دخل عليه أشجع السلمي فوجده عليلا، وبادر أشجع فسأل عن سبب علته، فقال عليه السلام: تعدّ عن العلة، واذكر ما جئت له فقال:
يخـرج من جسمـك السقـام
كما أخرج ذل السؤال من عنقك
وعرف الإمام حاجته فقال لغلامه: أي شيء معك؟ فقال: أربعمائة. فأمره بإعطائها له.
ودخل عليه المفضل بن رمانة وكان من ثقاة أصحابه ورواته فشكا إليه ضعف حاله، وسأله الدعاء، فقال عليه السلام لجاريته: هاتِ الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر، فجاءته به، فقال له: هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به، فقال المفضل: لا والله جُعلت فداك ما أردت هذا، ولكن أردت الدعاء، فقال عليه السلام: لا أدع الدعاء لك.
سأله فقير فأعطاه أربعمائة درهم، فأخذها الفقير، وذهب شاكراً، فقال عليه السلام لخادمه: ارجعه، فقال الخادم: سئلت فأعطيت، فماذا بعد العطاء؟ قال عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «خير الصدقة ما أبقت غنى»، وإنّا لم نغنه، فخذ هذا الخاتم فاعطه فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتاج فليبعه بهذه القيمة.
ومن بوادر جوده وسخائه وحبه للبر والمعروف أنه كانت له ضيعة قرب المدينة تسمى رعين زياد، فيها نخل كثير، فإذا نضج التمر أمر الوكلاء أن يثلموا في حيطانها الثلم، ليدخل الناس ويأكلوا من التمر.
وكان يأمر لجيران الضيعة الذين لا يقدرون على المجي كالشيخ والعجوز والمريض لكل واحد منهم بمدّ من التمر، وما بقي منهم يأمر بحمله إلى المدينة فيفرّق أكثره على الضعفاء والمستحقين، وكانت قيمة التمر الذي تنتجه الضيعة أربعة آلاف دينار، فكان ينفق ثلاثة آلاف منها، ويبقى له ألف.
ومن بوادر كرمه أنه كان يطعم ويكسو حتَّى لم يبق لعياله شيء من كسوة أو طعام.
ومن كرمه أنه مرّ به رجل، وكان عليه السلام يتغدّى، فلم يسلّم الرجل فدعاه الإمام إلى تناول الطعام، فأنكر عليه بعض الحاضرين، وقال له: السنة أن يسلم ثم يُدعى، وقد ترك السلام على عمد ... فقابله الإمام عليه السلام ببسمات مليئة بالبشر وقال له: هذا فقه عراقي، فيه بخل....
صدقاته في السر
كان الإمام الصادق يقوم في غلس الليل البهيم فيأخذ جراباً فيه الخبز واللحم والدراهم فيحمله على عاتقه ويذهب به إلى أهل الحاجة من فقراء المدينة فيقسمه فيهم، وهم لا يعرفونه، وما عرفوه حتَّى مضى إلى الله تعالى فافتقدوا تلك الصلات فعلموا أنها منه . ومن صدقاته السرية ما رواه إسماعيل بن جابر قائلاً: أعطاني أبو عبد الله السلام خمسين ديناراً في صرة، وقال لي: ادفعها إلى شخص من بني هاشم، ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً، فأتيته ودفعتها إليه فقال لي: من أين هذه؟ فأخبرته أنها من شخص لا يقبل أن تعرفه، فقال العلوي: ما يزال هذا الرجل كل حين يبعث بمثل هذا المال، فنعيش بها إلى قابل، ولكن لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله.
تكريمه للضيوف
ومن بوادر كرمه وسخائه حبه للضيوف وتكريمه لهم، وقد كان يشرف على خدمة ضيوفه بنفسه، كما كان يأتيهم بأشهى الطعام وألذّه، وأوفره، ويكرر عليهم القول وقت الأكل: «أشدكم حبّاً لنا أكثركم أكلا عندنا...». وكان يأمر في كل يوم بوضع عشر ثبنات من الطعام يتغدى على كل ثبنة عشرة.
