الخطبة ۱۱۱: في ذمِّ الدنيا (۲)
أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وأَبْقَى آثَاراً، وأَبْعَدَ آمَالاً، وأَعَدَّ عَدِيداً، وأَكْثَفَ جُنُوداً، تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وآثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ، ولاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ، فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ اَلدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ، أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ، أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً، بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَادِحِ، وأَوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ، وضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ، وعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ، ووَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ، وأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ اَلْمَنُونِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا، وآثَرَهَا وأَخْلَدَ إِلَيْهَا، حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ اَلْأَبَدِ، وهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ اَلسَّغَبَ، أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ اَلضَّنْكَ، أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ اَلظُّلْمَةَ، أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ اَلنَّدَامَةَ، أَفَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ، أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ، أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ، فَبِئْسَتِ اَلدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا، فَاعْلَمُوا وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا، وظَاعِنُونَ عَنْهَا، واِتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً، وأُنْزِلُوا اَلْأَجْدَاثَ فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وجُعِلَ لَهُمْ مِنَ اَلصَّفِيحِ أَجْنَانٌ، ومِنَ اَلتُّرَابِ أَكْفَانٌ، ومِنَ اَلرُّفَاتِ جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً، ولاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً، ولاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا، وإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَعُوا، جَمِيعٌ وهُمْ آحَادٌ، وجِيرَةٌ وهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، وقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وجُهَلاَءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ، ولاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اِسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ اَلْأَرْضِ بَطْناً، وبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وبِالْأَهْلِ غُرْبَةً، وبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاؤُهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى اَلْحَيَاةِ اَلدَّائِمَةِ واَلدَّارِ اَلْبَاقِيَةِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وتعالي، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنَا، إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ.