بسم الله والحمد لله الملك الحق المبين الذي تجلى لعباده وخلائقه بمشارق جلاله وجماله وكماله المستبين حبيبه المصطفى الأمين وآله الأطيبين صلواته وتحياته وبركاته عليهم أجمعين.
السلام عليكم إخوتنا وأخواتنا المستمعين ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم في لقاء اليوم من هذا البرنامج.
أيها الأطائب، إستفاضت بل تواترت ومن طرق مختلف المذاهب الإسلامية أحاديث سيدنا الحبيب المختار التي يوصي فيها – صلى الله عليه وآله – المسلمين من بعده بأن يحفظوه – أي يحفظوا نهجه القويم – وذلك من خلال حفظه في ذريته وأهل بيته وعترته ونصرتهم واتباعهم لأن الحق فيهم ومعهم لا يفارقهم ولا يفارقونه.
هذه الوصية النبوية الخالدة تجذرت في قلوب أبطال الملحمة العاشورائية فظهرت في أجمل صور سجلها التأريخ للوفاء الصادق للنبي الأكرم – صلى الله عليه وآله – نفتح قلوبنا وعقولنا على بعضها في لقاء اليوم فتابعونا مشكورين.
أعزاءنا، تجلت في ليلة عاشوراء أسنى صور رأفة القائد الحق بأنصاره في طلب سيد الشهداء – عليه السلام – كم جميع أنصاره وأهل بيته أن يتخذوا الليل ستراً ويرحلوا عنه لكي ينجوا بأنفسهم، فإنما يطلب الأعداء قتله هو – صلوات الله عليه – فإذا تحقق لهم ذلك غفلوا عن غيره، وقد روى المؤرخون جميل إصرار الأصحاب والأنصار على القتل دونه.. نختار من نماذج المشهد التالي، قال الرواة:
(وقام إليه مسلم بن عوسجة، فقال: أنحن نخلي عنك، وبما نعتذر الى الله في أداء حقك؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله إنا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، أما والله لو علمت أني اقتل ثم أحيى ثم أحرق ثم أحيى ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.
وقام زهير بن القين فقال: والله لوددت أني قتلت نشرت ثم قتلت حتى اقتل هكذا ألف مرة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك).
وهكذا أيها الأحبة يتجلى التفاني في حفظ رسول الله في عترته بصور رائعة الحسن وهي تقدم حفظه – صلى الله عليه وآله – على الأنفس بل وعلى أعز ما يحرص كل إنسان على حفظه وهم أولاده، لنتأمل معاً في المشهد التالي من الملحمة العاشورائية.
قال السيد ابن طاووس في كتاب اللهوف في قتلى الطفوف: وقيل لمحمد بن بشر الحضرمي في تلك الحال: قد أسر ابنك بثغر الري، فقال: عند الله احتسبه ونفسي ما أحب أن يؤسر وأنا أبقى بعده، فسمع الحسين عليه السلام قوله، فقال: رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك فقال: أكلتني السباع حيا إن فارقتك، فقال – عليه السلام -: فأعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.
وتبلغ جمالية التفاني في حفظ العترة المحمدية إحدى ذراها في المشهد التالي وهو يحكي دموع محب يرى قتله قليلاً في الدفاع عن حبيبه، قال الحافظ الحنفي الموفق الخوارزمي في كتاب المقتل:
(جاء عبدالله وعبدالرحمان الغفاريان، فقالا: السلام عليك يا أباعبدالله، أحببنا أن نقتل بين يديك، وندفع عنك. فقال: مرحبا بكما، ادنوا مني. فدنوا منه وهما يبكيان. فقال لهما: يا ابني أخي ما يبكياكما؟ فوالله إني لأرجوا أن تكونا عن ساعة قريري العين. فقالا: جعلنا فداك، لا والله ما نبكي على أنفسنا، ولكن نبكي عليك، نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنع عنك. فقال: جزاكما الله يا إبني أخي بوجدكما من ذلك مواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين. ثم استقدما وقالا: السلام عليك يا بن رسول الله. فقال: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته. فخرجا وقاتلا قتالا شديدا حتى قتلا).
أيها الأفاضل، وتنعكس جمالية العمل بتلكم الوصية النبوية حتى في حالة الحيرة التي قد تسبقها ما دامت تؤدي هذه الحيرة الى إتباع الحق، نقرأ هذه الجمالية في أحد المشاهد العاشورائية مع سماحة السيد نبيل الحسيني في جانب من كتاب (الجمال في عاشوراء) حيث يقول:
قد يستغرب المرء من وجود جمال في الحيرة!! ولكنه لو نظر الى موقف الحر بن يزيد الرياحي عليه السلام فإنه يدرك كم للحيرة من جمال خاطف فيما لو انتهت باتباع الحق. إنه جمال لا يأنس به إلا صاحبه.
هذا الأنس عاشه الحر عندما أخذ ينظر الى تلك المشاهد في كلا المعسكرين، فرأى الجنة في المعسكر الأول حيث يقف الإمام الحسين وصحبه عليهم السلام؛ وكأن لسان حاله يقول: "كيف يكون سيد شباب الجنة في مكان والجنة في مكان آخر؟!"
ورأى في المعسكر الثاني حيث يقف عمر بن سعد وجنده، النار التي هم فيها خالدون؛ وإلا كيف يكون حال من تجمع وتجهز وعزم على قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله تعالى يقول: إن الذين يؤدون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا.
ولذا: لما سمع الحر بن يزيد الرياحي كلام الإمام الحسين عليه السلام واستغاثته، أقبل على عمر بن سعد وقال له: أتقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي!!
قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال: لو كان الأمر إلي لقبلته، ولكن أميرك أبى ذلك. فتركه ووقف مع الناس.
وكان الى جنبه قرة بن قيس، فقال لقرة: هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظن قرة من ذلك أنه يريد الإعتزال، ويكره أن يشاهده فتركه فأخذ الحر يدنو من الحسين قليلاً فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟
فسكت وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر من هذا الحال، وقال له: لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟
فقال الحر: إني أخير نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو أحرقت.
إذن، فهذا هو الأنس الذي عاشه الحر عليه السلام عند ما تجلى له جمال اتباع الحق حينما مرّ بفترة من الزمن احتار فيها بين أن يتبع الحق أو الباطل، فاختار الحق وبدت له الجنة وكأنه يراها، بل أيقن أنه الآن قد دخلها.
ولذا قال: "والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو أحرقت".
لكم منا مستمعينا الأكارم أكرم الشكر على كرم المتابعة لحلقة اليوم من برنامجكم ما رأيت إلا جميلا قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.. دمتم في رعاية الله آمنين والحمد لله رب العالمين.