ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي خلال أيّام شهر رمضان المبارك بشكل يومي مجموعة من الدروس القرآنية للإمام الخامنئي التي فسّرها سماحته وشرحها ضمن خطاباته. وقد تمّ إعداد هذه الدّروس تحت عنوان "ربيع القرآن" بشكل تراتبيّ من الجزء الأوّل حتّى الجزء الثلاثين من القرآن الكريم حيث سوف يُنشر في كلّ يومٍ من أيّام الشهر الفضيل درسٌ من هذه الدروس على الموقع الرّسمي وحسابات شبكات التواصل الاجتماعي.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
سورة الحديد ﴿۲٥﴾
العدالة؛ هدف الأديان
شكّلت العدالة همّاً مستمرّاً وتاريخياً للبشرية. وتبعاً للشعور بالحاجة للعدالة الذي خالج البشرية دائماً طوال التاريخ وحتى اليوم خاض المفكرون والفلاسفة والحكماء في هذه المقولة وكانت من همومهم. وعليه جري النقاش وأطلقت النظريات منذ أقدم عصور التاريخ وإلي اليوم حول العدالة و العدالة الاجتماعية بهذا المعني العام، لكن دور الأديان كان استثنائياً. أي إن ما قالته الأديان علي مرّ الزمان حول العدالة وما أرادته وما اهتمت به كان استثنائياً ومنقطع النظير. في آراء الحكماء والمفكرين لا يلاحظ علي الإطلاق ذلك الاهتمام الذي أبدته الأديان.
أولاً بشهادة القرآن جعلت الأديان العدالة هدفها: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط». لا مراء أن هذه الآية تحكم بأن الهدف من إرسال الرسل و إنزال الكتب والإتيان بالبينات - أي الحجج المتقنة التي ترفض الشكّ والتي يأتي بها الأنبياء؛ الكتاب يعني ميثاق الأديان بخصوص المعارف والأحكام والأخلاق؛ والميزان بمعني المعايير والمقاييس - هو القيام بالقسط، «ليقوم الناس بالقسط». ولا ريب في أن القيام بالقسط وكل ما يتعلق بالحياة الدنيوية والاجتماعية والفردية للأفراد هو مقدمة لذلك الهدف من الخلقة: «وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون»، أي العبودية. بل إن الهدف من الخلقة أساساً هو أن يكون الإنسان عبداً لله، وأسمي الكمالات هي هذه العبودية لله. لكن في الطريق للوصول إلي ذلك الهدف الذي نشدته النبوات وأرسل الرسل من أجله هناك هدف صرحت به هذه الآية. وطبعاً توجد تصريحات أخري في الآيات القرآنية تشير إلي سائر الأهداف المنشودة من إرسال الرسل، وهذه الأهداف يمكن أن تجتمع مع بعضها. إذاً، الهدف هو العدالة. الهدف المنشود من تأسيس أنظمة الحكم وقيام الحضارات، والهدف من مسيرة الإنسانية في البيئة الاجتماعية هو العدالة. هذا غير موجود في أية مدرسة أخري، إنما هو خاص بالأديان.(١)
اختلاف معنى العدل والقسط
يختلف معنى ”القسط“ و“العدل“. للعدل معنى عام. والعدل له نفس المعنى الرفيع والبارز في الحياة الشخصيّة والعامّة وفي الجسد والروح والحجر والخشب وكلّ أحداث العالم. هو يعني السلوك الصحيح؛ والتوازن الصحيح؛ والاعتدال وعدم الاتجاه صوب العيوب والخروج عن الحدود.
لكنّ القسط -كما يفهم الإنسان- هو العدل في المناسبات الاجتماعيّة. أي ذاك الشيء الذي نعبّر عنه نحن اليوم بـ“العدالة الاجتماعيّة“. هذا غير ذاك العدل ذا المعني العام والكلّي. والأنبياء رغم أنّ مسارهم العام يتّجه نحو العدالة بمعناها العام -”بالعدل قامت السموات والأرض“؛(٢) فالسماوات أيضاً قامت بالاعتدال والعدالة والتوازن -لكن ما يهمّ البشر حالياً وهو متعطّش له ولا يستطيع العيش ضمن مستوى أدنى منه، هو القسط. القسط يعني تجزئة العدل وظهوره على شكل عدالة اجتماعيّة. ”ليقوم النّاس بالقسط“. هذا ما جاء لأجله الأنبياء.(٣) وقد تكون حياة الناس أكثر الأمور أهميّة في حركة ودعوة الأنبياء. حسناً، الأمور المعنويّة والتسامي والارتقاء الروحي وأمثال هذه الأمور لها شأنها الخاصّ. لكن في الوقت عينه، لم يتمّ الاهتمام في القرآن والحديث بشيء كما تمّ الاهتمام بالعدل والقسط. (٤)
إمساك الصالحين بالقوّة؛ شرط استقرار العدالة
العدالة التي ننتظرها -عدالة الإمام المهدي (عج) التي ستشمل العالم بأسره- لا تتأتّى عبر الموعظة والنصيحة، أي إنّ المهدي (عج) موعود الأمم لا يأتي ليقدّم النّصح للظلمة في العالم ليكفّوا عن ظلمهم وأطماعهم وهيمنتهم واستغلالهم، فالعدالة لا تتحقّق في أيّة بقعة من العالم عن طريق لغة النّصح، وإنّما إرساء العدل في ربوع المعمورة -بالنّحو الذي سيرسيه سليل الأنبياء- أو في أيّ من بقاع العالم، يحتاج أن يمسك أصحاب العدل والصالحون ودعاة العدل من الناس بالقوة ويخاطبوا الجبابرة بلغة القوّة، فلا يصحّ الحديث بلغة النّصح مع الذين أسكرتهم قوتهم الغاشمة، بل يجب مخاطبتهم بلغة القوّة، فلقد ابتدأ الأنبياء دعوتهم بلغة النّصح، غير أنّهم لما استطاعوا استجماع وتجهيز أنصارهم، أخذوا يخاطبون أعداء التوحيد وأعداء البشريّة بلغة القوّة.
