السلام عليكم مستمعينا الأطائب ورحمة الله وبركاته..
إثنان من أنصار الحسين – صلوات الله عليه وعليهما – نحرا على صدره الشريف في الساعات الأخيرة من ملحمة عاشوراء الخالدة..
وبذلك سجلا مشهدين فريدين في نصرة الإمام الحق لم يشهد لهما التأريخ نظيراً لا قبلهما ولا بعدهما وليخلدا في وجدان العاشقين وهما يهديان الى جماليات لم ترّ في غير ملحمة الجمال المطلق ملحمة عاشوراء..
تابعونا ونحن نستعرض هذين المشهدين في لقاء اليوم من برنامجكم ما رأيت إلا جميلا.
أيها الأفاضل، ذكر أحد العرفاء أن عبدالله الرضيع – سلام الله عليه – لم تظهر عليه ملامح شدة العطش إلا بعد أن سمع صرخات الإستغاثة من والده الحسين بعد مصرع أخيه العباس – عليهما السلام – فكان إظهاره العطش إستجابة ملكوتية من روحه المحمدية السامية لصرخة الإستغاثة الحسينية وكان مشهد توديع والده له لكي يسكن هذه الروح اللطيفة.. مشهد حمل جماليات عدة من سيد الشهداء وهو – عليه السلام – يظهر أجمل التسليم لأمر الله في أشد البلاء..
يقول سماحة الشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني في كتابه (من أخلاق الإمام الحسين) تحت عنوان (أجمل الصبر عند أصعب المصائب): أي صبر كان صبر أبي عبدالله الحسين – عليه السلام -؟!!
دون أي شك، إنه صبر تعجز عنه الكائنات، وتميد من هوله الجبال، وكان من أفجع وأقسى ما نكب به رزيته بولده عبدالله الرضيع، فقد كان كالبدر في بهائه، فأخذه وجعل يوسعه تقبيلاً ويودعه الوداع الأخير، وقد غارت عيناه وذبلت شفتاه لشدة العطش، فحمله الى القوم لعلهم يسقوه جرعة من الماء، وعرضه عليهم وهو يظلل له بردائه من حرارة الشمس، وطلب منهم أن يسعفوه بقليل من الماء، فلم ترق قلوب اولئك الممسوخين، وانبرى الباغي اللئيم حرملة بن كاهل فسدد له سهما، وجعل يضحك ضحكة الدناة وهو يقول مفتخراً أمام اللئام من أصحابه: "خذ هذا فاسقه".
واخترق السهم – يا الله – رقبة الطفل الرضيع وهو على يد والده الحسين – عليه السلام – ولما أحس الطفل بحرارة السهم أخرج يديه من القماط، وجعل يرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح، وانحنى الطفل رافعاً رأسه الى السماء فمات على ذراع أبيه.. إنه منظر تتصدع من هوله القلوب، وتلجم الألسن.
ورفع الإمام يديه وكانتا مملوئتين من ذلك الدم الطاهر، فرمى به نحو السماء فلم تسقط منه قطرة واحدة الى الأرض – حسبما يقول الإمام الباقر عليه السلام – وأخذ يناجي ربه قائلاً: "هون ما نزل بي انه بعين الله تعالى.. اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح، إلهي إن كنت حبست عنا النصر فأجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة في الآجل، اللهم: أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد – صلى الله عليه وآله -.
ونزل الإمام عن جواده، وحفر لطفله بجفن سيفه حفرة، ودفنه مرملا بدمائه الزكية، وقيل إنه وضعه مع القتلى من أهل بيته، لك الله يا أباعبدالله على هذه الكوارث التي لم يمتحن ببعضها أي نبي من أنبياء الله، ولم تجر على أي مصلح في الأرض.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن بسمة هي الأجمل قد ارتسمت على شفتي عبدالله الرضيع وكأنه يعبر عن حمده لله عزوجل على فوزه بالشهادة في الدفاع عن سيد الشهداء ودفع السهم المثلث الذي أعده حرملة بن كاهل للإجهاز على أبيه صلوات الله عليهما.