تواضعه
ومن مظاهر شخصيته العظيمة نكرانه للذات وحبه للتواضع وهو سيد المسلمين، وإمام الملايين، وكان من تواضعه أنه كان يجلس على الحصير، ويرفض الجلوس على الفرش الفاخرة، وكان ينكر ويشجب المتكبرين وحتّى قال ذات مرة لرجل من إحدى القبائل: «من سيد هذه القبيلة؟ فبادر الرجل قائلا: أنا، فأنكر الإمام عليه السلام ذلك، وقال له: لو كنت سيدهم ما قلت: أنا..». ومن مصاديق تواضعه ونكرانه للذات: أن رجلا من السواد كان يلازمه، فافتقده فسأل عنه، فبادر الرجل فقال مستهيناً بمن سأل عنه: إنه نبطي... فردّ عليه الإمام قائلا: أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، وكرمه تقواه، والناس في آدم مستوون... فاستحيى الرجل.
سمو أخلاقه
كان الإمام الصادق عليه السلام على جانب كبير من سمو الأخلاق، فقد ملك القلوب، وجذب العواطف بهذه الظاهرة الكريمة التي كانت امتداداً لأخلاق جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي سما على سائر النبيين بمعالي أخلاقه. وكان من مكارم أخلاق الإمام وسمو ذاته أنه كان يحسن إلى كل من أساء إليه.
وقد روي أن رجلا من الحجاج توهم أن هميانه قد ضاع منه، فخرج يفتش عنه فرأى الإمام الصادق عليه السلام يصلي في الجامع النبوي فتعلق به، ولم يعرفه، وقال له: أنت أخذت همياني..؟. فقال له الإمام بعطف ورفق: ما كان فيه؟.. قال: ألف دينار ، فأعطاه الإمام ألف دينار، ومضى الرجل إلى مكانه فوجد هميانه فعاد إلى الإمام معتذراً منه، ومعه المال فأبى الإمام قبوله وقال له: شيء خرج من يدي فلا يعود إلي. فبهر الرجل وسأل عنه، فقيل له: هذا جعفر الصادق، وراح الرجل يقول بإعجاب: لا جرم هذا فعال أمثاله.
إن شرف الإمام عليه السلام الذي لا حدود له هو الذي دفعه إلى تصديق الرجل ودفع المال له. وقال عليه السلام: إنا أهل بيت مروءتنا العفو عمن ظلمنا. وكان يفيض بأخلاقه الندية على حضار مجلسه حتَّى قال رجل من العامة: والله ما رأيت مجلساً أنبل من مجالسته. عن أخي حماد البشير قال كنت عند عبد الله بن الحسن وعنده أخوة الحسن بن الحسن فذكرنا أبا عبد الله عليه السلام فنال منه، فقمت من ذلك المجلس فأتيت أبا عبد الله عليه السلام ليلاً فدخلت عليه وهو في فراشه... فخبرته بالمجلس الذي كنا فيه وما يقول حسن. فقال يا جارية: ضعي لي ماء فأتى به فتوضأ وقام في مسجد بيته، فصلى ركعتين ثم قال: يا رب إن فلاناً أتاني بالذي أتاني عن الحسن وهو يظلمني وقد غفرت له، فلم يزل يلح في الدعاء على ربه ثم التفت إليّ فقال: أنصرف رحمك الله ثم زاره بعد ذلك. عن الزمخشري، في ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول الله صلى الله عليه وآله قال: خرج العطاء أيام المنصور وما لي شفيع فوقفت على الباب متحيراً وإذا بجعفر بن محمد قد أقبل فذكرت له حاجتي فدخل وخرج وإذا بعطائي في كمه، فناولني إياه، وقال: إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح وإنه منك أقبح، لمكانك منا: قال سبط بن الجوزي: وإنما قال له ذلك لأنه كان يشرب الشراب فوعظه على وجه التعريض وهذا من أخلاق الأنبياء.
صبره
ومن الصفات البارزة في الإمام عليه السلام الصبر وعدم الجزع على ما كان يلاقيه من عظيم المحن والخطوب، ومن مظاهر صبره أنه لما توفي ولده إسماعيل الذي كان ملأ العين في أدبه وعلمه وفضله دعا عليه السلام جمعاً من أصحابه فقدّم لهم مائدة جعل فيها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان، ولما فرغوا من تناول الطعام سأله بعض أصحابه، فقال له: يا سيدي لا أرى عليك أثراً من آثار الحزن على ولدك؟ فأجابه عليه السلام: «وما لي لا أكون كما ترون، وقد جاء في خبر أصدق الصادقين (يعني جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه إني ميت وإياكم».