أما الحديث الشريف فله الأهمية البالغة في العلوم الإسلامية، فقد بني معظم الفقه الإسلامي عليه، فإنه يعرض بصورة موضوعية وشاملة لتفصيل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم، فيذكر أنواعها من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة كما يذكر أجزاءها وشرائطها وموانعها، وسائر ما يعتبر فيها، ويعرض لعمومات الكتاب ومطلقاته فيخصصها ويقيدها، وبالإضافة إلى ذلك تناول آداب السلوك، وقواعد الأخلاق، ويعطي البرامج الوافية لسعادة الإنسان وبناء شخصيته.
وعلى أي حال فقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) من أعظم الرواة وأهمهم في الإسلام، وكانت لرواياته أهمية خاصة عند علماء الحديث خصوصا ما يرويه الزهري عنه، فقد قال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي(1) وقد روى (عليه السلام) مجموعة كبيرة من الأحاديث عن جديه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعن أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) وغيرهم.
رواياته عن النبي:
روى الإمام زين العابدين (عليه السلام) كوكبة مشرقة من الأحاديث بسنده عن جده رسول اله (صلى الله عليه وآله) وهذه بعضها:
1- روى (عليه السلام) بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (انتظار الفرج عبادة، وأن من رضي بالقليل من الرزق رضي الله منه القليل من العمل)(2). وفي هذا الحديث الشريف دعوة حكيمة للإنسان المسلم لعدم القنوط واليأس من رحمة الله، وإنما عليه الصبر وانتظار الفرج، فإن الأمور جميعها بيد الله تعالى فهو وحده الذي يتصرف في شؤون عباده، كما فيه دعوة إلى عدم إرهاق الإنسان نفسه في تحصيل المادة والتهالك عليها فإن الرزق قد قسمه الله تعالى بين عباده.
2- روى الإمام (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (والذي نفسي بيده ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم..)(3) لقد دعا النبي (صلى الله عليه وآله) الإنسان المسلم إلى التحلي بالعلم والحلم، وهما من الصفات الأصيلة التي تزدهر بهما شخصية الإنسان وتتطور بهما حياته وسلوكه.
3- روى الإمام (عليه السلام) عن أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (رأس العقل بعد الإيمان بالله عز وجل التحبب إلى الناس..)(4) إن التودد إلى الناس وكسب عواطفهم من اظهر المميزات لشخصية الإنسان كما هو دليل على تمام عقله، ووفور كماله وفضله، وهو من أعظم مكاسبه في حياته.
4- روى الإمام (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (الإيمان قول وعمل)(5). إن الإيمان في جميع صوره وألوانه ليس ظاهرة لفظية يقتصر فيه على عالم اللفظ الذي يتلاشى في الفضاء، وغنما هو عمل وجهاد يحكى عما استقر في دخائل النفس من الإيمان العميق.
5- روى (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان)(6).
إن الإيمان يتقوم بثلاثة أمور:
الأول: الإقرار باللسان الذي هو مترجم لما انطبع في أعماق النفس.
الثاني: أن يعرف القلب الشيء الذي آمن به معرفة تفصيلية، فإذا لم تكن هناك معرفة، فإن الإيمان به ينتفي موضوعياً.
الثالث: أن يصحب ذلك العمل بالأركان.
6- روى الزهري عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً..) وقرأ (عليه السلام): (الذين كفروا بعضهم أولياء بعض)(7) لقد اتفق فقهاء المسلمين على أن الكفر حاجب للإرث.
7- روى الإمام (عليه السلام) عن أبي عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت..)(8).
وحفل الحديث النبوي الشريف بالأمور التالية:
1) إن الإنسان في يوم حشره، ونشره يسأل أمام الله تعالى عن أيام حياته هل أفناها في طاعة الله، ورضوانه، حتى يثاب على ذلك، أم أنه أنفقها في معصية الله لينال جزاءه العادل.
2) أن الله يسأل الإنسان عن شبابه الذي هو زهرة حياته، هل انطوت أيامه في المعاصي ليعاقب عليها، أم في الطاعة ليثاب عليها.
3) إن الله يسأل الإنسان عن أمواله هل اكتسبها بالطرق المشروعة، وهل أنفقها فيما يرضي الله ليؤجر عليها، أم أنه اكتسبها من الطرق غير المشروعة كالربا وأكل المال بالباطل، وهل أنفقها في معاصي الله ليعاقب عليها.
