تفسير القرآن شيء عظيم وجليل ذلك لأن القرآن الكريم كلام الله والدستور الخالد على مدى الدهور والأزمان وهو الذي:
(لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميدٍ)(1).
ومن هنا حضّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأحاديث كثيرة على تعلم القرآن:
قراءةً.. أحكاماً.. متشابهة... كل ما فيه... كذلك أمثاله.. وناسخه ومنسوخه.. والمحكم منه.. وكان من أوائل الفاهمين لآيات الكتاب سيدنا أبو الحسن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقد ورد عنه قوله: (سلوني قبل أن تفقدوني)(2).
فيسأله واحد من الأصحاب: من نسأل بعدك يا إمام؟
يتبسّم الإمام ويشير إلى المرجع الحق بقوله:
(استفتحوا بكتاب الله، فإنه إمام مشفق، وهادٍ مرشد، وواعظ ناصح، ودليل يؤدي إلى جنة الله عز وجل)(3).
ثم يقول في مكان آخر:
إن على كل حقٍ حقيقة، وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه.
ويأتي جماعة إلى الإمام الباقر (رضي الله عنه) يقولون له: أوصنا يابن رسول الله.
قال: ليُعن قويكم ضعيفكم وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح الله لنا(4).
إذاً تعالوا نقرأ بعض تفسيرات السجاد زين العابدين (رضي الله عنه):
1 - (ورتّل القرآن ترتيلاً)(5).
قال الإمام (رضي الله عنه): أي بينه تبياناً ولا تنثره نثر البقل ولا تهذه هذي الشعر وقفوا عند عجائبه لتحركوا به القلوب، ولا يكون همّ أحدكم آخر السورة.
2 - (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاَّ من شاء الله)(6) فسرها الإمام أن بين النفختين ما شاء الله، فسأله واحد: كيف ينفخ فيه.
فقال: أما النفخة الأولى فإن الله يأمر إسرافيل يهبط إلى الدنيا ومعه الصور وللصور رأس واحد وطرفان فإذا رأته الملائكة هابطاً إلى الأرض علموا أن الله أذن في موت أهل الأرض وأهل السماء، فيهبط إسرافيل بحضرة بيت المقدس ويستقبل الكعبة فينفخ فيه فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يسمعه ذو روح إلا صُعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي نحو السماء فلا يسمعه ذو روح إلا صُعق ومات إلا إسرافيل، فيقول له الله: مُتْ فيموت، فيمكثون ما شاء الله ثم يأمر الله السماوات فتمور وتبسط الجبال وتُبدل الأرض غير الأرض بأن لا يكون فيها نبات ولا جبال كما دحاها أول مرة.
وينادي الجبار جل جلاله: (لمن الملك اليوم)(7).
فلا يجيب أحد، فيجيب ذاته بذاته: (لله الواحد القهار)(8).
خلقت الخلق بيدي أمتّهم بمشيئتي وأحييتهم بقدرتي.
ثم ينفخ في الصور فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماء فلا يبقى أحد فيها إلا قام بإذن الله، وتحضر الجنة والنار والخلائق للحساب.
ثم بكى علي بن الحسين (رضي الله عنه)...
3 - (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التوابُ الرحيم)(9).
قال الإمام فيما رواه الصادق جعفر (رضي الله عنه) عنه: إني أضمن على ربي تعالى أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب.
وكان (عليه السلام) إذا أعطى السائل قبّل ما في يده وشمّه ثم يضعه في يد السائل ويقول: ليس من شيء إلاّ وُكلّ به ملك إلاّ الصدقة فإنها تقع في يد الله تعالى(10).
4 - (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً)(11).
فسرها الإمام السجاد (رضي الله عنه): أن الله سبحانه جعل الأرض ملائمة لطباعكم موافقةً لأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة الريح فتصدعكم ولا شديدة الصلابة فتمنع عليكم في دوركم وقبور موتاكم.
