1- إن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عين أوصياءه وخلفاءه الاثني عشر من بعده، وصرح بأسمائهم، ومنهم الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقد تضافرت النصوص بذلك(1).
منها ما رواه أبو خالد الكابلي عن علي بن الحسين أن أباه الحسين قال له: دخلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله) فرايته مفكرا فقلت له: مالي أراك مفكرا؟ قال: إن الأمين جبرائيل أتاني وقال: العي الأعلى يقرئك السلام ويقول قد قضت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل الاسم الأعظم وآثار النبوة عند علي بن أبي طالب فإني لا اترك الأرض إلا وفيها عالم يعرف به طاعتي وولايتي وإني لم اقطع علم النبوة من الغيب من ذريتك كما لم اقطعها من ذريات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم ثم ذكر أسماء الأئمة القائمين بالأمر بعد علي بن أبي طالب وهم: الحسن والحسين أولهم ابنه علي وآخرهم الحجة بن الحسن.
2- إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد نص على إمامة حفيده زين العابدين وذلك حينما حضرته الوفاة فقد أوصى إلى ابنه الزكي الإمام الحسن (عليه السلام) وعينه من بعده ودفع إليه مواريث الأنبياء، وأشهد على ذلك ولده الإمام الحسين ومحمد بن الحنفية وجميع أولاده ورؤساء شيعته وقال للحسين: إنك القائم بعد أخيك الحسن، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمرك أن تدفع المواريث من بعدك إلى ولدك زين العابدين فإنه الحجة من بعدك، ثم أخذ بيد زين العابدين وكان طفلاً وقال له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمرك أن توصي بالإمامة من بعدك إلى ولدك محمد الباقر واقرأه من رسول الله ومني السلام)(2).
3- ونص الإمام الحسين على إمامة ولده زين العابدين (عليه السلام)، وعهد إليه بالإمامة من بعده، فقد روى الزهري قال: كنت عند الحسين بن علي إذ دخل علي بن الحسين الأًصغر - يعني زين العابدين - فدعاه الحسين وضمه إليه ضماً، وقبل ما بين عينيه، والتفت الزهري إلى الإمام الحسين فقال له:
(يا ابن رسول الله إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فإلى من؟..).
فقال الحسين:
(علي ابني هذا هو الإمام أبو الأئمة..)(3).
وروي مثل هذا الحديث عبد الله بن عتبة(4) ويقول رواة الشيعة: إن الإمام الحسين (عليه السلام) لما أراد السفر إلى العراق استودع المواريث التي تسلمها من أخيه الحسن عند السيدة أم سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) وأمرها أن تدفعها من بعده إلى زين العابدين، ولما رجع الإمام السجاد إلى يثرب بعد شهادة أبيه سلمته أم سلمة الوديعة التي عندها(5) وهي من إمارات الإمامة وولائها، وكثير من أمثال هذه النصوص قد دونتها كتب الشيعة القدامى ولو لم تك هذه النصوص لكانت مثله العليا، وصفاته الرفيعة تدلل على إمامته.
الإمامة في عصره:
أما الإمامة في إطارها الفكري حسب العقيدة الشيعية فإنها لم تتبلور في عصر الإمام زين العابدين (عليه السلام) فلم يك يفهمها أو يدين بها إلا أقل القليل من خواص الشيعة من الذين صهرت نفوسهم تعاليم الإسلام وقيمه، يقول الحسين بن عبد الوهاب: (وصارت الإمامة - في عصر الإمام - مكتومة مستورة إلا ممن اتبعه من المؤمنين)(6).
لقد أحاطت بالإمام مجموعة من العوامل الرهيبة دعته ألا يتمكن من إظهار المعطيات الضخمة للإمامة، وبيان الحق أصولاً وفروعاً إلا لطائفة قليلة من خواصه وشيعته(7) وذكر الكشي في رجمة سعيد بن المسيب أن الفضل ابن شاذان قال: (لم يكن في زمان علي بن الحسين (عليه السلام) في أول أمره إلا خمسة أنفس: سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن جبير بن مطعم، ويحيى بن أم الطويل، وأبو خالد الكابلي، فهؤلاء كانوا يعرفون الإمامة ويدينون بها دون غيرهم)(8).