4) إن الله يسأل يوم القيامة الناس عن حب أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم سفن النجاة، وأمن العباد، فمن أحبهم فإن طريقه حتماً إلى الجنة، ومن أبغضهم فإن طريقه إلى النار حتماً، كما تضافرت النصوص على ذلك.
8- روى (عليه السلام) عن أبيه عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إن أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال على المؤمن)(9).
إن الإسلام بكل اعتزاز قد حرص كل الحرص على وحدة المسلمين وتضامنتهم ووحدة كلمتهم ومن أهم برامجه في ذلك حثه للمؤمنين على إدخال السرور لبعضهم على بعض فإن ذلك مما يوجب شيوع المودة والألفة بينهم.
9- قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق..)(10).
إن التحلي بمكارم الأخلاق من أثمن ما يملكه الإنسان في حياته، ومن أفضل الأعمال التي يدخرها لآخرته، وقد تنى الإسلام الدعوة إلى الأخلاق.
10- قال (عليه السلام) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في آخر خطبته: (طوبى لمن طاب خلقه، وطهرت سجيته، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه..)(11).
ودعا النبي (صلى الله عليه وآله) الإنسان المسلم إلى الاتصاف بمحاسن الصفات، والالتزام بما يلي:
1) حسن الأخلاق.
2) طهارة الضمير وصلاحه.
3) التحلي بالفضائل والآداب.
4) إنفاق الفاضل من الأموال في سبيل الله كإعالة الفقراء والضعفاء.
5) إمساك الفضل من القول، وعدم الخوض في توافه الأمور.
6) إنصاف الناس، وذلك بالتزام لاحق، ولو على النفس.
11- قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من سرّه أن يمدّ الله في عمره، وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمهن فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق، تقول: يا رب صل من وصلني، واقطع من قطعني، فإن الرجل ليرى بسبيل خير إذا أتته الرحم فتهوي به إلى أسفل قعر في النار..)(12).
إن صلة الرحم مما يوجب تضامن الأسرة التي هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع الإنساني، ومن الطبيعي أن الأسرة إذا سادت فيها المودة والمحبة، فإن ذلك مما يوجب صلاح المجتمع ووحدته، وهذا ما يحرص عليه الإسلام في دعوته الخالدة إلى الوحدة والتضامن.
12- قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أحب السبل إلى الله عز وجل جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم، وجرعة مصيبة تردها بصبر..)(13) لقد دعا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى بناء شخصية المسلم على دعامتين: الحلم والصبر وهما من أبرز الصفات الإنسانية، فمن تحلى بهما فقد بلغ القمة في توازن شخصيته وكمالها.
13- روى (عليه السلام) بسنده عن آبائه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون، في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والرأفة همه، والرحمة قلبه، ثم حشاه وقواه بعشرة أشياء باليقين، والإيمان، والصدق، والسكينة، والإخلاص، والرفق، والعطية، والقنوع، والتسليم، والشكر، ثم قال له عز وجل: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: تكلم، فقال: الحمد لله الذي ليس له سند ولا ند، ولا شبيه ولا كفو، ولا عديل، ولا مثيل، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل، فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعز منك، بك أؤاخذ، وبك أعطي، وبك أوحد، وبك أعبد، وبك أدعى، وبك أرتجى، وبك أبتغى، وبك أخاف، وبك أحذر، وبك الثواب وبك العقاب..)(14).
وحفل هذا الحديث الشريف بتمجيد العقل، وتعظيمه، وبيان أهميته، وما منحه الله من الخصائص، فهو أفضل الموجودات التي خلقها الله، وقد منحه للإنسان وميزه على بقية الحمخلوقت والكائنات، وهو شرط في صحة التكليف في الإسلام فالفاقد له يكون كالحيوان الأعجم لا يصلح أن يتوجه إليه التكليف.
14- روى (عليه السلام) بسنده عن آبائه أن المسلمين قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوين على عدونا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة، لم يحدث إلي فيها شيء، وما أنا من المكلفين، فأنزل الله تبارك وتعالى يا محمد (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا، كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثواباً ولا مدحاً، لكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد، (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وأما قوله عز وجل: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلا بغذن الله، وأذنه أمره إياها بالإيمان، ما كانت مكلفة متعبدة، وإلجاؤه إياها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها)(15) لقد فند الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) شبهة الجبر، ونسف جميع أوهامها، فقد خلق الله تعالى الناس أحراراً بإرادتهم واختيارهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير، ونهاهم عن الإثم والشر، فهم بإرادتهم يعملون ما يشاؤون، ويختارون ما يريدون، وليسوا مجبرين على أي عمل من الأعمال، ويقول الرواة: إن الإمام الرضا (عليه السلام) تلا هذا الحديث الشريف على المأمون العباسي فأعجب به، وراح يقول له: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك(16).
