ذلك أن إقدام المنامة، المرتهَنة بالكامل لآل سعود منذ ما قبل اجتياح جند الأخيرين للجزيرة الصغيرة لقمع انتفاضة «14 فبراير»، على مثل هذه الخطوة، يعني أن الرياض تقف خلفها تماماً وتُزكّي ما قامت به وتنتظر الفرصة للكشف عن نفسها. ليست المسألة هذه المرّة مسألة «بالون اختبار» تلقي به السعودية من خلال «كناري مناجم الفحم» التابع لها والمُتمثّل في آل خليفة، بل هي قاطرة انطلقت بها أبو ظبي بمباركة من محمد بن سلمان وستصل إلى الأخير حتماً متى تهيّأت الأسباب.
يمضي ثلاثيّ التطبيع الخليجي، برعاية أميركية، في خطّته لتكريس الأمر الواقع، بينما تعكف فصائل المقاومة على نسج خيوط واقع مغاير، انطلاقاً من حقيقة أن حديث التسوية قد مات ولم يعد صالحاً للتداول.
لم يكن متوقعاً أن يقتصر «اتفاق السلام» الأخير مع كيان العدو الإسرائيلي على النظام الإماراتي، تماماً مثلما لم يكن مفاجئاً أن يَلِي أبو ظبي في الدور نظامُ القمع في البحرين، والذي سَجّل اسمه باكراً ضمن لائحة المتآمرين على قضية فلسطين وشعبها، بعدما أثخن شعبه تنكيلاً وظلماً. المساحة المشتركة بين هذه الأنظمة، في ماهيّتها وتبعيتها وتموضعها وغربتها عن شعوبها وقضاياها، تجعل تواليها في هذا المسار أمراً مُسلّماً به، يصل حدّ التماهي والتطابق في المضمون والسياق والتوقيت.
وكما هي الحال مع نظام آل زايد، سبقت الإعلانَ عن «اتفاق السلام» مع نظام آل خليفة خطواتٌ علنية وسرية، بادر إليها النظام البحريني القمعي تجاه كيان العدو، بما وطّأ للخطوة الأخيرة. وبعيداً من كون النظام الإماراتي هو مَن مَهّد الطريق للنظام البحريني، فالأخير يُعدّ مِن أكثر أنظمة الخليج(الفارسي) حاجة إلى مظلّة خارجية؛ بالنظر إلى أنه منبوذ من شعبه، الأمر الذي يجعله أسير مصالح الخارج، فضلاً عن أن نهجه يُعبّر عن حقيقة مَن يهيمنون على القرار في المنامة. ومن المتوقع، في هذا السياق، الكشف في الأيام اللاحقة عن الكثير من اللقاءات والزيارات المتبادلة مع كيان العدو، تماماً كما حصل في أعقاب الإعلان عن الاتفاق مع الامارات.
وفق الإيقاع نفسه أيضاً، أتى الاتفاق مع نظام البحرين تلبية لحاجات الثنائي دونالد ترامب - بنيامين نتنياهو، في المضمون والتوقيت والسياق. ومع كون هذه الخطوة جزءاً من مخطّط تآمري يستهدف فلسطين والمنطقة، إلا أنها، بوجه آخر، تنطوي على إيجابية كشف المزيد من أقنعة أنظمة القمع التي تحاول الاحتماء بعناوين مذهبية مصطنعة. ذلك أن فرز المعسكرات على أساس الموقف من قضايا التحرّر هو دائماً في مصلحة الشعوب، الأمر الذي يحتاج إليه شعب البحرين المضطهد. بعد المجاهرة بالتحالف مع كيان العدو، لن يبقى هناك عذر لأحد (ولم يكن هناك عذر سابقاً) من أجل اتخاذ موقف صريح ومباشر من هذا النظام الطاغي، إلّا مَن قرّر أيضاً، ولحسابات خاصة، أن يجاهر بتموضعه في معسكر تل أبيب.
كذلك، ومثلما هي حال الاتفاق الإماراتي، يعدّ الاتفاق البحريني تظهيراً لواقع قائم أكثر من كونه تأسيساً لواقع جديد. وهو ما لا يتعارض مع كون مسلسل التطبيع يستهدف الارتقاء بالتحالفات إلى مرحلة جديدة على قاعدة أن مصير هذه الأنظمة مرهون بمصير كيان الاحتلال، وفي مواجهة التهديدات ذاتها. والأهمّ أن يتواصل المسلسل الى حين نيل نتنياهو الجائزة «السعودية» الكبرى بعقد اتفاق مشابه مع نظام آل سعود. مع ذلك، يبدو من الصعب تقرير مَن هو الأكثر وقاحة، بين نظام البحرين ونظام الإمارات، في التعبير عن السياسات التي تنطلق من أن قضية فلسطين هي عبء ينبغي التخلّص منه بأيّ ثمن. وهذا الأمر يسمح، هو الآخر، بمنح المعسكرات عناوينها التي تعبّر عن حقيقة تموضعها.
