله، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله الذي جاءنا بهذه العبادة، فإن شككت في شيء في أمره فاسأل عنه.
فأُبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول ثم انصرف من بين يديه، وقال لأصحابه: سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة. فقالوا له: أسكت فوالله لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه. فقال: إليّ تقولون هذا، إنه ابن من حلق رؤوس من ترون، وأومأ بيده إلى أهل الموسم.
ومرة أخرى جاء إليه يسأله عن حدوث العالم؟ فقال عليه السلام: ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلا إذا ضم إليه صار أكبر، وفي ذلك انتقال عن الحالة الأولى، ولو كان قديماً مازال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الأزل دخول في القدم، ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شيء واحد. فقال ابن أبي العوجاء: هب علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت استدللت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها؟ فقال عليه السلام: إنا نتكلم عن هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره، ولكن أجيبك من حيث قدرت أن تلزمنا فتقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضم شيء منه شيء إلى منه كان أكبر، وفي جواز التغير عليه خروجه من القدم، إن في تغيره دخوله في الحدث، وليس لك وراءه بشيء يا عبد الكريم.
ومرة جاء وقد جمع كيده وحشد أدلته وحدّ أظفاره، فما أن تباحث مع الإمام حتى أفحم إفحاماً، فقام ولم يرجع حتى هلك، وطوى بموته على هذه الشاكلة صفحة إلحاد كان لها أنصار وأعوان، ومضى زعيم إلحاد كانت له صولة وجولة وحزب كبير.
يروى عن هشام بن الحكم أنه قال : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله علم، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، وقيل هو بمكة فخرج على مكة، ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام آنذاك، فانتهى إليه وهو في الطواف، فدنا منه وسلم.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما اسمك؟ قال: عبد الملك. قال : فما كنيتك؟ قال : أبو عبد الله. قال : فمن ذا الملك الذي أنت عبده، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء. وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ فسكت. فقال: أبو عبد الله قل، فسكت. فقال له عليه السلام: إذا فرغت من الطواف فأتنا.
فلما فرغ أبو عبد الله عليه السلام من الطواف أتاه الزنديق، فقعد بين يديه - ونحن مجتمعون عنده - فقال أبو عبد الله عليه السلام: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً؟ فقال : نعم. قال: دخلت تحتها؟ فقال: لا. قال: فهل تدري ما تحتها؟ قال: لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء. فقال: فالظن عجز ما لم تستيقن. ثم قال له: صعدت إلى السماء؟ قال: لا. قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا. قال: فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ قال: لا. قال: فالعجب لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء ولم تجد ما هناك فتعرف ما خلفهن وأنت جاحد ما فيهن، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف.
فقال الزنديق: ما كلمني بهذا غيرك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: فأنت من ذلك في شك، فلعل هو ولعل ليس هو. قال: ولعل ذلك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، ولا حجة للجاهل على العالم، يا أخا أهل مصر تفهم عني، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان يذهبان ويرجعان، قد اضطرّا، ليس لهما مكان إلاّ مكانهما، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلِمَ يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرين فلِمَ لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً؟ والله يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم، وإن كان يردهم فلم يذهب بهم، أما ترى السماء مرفوعة والأرض موضوعة لا تسقطها على الأرض ولا تنحدر الأرض فوق ما تحتها، أمسكها والله خالقها ومديرها. قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله عليه السلام، فقال لهشام: خذه الليلة وعلّمه.
وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أمور نظرية، فكان بينهما الحوار التالي: قال كيف يعبد اللهَ الخلقُ ولم يروه؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على إماراته من عظمته دون رؤيته. قال: أليس هو قادر على أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين؟
قال عليه السلام: ليس لمحال جواب. قال : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً؟ قال عليه السلام: إنما لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا أن يلامسوه، ولا أن يباشرهم ويباشروه، ويحتاجهم ويحتاجوه، ثبت أن له سفراء عباداً يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين، هم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. قال: من أي شيء خلق الأشياء؟ قال عليه السلام: من لا شيء! فقال: كيف يجيء بشيء من لا شيء؟ قال عليه السلام: إن الأشياء لا تخلو، إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء، فإن كانت خلقت من شيء فإنَّ ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً ولا يتغير، ولا يخلو ذلك الشيء جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى، ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حياً، أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً، ولا يجوز أن يكون من حي وميت، لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميت قديماً، لم يزل لما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة به ولا بقاء.
ثم قال: من أين قالوا أن الأشياء أزلية؟ قال عليه السلام: هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء، فكذبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسموا كتبهم أساطير ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم، وإن الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه.. إلى آخر حديثه الطويل.
يقول ابن شبرمة: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقلت: هذا رجل فقيه من العراق، فقال لعله الذي يقيس الدين برأيه أهو النعمان بن ثابت؟ فقال له ابو حنيفة: نعم انا ذلك أصلحك الله، فقال له جعفر الصادق عليه السلام: اتق الله ولا تقس الدين برأيك فان أول من قاس برأيه ابليس اذا قال انا خير منه فأخطأ بقياسه فَضَل، ثم قال له: أخبرني يا ابو حنيفة لم جعل الله الملوحة في العينين والمرارة في الاذنين والماء في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟
قال: لا أدري، قال الامام: ان الله خلق العينين فجعلها شحمتين وخلق الملوحه فيهما مناً منه عليه ولو لا ذلك لهجمت الدواب يعني الحشرات والديدان فأكلت دماغه، وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل ويجد منه الريح الطيبة من الريح الرديئة، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذة المطعم والمشرب، ثم قال لابي حنيفة أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها ايمان؟ قال: لا أدري، قال: جعفر الصادق عليه السلام هي كلمة"لا إله إلا الله" فلو قال لا اله، ثم سكت كان مشركاً ثم قال: أخبرني أيما أعظم عند الله اثماً قتل النفس التي حرم الله بغير الحق اوالزّنا؟ قال ابو حنيفة: بل قتل النفس، فقال الامام: ان الله تعالى قد قبل في القتل شهادة شاهدين ولم يقبل في الزنا الاّ شهادة أربعة فأنى يقوم لك القياس؟ ثم قال: أيما أعظم عند الله الصوم او الصلاة؟ قال ابو حنيفة: الصلاة، فقال الامام: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضيى الصلاة؟ اتق الله يا عبدالله ولا تقس الدين برأيك.