لاحظوا في هذه الأية القرآنيّة التي تتحدّث عن القسط وتقول أنّ الله سبحانه وتعالى بعث النبيّين {ليقوم النّاس بالقسط}، فإنّها تقول مباشرة {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للنّاس}(٥)، أي أنّ الأنبياء بالإضافة إلى دعوتهم باللسان فإنّهم يواجهون الأقوياء والعتاة المدجّجين بالسّلاح والمتغطرسين والمهيمنين الفاسدين ويقارعونهم، فالنّبي الأكرم (ص) عندما حلّ في المدينة وأقام النظام الإسلامي كان يتلو على الناس آيات القرآن ويوصلها إلى مسامع الأعداء أيضاً، لكنّه لم يكتفِ بذلك، فلا بدّ لأنصار العدالة من التزوّد بالقوة في مواجهة المتعسّفين والطامعين والمعتدين على حقوق الإنسان، لذا فإنكم تشاهدون أعداء الإسلام ومنذ اليوم الأول لقيام النظام الإسلامي، أي الإسلام المعزز بقدرات شعب عظيم وإمكانيات بلد ودولة كبيرة قد أخذوا على محمل الجدّ حركة الإسلام، وكذلك فإنّ التوّاقين للإسلام وأنصاره في كافة أرجاء الدنيا قد عمّهم الأمل.(٦)
العدالة؛ مقدّمة العبوديّة لله
القيام بالقسط وكلّ ما يرتبط بالحياة الدنيويّة، الاجتماعيّة والفرديّة للأشخاص هو مقدّمة هدف الخلقة: ”وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون“؛(٧) أي أنّ الهدف هو العبوديّة.(٨) كلّ شيء يمثّل مقدّمة؛ والمجتمع الإسلامي أيضاً هو مقدّمة؛ والعدالة مقدّمة. فقول الله عزّوجل في القرآن الكريم ”ليقوم النّاس بالقسط“ -والذي ذُكر على أنّه هدف الأنبياء- لا ينفي كون العدل هدفاً حتمياً، لكنّ هذا هدف مرحلي.(٩) أساس هدف الخلقة هو أن يكون الإنسان عبداً لله عزّوجل؛ وأسمى الكمالات هي العبوديّة لله عزّوجل. لكن من أجل الوصول إلى ذلك الهدف، الذي هو هدف النبوّات وإرسال الرّسل؛ تصرّح الآية بهذا الأمر. طبعاً هناك تصاريح أخرى في الآيات القرآنية تشير إلى سائر أهداف إرسال الرسل، وهذه كلّها يمكن جمعها مع بعضها.(١٠)
الهوامش:
١) كلمته في ملتقى الأفكار الاستراتيجية الثاني ١٧/٥/٢٠١١
٢) عوالي اللئالئ العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، ج٤، ص١٠٣.
٣) كلمته في لقاء مع مسؤولي النظام ٢١/١/١٩٩٣
٤) كلمته في لقاء مع مسؤولي السلطة القضائية ١١/٩/١٩٨٩
٥) سورة الحديد، الآية ٢٥
٦) كلمته في لقاء مع مختلف الفئات الشعبيّة ٢٢/١٠/٢٠٠٢
٧) سورة الذاريات، الآية ٥٦
٨) كلمته في ملتقى الأفكار الاستراتيجية الثاني ١٧/٥/٢٠١١
٩) كلمته في أول ملتقى للأفكار الاستراتيجيّة ١/١٢/٢٠١٠
١٠) كلمته في ملتقى الأفكار الاستراتيجية الثاني ١٧/٥/٢٠١١