15- قال (عليه السلام): حدثني أبي سيد شباب أهل الجنة الحسين، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: قال الله عز وجل: إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني، فمن جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بإخلاص دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي)(17).
إن من أخلص في توحيده لله، وأقر بذلك عن وعي وإيمان، فقد اعتصم بالله ودخل حصناً آمناً من حصونه، وبذلك يكون قد نجا من عذاب الله وعقابه.
16- قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأني ؤذي جليسه بما لا يعنيه..)(18).
إن من نقصان الإنسان أن يفتش عن عيوب الناس، ويعرض عن عيوب نفسه، وإن الأولى به أن يهذب نفسه، ويصلح نقصه، ولا يلتفت إلى عورات الناس، كما أن من نقصان الإنسان أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه، فإنه يشتري بذلك عدواً له، وهو في غنى عن ذلك.
17- قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)(19) إن هذه الظاهرة من أبرز صفات الإنسان المسلم، فإن عدم دخوله فيما لا يعنيه، وبما لا يتعلق به، دليل على نضوجه ووفور عقله، أما دخوله فيما لا يعنيه فإنه يد على ضحالة فكره ويسبب له الإتعاب والإرهاث، ويلتقيه في شر عظيم.
18- قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (في الجنة ثلاث درجات: وفي الآخرة ثلاث درجات: فأعلى درجات الجنة لمن أحبنا بقلبه، ونصرنا بلسانه ويده، والدرجة الثانية لمن أحبنا بقلبه، ونصرنا بلسانه، والدرجة الثالثة لمن أحبنا بقلبه، وفي أسفل الدرك من النار من أبغضنا بقلبه، وأعان بلسانه، وفي الدرك الثالث من النار من أبغضنا بقلبه..)(20).
إن محبة أهل البيت (عليهم السلام) منجاة من الهلكة، ومدعاة إلى الفوز بأسمى الدرجات في الفردوس الأعلى، كما أن بغضهم من أسباب الهلكة والتردي في أسفل درك من النار.
19- قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط..)(21).
وهذه المواطن من أحرج المواقف وأشدها على الإنسان، ولا يجتازها إلا بمحبة النبي (صلى الله عليه وآله) والمودة لأهل بيته الأطهار.
20- قال (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ستة لعنهم الله، وكل نبي مجاب، الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والتارك لسنتي، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمتسلط بالجبروت ليذل من عزه الله، ويعز من أذله الله، والمستأثر بفيء المسلمين، المستحل له..)(22).
إن هؤلاء الأصناف الذين لعنهم الله، ولعنهم كل نبي، هم المنحرفون عن الحق والنابذون لكل ما سنه الله، وهم الشبكة التخريبية في الإسلام من ملوك الأمويين الذين ناصبوا العداء للعترة الطاهرة، وأشاعوا الفساد والجور في الأرض.
21- روى (عليه السلام) بسنده عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (قال الله عز وجل: علي بن أبي طالب حجتي على خلقي، ونوري في بلادي، وأميني على علمي..)(23).
لقد أعرب هذا الحديث الشريف عن أهمية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسموّ مكانته عند الله فهو حجة الله الكبرى على العباد، ونوره المشرق في البلاد، وأمينه على علمه.
22- قال (عليه السلام): أخبرني أبي الحسين، قال: أخبرني الحسن بن علي، قال: أخبرني أبي علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خلقت أنا وعلي من نور واحد(24).
لقد خلق الله تعالى النبي والوصي من نور واحد، فأضاء بهما العقول، وأوضح بهما القصد، وأرشد بهما الضلال.
23- روى (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (يا علي أول ما يسال عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك ولي المؤمنين بما جعله الله وجعلته لك، فمن أقر بذلك، وكان يعتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له..)(25).
وتضافرت الأخبار بمضمون هذا الحديث، وإن الإنسان بعدما يفارق هذه الحياة يسأل عن هذه الأمور الثلاث، وهي البداية الأولى، التي يسأل عنها، ويحاسب عليها.
24- روى (عليه السلام) بسنده عن أبيه عن جده أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (هبط علي جبرئيل فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول: حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك..)(26).
قال السيوطي في تفسير الحديث: (أما الصلب الذي أنزل منه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعبد الله، وأما البطن فآمنة، وأما الحجر فعمه أبو طالب، وفاطمة بنت أسد)(27).
25- قال (عليه السلام): (دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على نفر من أهله، فقال: ألا أحدثكم بما يكون خيراً من الدنيا، والآخرة لكم، وإذا كربتم أو غممتم دعوتم الله عز وجل ففرج عنكم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: قولوا: الله، الله، الله، ربنا لا نشرك به شيئاً، ثم ادعوا ما بدا لكم..)(28).
26- قال (عليه السلام): أتى رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: ما بقي من الشر شيء إلا عملته، فهل من توبة؟ فقال (صلى الله عليه وآله): هل بقي من والديك أحد؟ قال: نعم. قال (صلى الله عليه وآله): فبره، فلعله أن يغفر لك، فولى الرجل، فقال (صلى الله عليه وآله): لو كانت أمه(29) ودل هذا الحديث الشريف على أن البر بالوالدين، والإحسان لهما من موجبات الرحمة، وغفران الذنب خصوصاً البر بالأم.
27- روى (عليه السلام) عن أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (الجنة تشتاق إليك، وإلى عمار، وإلى سلمان، وأبي ذر، والمقداد..)(30).
28- قال (عليه السلام): حدثني أبي أن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (أعبد الناس من أقام الفرائض، وأسخى الناس من أدى الزكاة، وأزهد الناس من اجتنب المحارم، واتقى الناس من قال بالحق في ما له وعليه، وأعدل الناس من رضى للناس بما يرضى لنفسه، وكره لهم ما كره لنفسه، وأكيس الناس من كان أشد ذكراً للموت، وأغبط الناس من كان تحت التراب قد أمن العقاب، ويرجو الثواب، وأعقل الناس من يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال، وأعظم الناس في الدنيا خطراً من لم يجعل للدنيا خطراً، واعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه، وأشجع الناس من غلب هواه، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقل الناس لذة الحسود، وأقل الناس راحة البخيل، وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه وأولى الناس بالحق أعلمهم، وأقل الناس حرمة الفاسق، وأقل الناس وفاءً الملوك، وأقل الناس صديقاً الملوك، وأفقر الناس الطماع، وأغنى الناس من لم يكن للحرص أسيراً، وأفضل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً، وأكثر الناس(31) أتقاهم، وأعظم الناس حذراً من ترك ما لا يعنيه، وأورع الناس من ترك المراء، وإن كان محقا، وأقل الناس مروءة من كان كاذباً، وأشقى الناس الملوك، وأمقت الناس المتكبر، وأشد الناس اجتهاداً من ترك الذنوب، وأحلم الناس من فرّ من جهال الناس، وأسعد الناس من حالف كرام الناس، وأعقل الناس أشدهم مداراة للناس وأولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة، وأعتى الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأحق الناس بالذنب السفيه، المغتاب، وأذل الناس من أهان الناس، وأحزم الناس أكظمهم للغيط، وأصلح الناس أصلحهم للناس، وخير الناس من انتفع به الناس..)(32) لقد ألقى هذا الحديث الشريف أضواء على طبائع الناس واتجاهاتهم، وميولهم، ووضع المناهج الحية للإصلاح الشامل لكثير من القضايا النفسية والتربوية.. حقاً لقد كان هذا الحديث من مناجم الأحاديث النبوية التي ضمت كنوز العلم والحكمة والعرفان.
29- روى (عليه السلام) عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ما زلت أنا ومن كان قبلي من النبيين مبتلين بمن يؤذينا، ولو كان المؤمن على رأس جبل لقيض الله عز وجل من يؤذيه ليؤجره على ذلك..)(33).
لقد تعرض الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسائر النبيين من قبله إلى الاضطهاد والاعتداء من قبل القوى الباغية التي تناهض الإصلاح الاجتماعي، وتناجز دعاته، وجرت على ذلك سنة الحياة من محاربة قوى الشر لقوى الخير، بل لو كان هناك مؤمن مقيم على رأس جبل منعزل عن الناس لانبرى إليه شرير، فيؤذيه ويزعجه، ليثيبه الله على ذلك.
