في سنة ۱٤۲۲ للهجرة إتصلنا بالخطيب الحسيني الجليل سماحة الشيخ باقر المقدسي، حفظه الله، وطلبنا منه القدوم الى مكتب الإذاعة في مدينة قم المقدسة لكي يسجل بصوته المؤثر دعاء مولانا الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة لكي نبثه من الإذاعة في ذلك اليوم المبارك.. فأستجاب سماحته، متفضلا بأريحية، لطلبنا وجاء وسجل الدعاء كاملا جزاه الله خيرا.. وبعد إنتهاء التسجيل جرى الحديث عن أوضاع الجاليات الإسلامية في الدول الغربية. فذكر سماحة الشيخ المقدسي قضية جديرة بالإنتباه وهي إنه شاهد بنفسه خلال سفراته التبليغية عظمة آثار أدعية أهل بيت النبوة( عليهم السلام) ومنها دعاء عرفة الحسيني في إهتداء الكثير الى الدين الحق.. وقد ذكر سماحته التقائه ببعض من جذبته هذه الأدعية الى أهل البيت النبوي وبها عرفوا أحقيتهم (عليهم السلام)… وها نحن مستمعينا الأكارم نخصص حلقة اليوم من برنامج(بالحسين إهتديت) الى هذا الجانب من الهدايات الحسينية.. ومبدأ الحديث من أبيات روي المؤرخون أن سيد الشهداء (عليه السلام) كان يناجي بها ربه الجليل وهي:
يا رب يا رب أنت مولاه
فارحم عبيدا إليك ملجاه
ياذا المعالي عليك معتمدي
طوبى لمن كنت أنت مولاه
طوبى لمن كان خادما أرقا
يشكو إلى ذي الجلال بلواه
وما به علة ولا سقم
أكثر من حبه لمولاه
إذا اشتكى بثه وغصته
أجابه الله ثم لباه
إذا ابتلى بالظلام مبتهلا
أكرمه الله ثم أدناه
إخوتنا الأعزة الأفاضل
في الوقت الذي كان للإمام الحسين(عليه السلام)خطاباته مع الناس، كانت له مناجاته مع رب الناس، وتلك كانت وما تزال أحد دواعي الهداية، فما سمع (سلام الله عليه) وهو يدعو الله جل وعلا إلا وهيمن على الناس حال من الخشوع والتذكر والخشية من الباري تبارك وتعالى. فإذا لهج الحسين بالمناجاة يجد السامع أن روحه تحلق عن الأرض هيبة أو رهبة، أو زهدا عن الدنيا ورغبة في الآخرة، أو جنوحا إلى القرب من الله جل جلاله.
وقد حذر سيد الشهداء(صلوات الله عليه) من أن يستخف بالدعاء أو يستقل، فقال يوما لأصحابه: "إن الله عز وجل أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في الحسنات، فلا يستصغرن أحدكم حسنة؛ فإنه لايدري فيم رضى الله تعالى. وأخفى سخطه في السيئات، فلا يستصغرن أحدكم سيئة؛ فإنه لايدري فيم سخط الله تعالى. وأخفى أوليائه في الناس، فلا يستصغرن أحدكم أحدا؛ فإنه يوشك أن يكون وليا لله تعالى. وأخفى إجابته في الدعاء، فلا يستصغرن أحدكم دعوة؛ فإنه لايدري لعل دعاه مستجاب".
وقد كانت أدعية الإمام الحسين(عليه السلام) مشتملة على معارف عديدة وقضايا متعددة في التوحيد والعرفان والتوكل، والأخلاق والسلوك، ولو أخذها الناس عنه لكفاهم الله بها علما وتربية للروح والضمير والقلب، وتوعية للعقل والنفس، وإعداد للجوانح والجوارح للثبات أمام تقلبات الدنيا وباعثات الهموم والغموم، وداعيات الجزع والضجر، ومحبطات الأعمال، ومفسدات العبادات، ومشوشات النوايا والخلجات.