لقد اعتزل الإمام عن الناس فترة من الزمن كما اعتزل جده الإمام أمير المؤمنين أيام الخلفاء، وصار جليس بيته، وقد ضرب الإمام زين العابدين لنفسه بيتاً من الشعر خارج المدينة(9) مشتغلاً بالعبادة ونشر العلم، وقد حقن بذلك دمه ودماء البقية الباقية من أهل البيت، وأنقذهم من شر ذلك الحكم الأسود الذي امتحن به المسلمون امتحانا عسيراً.
وعلى أي حال فإن المجتمع الإسلامي لم يع الأهداف المشرقة التي تنشدها الإمامة، كما لم يع الصفات الرفيعة التي يجب أن تتوفر في الإمام من العصمة ووفور العلم، والدراية التامة بما تحتاج إليها الأمة في مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعود السبب في ذلك إلى اضطهاد الشيعة رسمياً، وتصفيتهم جسدياً، وإخلاد الكثير منهم في ظلمات السجون، وحجبهم عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) وذلك من قبل الدولة الأموية العفنة التي ما تركت لوناً من ألوان الظلم والجور إلا صبته على المسلمين.
إمامة محمد بن الحنفية:
ووصف المؤرخون محمد بن الحنفية بأنه من رجال الدهر في العلم والزهد والعبادة والشجاعة، وهو من أفضل أولاد الإمام أمير المؤمنين بعد الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)(10) وكان ورعاً واسع العلم(11) وقد مالت إليه القلوب(12) وقد دانت بإمامته فرقة من المسلمين سميت بالكيسانية، وهي من أقدم الفرق الإسلامية، وقد منحوه لقب المهدي الذي بشر به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذي أخبر عنه (صلى الله عليه وآله) بأنه سيخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وكان ممن دان بإمامته الشاعر الإسلامي الكبير السيد الحميري، وقد اعتقد ببقائه حياً، وأنه مقيم بجبل رضوى، وعنده عسل وماء، وقد نظم ذلك في هذه الأبيات الذائعة:
ألا إن الأئمـة مــن قـريش
ولاة الحـــق أربعـــة سواء
علـي والثلاثة من بنــــيه
هــــم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبــط(13) سبط إيمان وبرٍ
وسبط(14)غيـــبته كــربلاء
وسبط(15)لا يذوق الموت حتى
يقــود الخــيل يقدمها اللواء
تغيـب لا يــرى فيهم زمانا
برضوى عنده عسل وماء(16)
إلا أنه لما تبين له الحق رجع عن معتقده، ودان بإمامة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وقد أعلن ولاءه للإمام الأعظم جعفر الصادق (عليه السلام) بقوله:
تجعــــــفرت باسـم الله والله أكبر
وأيقنت أن الله يعفو ويغفر(17)
مع محمد بن الحنفية:
ومن المؤكد أن محمد بن الحنفية كان يدين بالإمامة للإمام زين العابدين (عليه السلام)، ولم يدّع الإمامة لنفسه، وإنما ادعاها الناس له، وحاشا أن يدعي ما ليس له، فقد كان من أشد الناس ورعاً، ومن أكثرهم تحرجاً في الدين، وكان على بينة من أمر الإمامة في أنها ليست بيد أحد، وإنما مرها إلى الله فهو الذي يهبها لمن يشاء من عباده، وهو على يقين أن إمام عصره هو الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ويقول الرواة: أنه جرى بينه وبين الإمام نزاع صوري حول الإمامة فاتفقا على المضي إلى الكعبة ليتحاكما عند الحجر الأسود، وهو الذي يكون حاكماً بينها وإنما اتفقا على ذلك لبلورة الرأي العام، وإرجاع القائلين بإمامة محمد إلى الحق، وسافرا إلى مكة فلما انتهيا إليها توجها نحو البيت الحرام، واستقبل الإمام الحجر الأسود، ودعا بهذا الدعاء:
(اللهم إني أسألك باسمك المكتوب في سرادق المجد، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق البهاء، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق العظمة، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق الجلال، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق القدرة، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق السرائر، السابق، الفائق الحسن النضير، رب الملائكة الثمانية، ورب العرش العظيم، وبالعين التي لا تنام، وبالاسم الأكبر، وبالاسم الأعظم، الأعظم، الأعظم، المحيط بملكوت السماوات والأرض وبالاسم الذي أشرقت به الشمس، وأضاء به القمر، وسخرت به البحار، ونصبت به الجبال، وبالاسم الذي قام به العرش والكرسي، وبأسمائك المقدسات المكرمات، المكنونات، المخزونات في علم الغيب عندك أسألك بذلك كله أن تصلي على محمد وآل محمد..)(18).