30- روى (عليه السلام) عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (علي بن أبي طالب خليفة الله، وخليفتي، وحجة الله وحجتي، وصفي الله وصفيي، وحبيب الله وحبيبي، وخليل الله وخليلي، وسيف الله وسيفي، وهو أخي وصاحبي، ووزيري، محبه محبي، ومبغضه مبغضي، ووليه وليي، وعدوه عدوي، وزوجته ابنتي، وولده ولدي، وحربه حربي، وقوله قولي، وأمره أمير، وهو سيد الوصيين، وخير أمتي..)(34) لقد أشاد النبي (صلى الله عليه وآله) في كثير من المواقف في حق أخيه ووصيه رائد الحق والعدالة الاجتماعية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونم الطبيعي أن ذلك إنما هو للتدليل على خلافته من بعده، وأنههو القائد العام للمسيرة الإسلامية بعد وفاته (صلى الله عليه وآله).
31- روى (عليه السلام) بسنده عن آبائه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه: (أن الله قد فرض عليكم طاعتي، ونهاكم عن معصيتي، وفرض عليكم طاعة علي بعدي، ونهاكم عن معصيته، وهو وصيي، ووارثي، وهو مني، وأنا منه، حبه إيمان، وبغضه كفر..)(35).
إن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يفرض طاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على اصحابه وإنما الله فرضها على جميع المسلمين، كما يدلل ذلك حديث الغدير الذي أجمع المسلمون على روايته، وليس هناك أدنى شك في أن مبعث ذلك هي مواهب الإمام وعبقرياته، وعظيم اتصاله بالله تعالى، اذ ليس في المسلمين من يدانيه ويضارعه في فضائله ومىثره قال الجاحظ: لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتى ذكرت النجدة والذب عن الإسلام، ومتى ذكر الفقه في الدين، ومتى ذكر الزهد في الأموال التي تتناحر الناس عليها وحتى ذكر الأعطاء في الماعون، كان مذكوراً في هذه الخصال كلها، إلا علي رضي الله عنه(36).
32- روى (عليه السلام) بسنده عن أبيه عن جده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع قاعداً، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقياً رجليه مما يلي القبلة)(37).
وكان هذا الحديث الشريف، وغيره مما أثر عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الموضوع مما استند إليه الفقهاء في فتياههم بعدم وجوب القيام في الصلاة على المريض الذي يجد حرجاً في الصلاة قائماً، وإنما عليه أن يصلي جالساً لأن الإسلام لم يشرع أي حكم حرجي.
33- روى (عليه السلام) عن أبيه أن رسول اله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن المؤمن ليشبع من الطعام فيحمد الله فيعطيه الله من الأجر ما يعطي الصائم القائم، إن الله يب الشاكرين..)(38).
هذه بعض الأحاديث التي رواها الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد روي بعضها مسندة عن أبيه عن جده الإمام أمير المؤمنين عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأخرى غير مسندة وهي على كلا الوجهين تتصف بأعلى مراتب الصحة، إن صح السند إليه.
رواياته عن أمير المؤمنين:
وروى الإمام زين العابدين (عليه السلام) طائفة مشرقة من حديث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد عالج فيها الكثير من القضايا الاجتماعية، كما روى طائفة من خطبه ومواعظه، وفيما يلي بعضها:
1- قال (عليه السلام): (للمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويلبس ما ليس له ويشتري ما ليس له..)(39).
إن المسرف مصاب بانحراف في سلوكه الاقتصادي، وقد حدد الإمام الحكيم مظاهر الشذوذ في تصرفاته بأنه يأكل ويلبس ويشتري كل ذلك مع ما لا يتناسب وشأنه ولا يتفق مع دخله ووارده.
2- قال (عليه السلام): حدثني أبي الحسين (عليه السلام) قال: سمعت أبي علياً يقول: الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، وفضائل، ومعاصٍ، فأما الفرائض فبأمر الله، وبرضى الله، وبقضاء الله، وتقديره، ومشيئته، وعلمه عز وجل، وأما المعاصي فليست بأمر الله، ولكن بقضاء الله، وتقدير الله وبمشيئته وعلمه، ثم يعاقب عليها)(40).
وألقى الإمام الأضواء على أفعال الإنسان، وارتباطها بالقضاء والقدر، فكل ما يصدر من الإنسان من عمل يعلم به الله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولكن لا شيء من أعمال الخير أو الشر قد أجبر عليه العباد، وإنما فوض ذلك لإرادتهم واختيارهم، وقد دلل على ذلك علماء الإمامية في كتبهم الكلامية.
3- روى (عليه السلام) عن أبيه أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئاً من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرن شيئاً من معصيته فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرن شيئاً من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليه في عباده فلا تستصغرن عبداً من عبيد اله فربما يكون وليه وأنت لا تعلم..)(41).
لقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى عدم استصغار هذه الأمور لأن في احتقارها بعض المفاسد التي ألمح (عليه السلام) لها.
4- قال (عليه السلام): كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (إنما الدهر ثلاثة أيام أنت فيما بينهن: مضى أمس بما فيه فلا يرجع أبداً، فإن كنت عملت فيه خيراً لم تحزن لذهابه، وفرحت بما استقبلته منه، وإن كنت قد فرطت فيه فحسرتك شديدة لذهابه، وتفريطك فيه وأنت في يومك الذي أصبحت فيه من غد غرة، ولا تدري لعلك لا تبغله، وان بلغته لعل حظك فيه في التفريط مثل حظك في الأمس الماضي عنك، فيوم من الثلاثة قد مضى أنت فيه مفرط، ويوم تنتظره ليست منه على يقين من ترك التفريط، وإنما هو يومك الذي أصبحت فيه، وقد ينبغي لك إن عقلت وفكرت فيما فرطت في الأمس الماضي مما فاتك فيه من حسنات ألا تكون اكتسبتها، ومن سيئات ألا تكون ابتعدت عنها، وأنتم مع هذا مع استقبال غد على غير ثقة من أن تبلغه وعلى غير يقين من اكتساب حسنة أو مرتدع عن سيئة محبطة، فأنت في يومك الذي تستقبل على مثل يومك الذي استدبرت فاعمل عمل رجل ليس يأمل من الأيام إلا يومه الذي أصبح فيه، وليلته، فاعمل أودع، والله المعين على ذلك..)(42) ودعا سيد العارفين وإمام المتقين إلى اغتنام الوقت، باكتساب الحسنات، واجتناب السيئات، فإن أيام الإنسان سرعان ما تنطوي، ويقدم على ربه فيجازيه على ما عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
5- قال (عليه السلام): كان أمير المؤمنين يقول :(اللهم منّ علي بالتوكل عليك، والتفويض إليك، والرضا بقدرك، والتسليم لأمرك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت يا رب العالمين..)(43) وفي هذه الكلمات الدعوة إلى التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه، والرضا بقدره والتسليم لأمره، فهو تعالى وحده بيده زمام أمور جميع العبادة، وليس لغيره أي سلطان أو قدرة على التصرف في شؤونهم.
6- قال (عليه السلام): كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعبئ أصحابه للحرب إذا أتاه شيخ عليه هيئة السفر فسلم عليه، وقال له: إني أتيتك من ناحية الشام، وأنا شيخ كبير، وقد سمعت فيك من الفضل ما لا أحصيه وإني أظنك ستغتال، فعلمني مما علمك الله تعالى، فقال له أمير المؤمنين:
(نعم يا شيخ من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كثرت همّه في الدنيا كثرت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شراً من يومه فمحروم، ومن لم يبال بما يرى في آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له.. يا شيخ إن الدنيا حقيرة ولها أهل، وإن الآخرة لها أهل، طلقت أنفسهم عن مناصرة أهل الدنيا، لا يتنافسون في الدنيا، ولا يفرحون بغضارتها، ولا يحزنون لبؤسها، يا شيخ من خاف البيات قل نومه، وما أسرع الليالي والأيام في عمر العبد، فأخزن كلامك، وعد أيامك، ولا تقل إلا بخير، يا شيخ إرض للناس ما ترضى لنفسك، وآت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك..).
وبعد هذه النصائح والمواعظ المشرقة التي وجهها إلى الشيخ التفت إلى أصحابه فقال لهم:
(أيها الناس أما ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى، فبين صريع مبتلى، وبين عائد ومعود، وآخر بنفسه يجود، وآخر لا يرجى، وآخر مسجى، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلى أثر الماضي يصير الباقي..).
لقد تحدث الإمام الحكيم عن الحياة العامة التي يعيشها الناس على امتداد التاريخ فتحدث عن شؤونهم وأحوالهم، ومجريات أحداثهم بما لا يتلف ولا يتغير حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وانبرى إلى الإمام صاحبه وتلميذه زيد بن صوحان العبدي، وهو من خيار أصحابه، وأكثرهم وعياً واستيعاباً لعلومه فرفع له المسائل التالية: (يا أمير المؤمنين أي سلطان أغلب وأقوى؟).
فأجابه الإمام (عليه السلام): (الهوى..).
زيد: أي ذل أذل؟.