ولكنه عز وجل جعل فيها المتانة ما تنتفعون به وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم وجعل فيها كثيراً من منافعكم وجعل السماء سقفاً محفوظاً من فوقكم يريد فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم. وأنزل من السماء ماء من علا ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادها ثم فرّقه رذاذاً ووبلاً لا هطلاً فيفسد أرضكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم وأخرج من الأرض رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً أشباهاً وأمثالاً وأصناماً لا تعقل ولا تبصر ولا تسمع وأنتم تعلمون أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعم بها عليكم ربكم تعالت آلاؤه ونعماؤه...(12).
5 - (وأشرقت الأرض بنور ربِّها ووضع الكتابُ وجيء بالنبيين والشهداء)(13).
حدث ثوير بن فاضة قال سمعت علي بن الحسين يقول: إذا كان يوم القيامة بعث الله الناس من حفر عزلاً مهلاً جرداً مرداً في صعيدٍ واحد يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشر فيركب بعضهم بعضاً ويزدحمون دونها فيمنعون من المضي فتشتد أنفاسهم ويكثر عرقهم وتضيق بهم أمورهم ويشتد ضجيجهم وترتفع أصواتهم وهو أول هول من أهوال القيامة.
فعندما يشرف الجبار تبارك وتعالى من فوق العرش ويقول: يا معشر الخلائق انصتوا واسمعوا منادي الجبار.
فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم فتخشع قلوبهم وتضطرب فرائصهم ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت.
(مهطعين إلى الدَّاع يقول الكافرون هذا يومٌ عسرٌ)(14).
فيأتي النداء من قبل الجبار: أنا الله لا إله إلا أنا الحَكَم الذي لا يجور أحكم اليوم بينكم بعدلي وقسطي لا يظلم اليوم عندي أحد آخذ للضعيف من القوي ولصاحب المظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات وأثيب عليها وآخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا وأنا شاهدكم عليها وكفى بي شهيداً.
فيتعافون فلا يبقى أحد له مظلمة عند أحدٍ أو حقٍ إلا لزمه، فيمكثون ما شاء الله فيشتد حالهم، ويكثر عرقهم وترتفع أصواتهم ويتمنون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها فيأتي النداء من قبل الجبار جل جلاله: أيها الخلائق انصتوا لداعي الله واسمعوا، إن الله يقول أنا الوهاب أجبتم تواهبتهم وإلاّ أخذت بظالمكم فيفرحون لذلك من شدة جهدهم وضيق مسلكهم فيهب بعضهم مظلمته لبعض رجاء الخلاص مما هم فيه ويبقى بعضهم يقولون مظالمنا أعظم من أن نهبها.
فعندها يأمرهم جلّ شأنه أن يرفعوا رؤوسهم وينظروا إلى كرامة الله تعالى فإذا رأوا ذلك القصر تمنى كل منهم أن يكون له فيأتي النداء هذا لكل من عفا عن مؤمن، فعندها يعفون إلا القليل.
فقال رجل للإمام (رضي الله عنه): إذا كان للمؤمن على الكافر حق فأيّ شيء يأخذ منه وهو من أهل النار؟
قال (رضي الله عنه): يطرح عن المسلم من سيئاته بقدر ما له على الكافر، ويعذب الكافر بها مع عذابه.
فقال الرجل: وإن كان للمسلم على المسلم مظلمة فما يؤخذ منه؟
قال (رضي الله عنه): يؤخذ من حسنات الظالم وتعطى للمظلوم بقدر ما له عليه...
قال الرجل: وإن لم يكن للظالم حسنات فما يؤخذ منه؟
قال (رضي الله عنه): إن كان للمظلوم سيئات تزاد على سيئات الظالم بقدر ما له من الحق عليه(15).
6 - (ولولا أن يكون الناس أمةً واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضةٍ)(16).