وننتقل بكم أيها الأحبة الى مشهد الثاني وهو الذي سجله المنحور الثاني على صدر الحسين عليه السلام، إنه آخر أولاد الحسن المجتبى – عبدالله بن الحسن صلوات الله عليهما – قال الشيخ المفيد في كتاب الإرشاد وهو يذكر ما جرى على الحسين – عليه السلام – قبيل مصرعه وقد أحاط به عساكر البغي الأموي:
(عادوا إليه وأحاطوا به، فخرج إليهم عبدالله بن الحسن بن علي عليهم السلام – وهو غلام لم يراهق – من عند النساء يشتد حتى وقف الى جنب الحسين فلحقته زينب بنت علي عليهما السلام لتحبسه، فقال لها الحسين: "إحبسيه يا أختي" فأبى وامتنع عليها امتناعا شديدا وقال: والله لا أفارق عمي.. وأهوى أبجر بن كعب الى الحسين عليه السلام بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا بن الخبيثة أتقتل عمي؟!
فضربه أبجر بالسيف فاتقاها الغلام بيده فأطنها الى الجلدة فإذا يده معلقة، ونادى الغلام: يا أمتاه! فأخذه الحسين عليه السلام فضمه وقال: "يا ابن أخي، إصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين".
ثم رفع الحسين عليه السلام يده وقال: "اللهم إن متعتهم الى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا فقتلونا".
وقد ذكر المؤرخون – مستمعينا الأفاضل – أن عبدالله بن الحسن – صلوات الله عليهما – قد قضى نحبه بالطريقة نفسها التي قضى بها عبدالله الرضيع إذ وجه إليه حرملة سهم بغي ثان نحره من الوريد الى الوريد ليسجل أجمل مواقف الوفاء.. يجليها العلامة الشيخ باقر شريف القرشي وهو يتحدث عن وفاء أصحاب الحسين لمولاهم – عليه وعليهم السلام – قال – رضوان الله عليه -:
(لم يقتصر هذا الوفاء للحسين – عليه السلام – على الرجال، وإنما سرى الى النساء اللاتي كن في المعركة، فكانت المرأة تسارع الى إبنها تتضرع إليه ليستشهد بين يدي الإمام، والزوجة تسارع الى زوجها ليدافع عن الإمام، هن لم يحفلن بما يصيبهن من الثكل والحداد. ومما يثير الدهشة أن الأطفال من الأسرة النبوية أيضاً قد اندفعوا نحو الإمام وهم يقبلون يديه ورجليه ليمنحهم الإذن في الشهادة بين يديه، ومن بينهم عبدالله بن الحسن وكان له من العمر إحدى عشر سنة، لما رأى الأعداء قد اجتمعوا على قتل عمه – الحسين – لم يستطع صبرا، وأسرع فأندفعت عمته زينب لتمسكه فامتنع عليها، وأخذ يركض حتى انتهى الى عمه، وقد أهوى أبحر بن كعب بسيفه ليضرب الإمام فصاح به الغلام: يا ابن الخبيثة أتضرب عمي؟ فانعطف عليه الخبيث الدنس فضربه بالسيف على يده فأطنها الى الجلد فإذا هي معلقة، ورمى الغلام بنفسه في حجر عمه – وهو يقول للحسين: عماه لقد قطعوا يدي.
فاحتضنه الحسين ودمعت له عيناه، وهمس في أذنه: يا بني صبراً فإنك عن قليل ترد على جدك وأبيك، فسدد له حرملة سهماً غادرا فذبحه وهو في حجر عمه لقد استلذ الموت في سبيل عمه..
وبهذا تنتهي حلقة أخرى من برنامجكم ما رأيت إلا جميلا قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.. شكراً لكم ودمتم في أمان الله.