إخوتنا الأعزة الأكارم.. لو أردنا أن نسرح نظرنا في الصحيفة الحسينية الشريفة، لوجدنا فيها تلك التهليلات والتسبيحات، والتعويذات والتقديسات، والتمجيدات والمناجاة، ما تأنس لها الروح، وينتعش لها القلب، حتى ليشعر المرء بعد قراءتها قد تغير حاله، وانزاحت عن نفسه أثقال الهموم الدنيوية الظلماء، وكأن صدره أشرق بنور الإيمان واتسع للرجاء والأمل.
نسمع أبا عبد الله(عليه السلام) يدعو في طلب مكارم الأخلاق فيقول: "اللهم إني أسألك توفيق الهدى، وأعمال أهل التقوى، ومناصحة أهل التوبة، وعزم أهل الصبر، وحذر أهل الخشية، وطلب أهل العلم، وزينة أهل الورع، وخوف أهل الجزع، حتى أخافك اللهم مخافة تحجزني عن معاصيك، وحتى أعمل بطاعتك، عملا أستحق به كرامتك، وحتى أناصحك في التوبة خوفا لك، وحتى أخلص لك في النصيحة حبا لك، وحتى أتوكل عليك في الأمور حسن ظن بك، سبحان خالق النور، سبحان الله العظيم وبحمده". كلمات ملؤها عذوبة، تنساب من اللسان إلى القلب، وترقى إلى المآقي دموعا خاشعة تلتذ بها الروح.
وبعد صلاة الفريضة، يسمع سيد شباب أهل الجنة يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك بكلماتك، ومعاقد عرشك، وسكان سماواتك وأرضك، وأنبيائك ورسلك، أن تستجيب لي، فقد رهقني من أمري عسر، فأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعل لي من أمري يسرا"…. وكانت للإمام الحسين(عليه السلام) دعوات شريفات في القنوت، وسجدة الشكر، وعند الصباح والمساء، وفي الإستسقاء، وعند رحيله إلى كربلاء، وحوالي يوم عاشوراء. فلما وافى مكة قال يدعو: "اللهم خر لي، وأقر عيني، واهدني سواء السبيل". ولما كثرت العساكر عليه في كربلاء قال(عليه السلام) يدعو: "اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا، ثم هم يقتلوننا"ويوم عاشوراء، وقد أصبحت الخيل تقبل عليه، رفع(عليه السلام) يديه، ثم دعا يقول: "اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة. كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة،ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة". وبعد شهادة ولده الرضيع عبد الله(عليه السلام) كان للحسين هذه الكلمات "يا رب، إن كنت حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين".
ونبقى، أيها الإخوة الأفاضل، مع سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، فنجده في أوقاته، وجميع حالاته متوجها إلى الله جل وعلا بالدعاء والتوكل والتسليم والإستعانة والرضى بقضاء الله، وحسن الظن بالله، حتى سمع(سلام الله عليه) في آخر ساعة من يوم عاشوراء، قبيل شهادته وهو يدعو: "اللهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابق النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت وشكور إذا شكرت، وذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجا، وأرغب اليك فقيرا، وأفزع إليك خائفا، وأبكي إليك مكروبا، وأستعين بك ضعيفا، وأتوكل عليك كافيا.. فاجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا".
وبعد أن بقي (صلوات الله عليه) طريحا على الأرض ثلاث ساعات من النهار ملطخا بدمه، رمق السماء بطرفه وأخذ يدعو بصوت ضعيف: "يا إلهي، صبرا على قضائك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين"… وتلك، إخوتنا الموالين دروس في الصبر والرضى عن الله تعالى، اقترنت بدروس من الشجاعة الحسينية التي دوت في كربلاء، وقبل كربلاء. فاهتدى الناس بهذه الأنفاس الإيمانية العرفانية، والعبارات الدعائية المناجاتية القدسية، فأخذت الأجيال تتلوها بروحية عالية وتصديق عميق، وثقة بالله تعالى واقتداء بالحسين، وهي مقرة أنها اهتدت بالحسين، صلوات ربنا على الحسين.
وها نحن نصل مستمعينا الأكارم إلى ختام حلقة أخرى من برنامج(بالحسين اهتديت) إستمعتم لها من اذاعة طهران، صوت الجمهورية الإسلامية في إيران شكرا لكم ودمتم بكل خير.