تحدثت «القناة 13» عن أن هناك اتفاقاً ثالثاً سيُعقد مع دولة عربية قبل شهر تشرين الثاني المقبل
وإلى جانب الأبعاد المتصلة بالسياق والتوقيت الذي يخدم كلاً من الرئيس الأميركي في مواجهة واقعه الداخلي، ورئيس وزراء العدو الذي يواجه تحدّيات داخلية غير مسبوقة، يتميّز نظام القمع في البحرين بأنه يخضع بشكل تامّ للنظام السعودي، على خلاف نظام الإمارات الذي يتمتَع بهامشه الخاص. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن الاتفاق بين المنامة وتل أبيب مزكّى سعودياً بالكامل، وهو ما يؤشّر إلى اقتراب موعد الإعلان عن اتفاق مماثل مع الرياض، وبذلك تكتمل الدائرة. وكانت البحرين أعلنت، الأسبوع الماضي، أنها ستسمح للرحلات الجوية بين إسرائيل والإمارات بعبور مجالها الجوي، عقب اتخاذ السعودية قراراً مماثلاً.
في البعد الإسرائيلي، كرّر نتنياهو التفاخر بـ»الإنجاز» الذي وفّره له النظامان البحريني والإماراتي، على اعتبار أن الاتفاقين يجسّدان معادلة «السلام مقابل السلام، والاقتصاد مقابل الاقتصاد». وليس صدفة أن يكرّر نتنياهو هذه المواقف كشعارات، لكونها تتّصل بمسارين: الأول إزاء القضية الفلسطينية، والثاني في الداخل الاسرائيلي. وهو، بذلك، كَمَن يعلن أن الفضل يعود للنظام السعودي، من دون أن يذكره، وللنظامين البحريني والإماراتي في تسجيل «الإنجاز» السياسي الذي يهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني، بتياراته كافة.
وتتويجاً لهذا «الانتصار» اليميني - الصهيوني، في سياق التجاذبات تحت سقف مخطّط التسوية وفي الساحة الداخلية الإسرائيلية، نقلت صحيفة «هآرتس» أن نتنياهو أعلن بنفسه «اتفاق السلام» بين إسرائيل والبحرين، وأنه سيوقعه يوم الثلاثاء في البيت الأبيض إلى جانب اتفاق التطبيع مع الإمارات. وبحسب الإذاعة الإسرائيلية، فإن ولي العهد البحريني، سلمان بن حمد آل خليفة، سيشارك في مراسم التوقيع، حيث سيعلِن رسمياً تطبيع العلاقات مع الكيان العبري.
ولم يفوِّت نتنياهو هذه اللحظة من أجل محاولة توظيفها في سياق الترويج للمنطق الإسرائيلي - اليميني إزاء عملية التسوية، إذ أعلن، بعد وصف ترامب هذه المحطة بـ»الإنجاز التاريخي»، أن هناك «مرحلة جديدة من السلام، وستنضمّ دول أخرى»، وتَوجّه إلى الإسرائيليين بالقول: «أشعر بالانفعال لأبشّركم الليلة بتوصّلنا إلى اتفاق سلام جديد مع دولة عربية أخرى، مع البحرين. هذا ينضمّ إلى اتفاق السلام التاريخي مع الإمارات». وأضاف مُتوجّهاً إليهم بالوعود في ظلّ ما يواجهونه من أزمات اقتصادية ومالية، أن هذه الاتفاقيات «ستجلب الكثير من الاستثمارات إلى الاقتصاد الاسرائيلي». وحاول الإيحاء بأن ما جرى استوجب بذل جهود استثنائية من قِبَله، في حين أن الأنظمة المُطبّعة حديثاً تقيم علاقات سرّية مع إسرائيل، قد تكون في بعض جوانبها أكثر أهمية مما تمّ الإعلان عنه.
وفي أصداء الحدث في الساحة الإسرائيلية، رأت «القناة 12» أن «الاتفاق مع البحرين هو من نوع تأثير الدومينو... وهو ما أراده البيت الأبيض، بمعنى أن المسألة ليست مسألة دولة واحدة تعقد سلاماً مع اسرائيل، بل بداية شرق أوسط جديد».
من جهتها، تحدثت «القناة 13» عن أن هناك اتفاقاً ثالثاً سيُعقد مع دولة عربية قبل شهر تشرين الثاني المقبل. وتوقف المحلل السياسي في القناة، آري شابيط، عند البعد السعودي للاتفاق مع البحرين، مشيراً إلى أن الأخيرة «دولة تحت الرعاية السعودية، وهي ليست مستقلّة حقاً، وهذا يعني أن السعودية هي تماماً في المسار، لم توقع، لكن أرجحية أن توقع خلال 6 أشهر أو سنة ارتفعت بشكل دراماتيكي. يوجد هنا حدث يستحق الاحتفال به».
علي حيدر - جريدة الأخبار