يا ويحهم خانوا النبي وآله
كم من جنايات لهم وجرائم
عمدوا لهدم الدين بغضاً منهم
للمصطفى ولحيدر ولفاطم
كم من دم سفكوا وكم من حرمة
هتكوا، كذي حنق ونقمة ناقم
وبنات وحي الله تسبى بينهم
من ظالم تهدى لالعن ظالم
والهفتاه لزينب مسبية
بين العدى تبكي بدمع ساجم
وترى اليتامى والمتون تسودت
بسياطهم الماً، ولا من راحم!
فاذا بكت ضربت، وتشتم ان شكت
من ضارب تشكو الهوان وشاتم
مضت تلك الساعات العصيبة، والوقائع الرهيبة، من نكبة عاشوراء، بمراراتها وغصصها التي لا توصف ولا تتصور، لتبدأ قصة السبي الاليمة بفصولها المريرة، بما لم يحدث في الاسلام، اذ سبي حريم الرسالة، وبنات النبوة، ونساء الاسلام الطاهرات، اولادهن وازواجهن، واخوانهن وذويهن من الركب الحسيني الشهيد، فرحلت قافلة الاسر وسيدها الامام علي بن الحسين زين العابدين وسيدتها العقيلة المكرمة زينب الكبرى بنت الامام علي امير المؤمنين وقد ضمت تلك القافلة المجللة بالبهاء الرسالي جمعاً من النساء الارامل والاطفال اليتامى من آل البيت النبوي ومن بيوتات الاصحاب والاسر الكريمة المخلصة لاهل بيت الوحي، والكل في رعاية الام العطوف والعمة الرؤوف زينب، وما ادرانا من هي زينب صلوات ربنا عليها.
في العام السادس الهجري ولدت العقيلة الطاهرة زينب في بيت النبوة والامامة والقرآن، فعاشت اكثر من خمس سنوات في كنف المصطفى صلى الله عليه وآله وتنسمت منه عطر الرسالة ومن ابيها امير المؤمنين نسائم الولاية ومن امها عبق العبادة والعفاف والصبر وهي تدرج في ظلال القدس ودار الوحي، واجواء المكرمات والفضائل بعد ان شملها دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله في ابويها حينما زوجهما قائلاً لهما (جمع الله شملكما، وجعل نسلكما مفاتيح الرحمة، ومعادن الحكمة، وامن الامة).
وشاء الله تبارك وتعالى ان يسكب من انواره على العقيلة المكرمة زينب عليها السلام، فتتجلى فيها معاني العزة والكرامة، فضلاً عن العلم والشرف والعبادة، والعقل والصبر والزهادة، والجلال والمهابة، فتعيش هذه المرأة في اهل بيتها تنصر الرسالة وتتحمل المهام العظمى، وتناصر اخاها الحسين امام زمانها في نهضته الالهية بايمان راسخ وبصيرة نيرة وثبات وعزيمة، ثم لتواصل مسيرته بعده في ثورة اخرى تمتد الى آخر الدهر، تروى لوحات من المكرمات والانتصارات الرسالية التي هزت قصور الظلمة وعروش الطغاة وما تزال وهي خلال ذلك ضمت يداها الرحيمتان رعيلاً من الايتام والارامل الاسرى ترعاهم بحنانها ولطفها وامومتها:
هي زينب لو كنت تعرف زينبا
شأت الورى اماً، وبزتهم أبا
اخت الحسين ومن اتمت بعده
نهج الجهاد وقارعت نوب السبا
ابدت جميل الصبر وهي وقورة
فكأن ما لقيته كان محببا
كم شاهدت شجواً وعانت محنة
يعيا البيان لهولها ان يعربا
رأيت الحماة مجزرين على الثرى
وجسومهم نهب الاسنة والضبا
راي الرؤوس على الرماح مشالة
والسوط يقرع متنها ان تنحبا
ورعت يتامى صارخين وما لهم
من مصرخ وحمت عليلاً متعبا
تجسد الصبر شامخاً في العقيلة الكبرى زينب في ساحة كربلاء حيث عاضدت اخاها الحسين في شهادته وتوجهت به الى الله جل وعلا بقلب مفجوع: «الهي تقبل منا هذا القربان»، وكانت لها صرخة في اول السبي وقد مروا بركب الاسارى على مصارع الشهداء، فنظرن النسوة الى قتلاهن فنادت زينب بصوت حزين وقلب كئيب تنعى سيد الشهداء: يا محمداه، صلى عليك مليك السماء، هذا حسينك مرمل بالدماء، مقطع الاعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليهم ريح الصبا بأبي من نفسي له الفداء، بأبي من شيبته تقطر بالدماء بأبي من هو سبط نبي الهدى.. واما امام طاغية الكوفة عبيد الله بن زياد، فكانت تلك اللبوة الحيدرية، اذ لما سألها شامتاً: كيف رأيت فعل الله باهل بيتك؟
انبرت اليه تجيبه بل تدمغه قائلة: ما رأيت الا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا الى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يا ابن مرجانة!
وتلك خطبتها في اهل الكوفة اردتهم آسفين حسرى مخزيين، حتى قال شيخ فيهم وقد اخضلت لحيته بدموعه: بابي وأمي كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب.
وفي الشام، اذلت يزيد بن معاوية في عرشه والجمته في خطبة حيرته ولم تدعه الا ان يقول مذهولاً من كلامها:
يا صيحة تحمد من صوائح
ما اهون النوح على النوائح!
وقضت زينب بعد واقعة طف كربلاء بسنة ونصف، لا اكثر وهي شهيدة الاحزان، والفجائع، ليبقى التأريخ واقفاً لها باجلال واكبار واعظام انها الصديقة الصغرى بعد امها الزهراء، وانها ولية الله الراضية بقضاء الله، الصابرة على ابتلاء الله، العابدة الشجاعة الفصيحة العاقلة الرشيدة، ربيبة المصطفى، ورضيعة سيدة النساء، ويبقى التأريخ في حيرة تساؤل مستغرب: كيف جاز للقوم ان يسبوا امرأة مكرمة كـ"زينب"؟!
ومن اين ابتدعوا هذا الحكم الجاهلي ليدخلوه في الاسلام ان تسبى الكرائم وحريم الرسالة وآل النبي؟! ثم يطاف بهن في البلدان على مشاهد الملأ، ويدخلن في قصور الطواغيت ليتشمتوا برسول الله ثأراً جاهلياً من بدر وفتح مكة حتى قال يزيدهم: نعب الغراب فقلت قل او لا تقل فلقد قضيت من الرسول ديوني وقال: قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل، لست من خندف ان لم انتقم من بني احمد ما كان فعل!
*******