روى الإمام سعيد بن المسيب أنه سأل علي بن الحسين (رضي الله عنه) عن معنى هذه الآية فقال: إن الله تعالى عنى بالأمة أمة محمد (صلى الله عليه وآله) أن يكونوا على دين واحد طمعاً في أن يكون لبيوتهم سقفاً من فضة ولو فعل ذلك لحزن المؤمنون وغمهم ذلك ولم يناكحوهم ولم يوارثوهم.
وفي رواية أخرى عنه: أراد التنبيه على عطف المولى سبحانه على المؤمنين ألاّ يصيبهم غم وضيق من جهة ما يشاهدونه من اجتماع عامة الأمة على الكفر والضلال طمعاً في التقلب بنعيم الدنيا فلذلك لم يعطى الكافرون الدنيا بتمامها.
7 - (واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحقِّ إذ قربا قرباناً)(17).
فسرها الإمام السجاد (رضي الله عنه) بقوله: تقرب هابيل إلى الله تعالى بأسمن كبش كان في صيانته، وتقرّب قابيل بضغث من سنبل، فقبل الله من هابيل، ولم يقبل من قابيل فوسوس إبليس لقابيل بأن أولاد هابيل سيفتخرون على أولادك ويقولون بأنا أولاد من قبل الله قربانه...
وتحكّم فيه هذا الخيال حتى حسد قابيل أخاه هابيل وعزم على قتله لئلا يكون منه نسل، ولم يدر كيف يواره حتى جاء غرابان واقتتلا ثم حفر أحدهما للآخر وواراه وهو ينظر فقام وحفر لهابيل ودفنه وأصبح من النادمين وصار هذا سنّة في دفن الموتى.
ولما سأله آدم (رضي الله عنه) عن أخيه هابيل، قال قابيل جعلتني راعياً به ثم جاء إلى مكان القربان فاستبان لآدم (رضي الله عنه) قتل هابيل فلعن قابيل وأمر بلعنه وبكى على ولده أربعين سنة حتى أوحى الله إليه إني واهبٌ لك ذكراً يكون خلفاً عن هابيل فولدت حواء غلاماً زكياً مباركاً وفي اليوم السابع أوحى الله إليه أن سمّه (هبة الله).
8 - (قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده)(18).
روى الحسين بن زيد عن عمه عمرو بن علي عن أبيه السجاد (رضي الله عنه): أنه كان يشتري كساء الخزّ بخمسين ديناراً ويقول: قل من حرم زينة الله؟
وعلى هذا مشى الأئمة (رضي الله عنهم) فكان الحسين بن أمير المؤمنين (رضي الله عنه) إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه.. وقتل الحسين (رضي الله عنه) وعليه جبّة خز.. ولبس الصادق جبة خز وطيلسان خز.. ولما رآه سفيان الثوري على هذا الحال قال له: لم يلبس مثل هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال الصادق (رضي الله عنه): كان رسول الله في زمان قتر... وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها وأحق أهلها بها أبرارها، ثم رفع (رضي الله عنه) الثوب الظاهر وإذا تحته ثوب غليظ فقال: يا سفيان هذا لبسته لنفسي وهذا للناس!!
ثم رفع ما على سفيان من الثوب الظاهر وكان غليظاً خشناً وإذا تحته مما يلي جلده ثوب ناعم لين، فقال: يا سفيان لبست هذا للناس ولبِست لنفسك الليّن تستره عنهم ولا يستر عن الله تعالى..(19).
9 - (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء)(20).
قال (رضي الله عنه): من الشهداء المبطون ومن أكله السبع، فقال بعضهم: ما كنت ما أرى الشهيد إلا من قتل في سبيل الله.
قال: إذاً الشهداء قليل...
10 - (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى)(21).
روى سعيد بن جبير قال: سألت الإمام علي بن الحسين (رضي الله عنه) عن ذلك فقال: هي قرابتنا أهل البيت(22).
وعن ابن جرير من حديث الشامي يوم جيء به أسيراً (بالإمام السجاد) إلى دمشق فقال الشامي للإمام، الحمد لله قتلكم!!