الإمام: الحرص على الدنيا.
زيد: أي فقر أشد؟.
الإمام: الكفر بعد الإيمان.
زيد: أي دعوة أضل؟.
الإمام: الداعي بما لا يكون.
زيد: أي عمل أفضل؟.
الإمام: التقوى.
زيد: أي عمل أنجح؟.
الإمام: طلب ما عند الله.
زيد: أي صاحب أشر؟.
الإمام: المزين لك معصية الله.
زيد: أي الخلق أشقى؟.
الإمام: من باع دينه بدنيا غيره.
زيد: أي الخلق أقوى؟.
الإمام: الحليم.
زيد: أي الخلق أشح؟.
الإمام: من أخذ من غير حلّه، فجعله في غير حقه.
زيد: أي الناس أكيس؟.
الإمام: من أبصر رشده من غيره.
زيد: من أحلم الناس؟.
الإمام: الذي لا يغضب.
زيد: أي الناس أثبت رأياً؟.
الإمام: من لم يغيره الناس من نفسه، ولم تغيره الدنيا بشقوتها.
زيد: أي الناس أحمق؟.
الإمام: المغتر بالدنيا، وهو يرى ما فيها من تقلب أحوالها.
زيد: أي الناس أشد حسرة؟.
الإمام: الذي حرم الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
زيد: أي الخلق أعمى؟.
الإمام: الذي عمل لغير الله تعالى، ويطلب بعمله الثواب من عند الله.
زيد: أي القنوع أفضل؟.
الإمام: القانع بما أعطاه.
زيد: أي المصائب أشد؟.
الإمام: المصيبة بالدين.
زيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟.
الإمام: انتظار الفرج.
زيد: أي الناس خير عند الله؟.
الإمام: أخوفهم له، وأعملهم بالتقوى، وأزهدهم في الدنيا.
زيد: أي الكلام أفضل عند الله؟.
الإمام: كثرة ذكره، والتضرع، ودعاؤه.
زيد: أي القول أصدق؟.
الإمام: شهادة أن لا إله إلا الله .
زيد: أي الأعمال أعظم عند الله؟.
الإمام: التسليم والورع.
زيد: أي الناس أكرم؟.
الإمام: من صدق في المواطن.
وانتهت أسئلة زيد، وقد أجاب الإمام عنها جواب العالم الخبير المحيط بواقع الأمور، ثم أن الإمام (عليه السلام) التفت إلى الشيخ فقال له:
(إن الله عز وجل خلق خلقاً، وضيق الدنيا عليهم نظراً لهم، فزهدهم فيها، وفي حطامها، فرغبوا في دار السلام الذي دعاهم إليه، وصبروا على ضيق المعيشة، وصبروا على المكروه، واشتاقوا إلى ما عند الله من الكرامة وبذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة ولقوا الله وهو عنهم راض، وعلموا أن الموت سبيل لمن مضى وبقي، فتزودوا لآخرتهم غير الذهب والفضة، ولبسوا الخشن، وصبروا على أدنى القوت، وقدموا الفضل، وأحبوا في الله، وأبغضوا في الله عز وجل، أولئك المصابيح، وأهل النعيم في الآخرة..
وانطبعت هذه المواعظ الحسنة في ضمير الشيخ، وفي أعماق نفسه فالتفت إلى الإمام قائلاً:
(أين أذهب وأدع الجنة؟ وأرى أهلها معها، جهزني بقوة أتقوى بها على عدوك..).
فجهزه الإمام بلامة حرب، وكان من ألمع المجاهدين معه، وقد أبلى في الحرب بلاءً حسناً حتى استشهد بين يديه، فصلى عليه الإمام، وترحم عليه(44).
7- روى الإمام زين العابدين (عليه السلام) خطبة من خطب جده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا نصها:
(إن الحمد لله، أحمده، وأستعينه، واستهديه، وأعوذ بالله من الضلالة، من يهد الله لا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، انتجبه لأمره، واختصه بالنبوة، أكرم خلقه، وأحبهم إليه، فبلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وأدى الذي عليه، أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله، وأقربه لرضوان الله، وخيره في عواقب الأمور عند الله، وبتقوى الله أمرتم، وللإحسان والطاعة خلقتم، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأساً شديداً، واخشوا الله خشية ليست بتعذير، واعملوا في غير رياء ولا سمعة، فإن من عمل لغير الله، وكله الله إلى ما عمل له، ومن عمل لله مخلصاً تولى الله أجره.. وأشفقوا من عذاب الله فإن لم يخلقكم عبثاً، ولم يترك شيئاً من أمركم سدى، قد سمى آثاركم، وعلم أعمالكم، وكتب آجالكم، فلا تغرو بالدنيا فإنها غرارة بأهلها، مغرورون من اغتروا بها، وإلى فناء ما هي، وإن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، اسأل الله منازل الشهداء، ومرافقة الأنيباء، ومعيشة السعداء، فإنما نحن له وبه..)(45).