وأنطق الله الحجر الأسود، من باب الإعجاز - كما أنطق عيسى بن مريم وهو في المهدي صبي - بأن الإمام هو زي العابدين وهو حجة الله على خلقه، وأمينه على دينه، واستبان بذلك الحق(19)ورجع حشد من القائلين بإمامة محمد إلى الإمام زين العابدين، وقد نظم هذه الحادثة الشاعر الكبير السيد الحميري:
عـلـــي وما كـان مع عمه
بـرد الإمامــــة عـطف العنان
وتحكيمه حـجــراً أســوداً
وما كـــان من نطقه المستبـــان
بتسليــم عـم بلا مـــرية
إلى ابـــن أخ منطـــقا باللسان
شهـدت بـذلك صدقــاً كما
شهدت بتصـــــديق آي القرآن
عـلي إمامـي لا أمتــــري
وخلـيت قـولي بكـان وكــان(20)
رجوع الكابلي إلى الحق:
وكان أبو خالد الكابلي يدين بإمامة محمد بن الحنفية إلا أنه رجع عن ذلك لما استباه له الحق، ودان بإمامة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والسبب في ذلك حسبما يقول الرواة: أنه قال لمحمد بن الحنفية: (جعلت فداك إن لي حرمة ومودة وانقطاعاً، أسألك بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ألا أخبرتني أنت الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟).
فأجابه محمد جواب المؤمن الذي لا يبغي إلا الحق قائلاً:
(يا أبا خالد حلفتني بالعظيم، الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) علي وعليك، وعلى كل مسلم..).
وأسرع أبو خالد نحو الإمام علي بن الحسين فاستأذن عليه فأذن له، وقابله بحفاوة وتكريم قائلاً له:
(الحمد الله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي..).
وأسرع الإمام قائلاً:
(كيف عرفت إمامك؟..).
(إنك دعوتني باسمي الذي سمتني به أمي!! وقد كنت في عمياء من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية دهراً من عمري، لا أشك أنه الإمام حتى سألته، بحرمة الله، وحرمة الرسول، وحرمة أمير المؤمنين، فأرشدني إليك، وقال: هو الإمام علي وعليك، وعلى الخلق كلهم..)(21).
ونظم السيد الحميري هذه الحادثة بقوله:
عجـبت لكـر صروف الزمان
وأمر أبـي خـالد ذي البيان
ومن رده الأمر لا ينـثـنــي
إلى السيد الطهر نور الجنان(22)
1- كفاية الأثر ص 311 الغيبة للطوسي ص 105 مختصر البصائر ص 39 سليم بن قيس ص 94.
2- أصول الكافي باب النص على إمامة الحسن.
3- روضات الجنات ص 247-248.
4- إثبات الهداة ج 5 ص 214.
5- أصول الكافي باب النص على إمامة علي بن الحسين.
6-عيون المعجزات ص 31 مخطوط.
7- روضات الجنات ج 4 ص 44.
8- رجال الكشي.
9- فرحة الغرى ص 33.
10- عمدة الطالب.
11- الحليةج 3 ص 174.
12- المصدر السابق.
13- أراد بالسبط الإمام الزكي ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن (عليه السلام).
14- أراد بالسبط الإمام الحسين أبا الأحرار وسيد الشهداء.
15- أراد به محمد بن الحنفية.
16- الأغاني ج 7 ص 245 وفي البداية والنهاية ج 9 ص 38 أن هذه الأبيات إلى الشاعر كثير.
17- الأغاني ج 7 ص 235ز
18- أدعية الفاضل المقداد ص 18 مخطوط في مكتبة السيد الحكيم.
19- بحر الأنساب ص 42 إثبات الوصية ص 119.
20- محمد بن الحنفية ص 72 نقلاً عن ديوان الحميري المخطوط.
21- الكشي ص 79-80.
22- محمد بن الحنفية ص 72.