فقرأ الإمام هذه الآية وقال بعدها: نحن قرابته لأن أهل البيت أدلاّء على الخير ومسالك النجاة يحملون فضيلة الشرف والسؤدد وفضيلة السلام والوئام وفضيلة الإصلاح والإرشاد، فالإحسان إليهم والمودة لهم تكريماً لرسول الله رسول الأمن والسلام (صلى الله عليه وآله) وشكراً لما أسداه إلى الأمة من بث التعاليم الأخلاقية والقوانين الحافظة لجامعتهم والمهذبة لهم والمنجية من ورطات الجاهلية الأولى، فمن واجب تعظيمه وإسداء المعروف إليه احترام ذريته واللطف بهم والذّب عنه والانضواء تحت رايتهم، فإن المرء يحفظ في ولده.
واحتمالُ أن يراد من القربى قرب النبي (صلى الله عليه وآله) وآله من قريش، أو تقرب الأمة إلى الله بالطاعة.. يردّه قول الإمام زين العابدين (رضي الله عنه) العارف بمورد النزول لانتهاله من مصدر الوحي الإلهي. وفسّره (عليه السلام) (بأهل البيت) حين قال له الشامي: الحمد لله الذي استأصلكم.
فبكى الشامي من الوضع الذي شاهده وتاب إلى الحق واستغفر مما فرط في حق ولي الله(23).
ولإكمال الفائدة هنا.. فقد ورد الحديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وابنه الإمام الحسن (رضي الله عنه) في تفسير هذه الآية : أن القربى هم وآل بيتهم الطاهرين صلوات الله على جدهم رسول الله وعليهم السلام أجمعين..(24).
إنه لتفسير فريد ورائع.. لكن المشكلة: لا يتسع الوقت.. ولا الكلمات أن تترجم أو تنقل كل ما ورد عن الإمام في تفسيره.. لكن وللفائدة نشير إلى بعض المصادر التي نقلت عنه التفسير:
تفسير ابن كثير. تفسير البرهان: للسيد هاشم البحراني. روح المعاني: للآلوسي. مجمع البيان. التهذيب. تفسير الصافي. إكمال الدين: للشيخ الصدوق، الوافي، نوادر الراوندي، مشكاة الأدب في أحوال السجاد: للميرزا عبات قليخان. الجامع الصغير للسيوطي. مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر. والدرّة: للسيد بحر العلوم آية الله آل كاشف الغطاء. وغيرهم..
1 ـ سورة فصلت: الآية 42.
2 ـ نهج البلاغة وشرحه: للإمام محمد عبده : 2 / 130.
3 ـ الأماني: للشيخ الصدوق: ص 301.
4 ـ الأماني: للشيخ الطوسي: 9 / 231.
5 ـ سورة المزمل: الآية 4.
6 ـ سورة الزمر: الآية 68.
7 ـ سورة غافر: الآية 6.
8 ـ سورة غافر: الآية 16.
9 ـ سورة التوبة: الآية 105.
10 ـ تفسير الصافي: 1 - 223.
11 ـ سورة البقرة: الآية 22.
12 ـ عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: ص 78 باب 11.
13 ـ سورة الزمر: الآية 69.
14 ـ سورة القمر: الآية 8.
15 ـ بتصرف من تفسير البرهان : 2 / 945.. وينقلها عن الكليني..
16 ـ سورة الزخرف: الآية 33.
17 ـ سورة المائدة : الآية 27.
18 ـ سورة الأعراف: الآية 32.
19 ـ مجمع البيان: 4 - 413،
20 ـ وكذلك روح المعاني للآلوسي: 8 / 111.
21 ـ سورة الحديد: الآية 19.
22 ـ سورة الشورى: الآية 23.
23 ـ وروى عنه ذلك الجصاص في أحكام القرآن : 3 / 475،
24 ـ وكذلك ابن كثير في تفسيره 4 / 112