في هذه الخطبة الشريفة دعوة إلى الموعظة الحسنة، ودعوة إلى تقوى الله الذي هو خير ما يتواصى به عباد الله المتقون، كما فيها دعوة إلى تزكية العمل وتنزيهه عن الرياء، فإن من عمل لغير الله فقد أفسد عمله، وضل سعيه، وخاب أمله.
8- قال (عليه السلام): قال أمير المؤمنين: (أيها الناس أتدرون من يتبع الرجل بعد موته؟ فسكتو، فقال: يتبعه الولد يتركه، فيدعو له بعد موته، ويستغفر له(46) وتتبعه الصدقة يوقفها في حياته، فيتبعه أجرها بعد موته، وتتبعه السنة الصالحة يعمل بها بعده فيتبعه أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء..).
9- قال (عليه السلام): صلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم لم يزل في موضعه حتى صارت الشمس على قيد رمح، ثم أقبل على الناس بوجهه، فقال: والله لقد أدركنا اقواماً كانوا يبيتون لربهم سجداً وقياما، يراوحون بين جباههم وركبهم كأن زفير النار في آذانهم إذا ذكر الله عندهم مادوا كما يميد الشجر، كأن القوم باتوا غافلين، ثم قام (عليه السلام)، وما رؤي ضاحكاً حتى قبض(47).
1-خلاصة تهذيب الكمال ص 23.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 188.
3- الخصال ص 5.
4- الحلية ج 3 ص 203 الخصال ص 17.
5- الخصال ص 53.
6- تاريخ بغداد ك 1 ص 255 الخصال ص 165.
7- الجامع المختصر لابن الساعي ج 9 ص 87.
8- الخصال ص 231.
9- مصادقة الأخوان للصدوق مخطوط في مكتبة السيد الحكيم.
10- أصول الكافي ج 2 ص 99.
11- أصول الكافي ج 2 ص 165.
12- أصول الكافي ج 2 ص 156.
13- أصول الكافي ج 2 ص 99 وسائل الشيعة ج 5 ص 523.
14- الخصال ص 396-397.
15- التوحيد ص 342.
16- التوحيد ص 342.
17- التوحيد ص 25.
18- أصول الكافي ج 2 ص 46.
19- الذرية الطاهرة ورقة 27 مصور في مكتبة الإمام أمير المؤمنين. المعرفة والتاريخ ج 1 ص 360.
20- المحاسن للبرقي ج 1 ص 153.
21- الخصال ص 330.
22- الخصال ص 308.
23- المسلسلات مخطوط في مكتبة السيد الحكيم.
24- الخصال ص 31.
25- الإمام زين العابدين ص 283 للسيد المقدم.
26- التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة ص ص 32.
27- التعظيم والمنة ص 32.
28- دعوات القطب الراوندي ص 20 مخطوط.
29- دعوات القطب الراوندي ص 47.
30- الخصال ص 275.
31- أسقطت هذه الكلمة من الأصل، ولعلها وأكثر الناس عقلاً أتقاهم.
32- الغايات لابن بابويه القمي مخطوط في مكتبة السيد الحكيم.
33- وسائل الشيعة ج 5 ص 486.
34- روضات الجنات ج 6 ص 183-184 نقلاً عن كتاب مناقب الإمام أمير المؤمنين لابن شاذان القمي.
35- ينابيع المودة الباب 41.
36- ثمار القلوب للثعالبي ص 67.
37- ميزان الاعتدال ج 1 ص 484-485.
38- ربيع الأبرار ج 4 ص 328.
39- الخصال ص 94.
40- الخصال ص 156.
41- الخصال ص 191.
42- أصول الكافي ج 2 ص 453.
43- أصول الكافي ج 2 ص 580 ناسخ التواريخ ج 1 ص 142.
44- أمالي الطوسي ص 277.
45- وقعة صفين ص 13.
46- إن الولد الذي يدعو لأبيه، ويستغفر له هوالولد الصالح المتقي دون غيره.
47- مشكاة الأنوار ص 57 للطبرسي.