السلام عليكم أيها الإخوة والأخوات ورحمة من الله وبركات..
أهلاً بكم في لقاء من هذا البرنامج...
البكاء الزينبي بجميع مضامينه ومصاديقه هو من مصاديق نصرة الحسين صلوات الله عليه ونصرة قيم قيامه المقدس ونصرة قيم الإسلام المحمدي النقي وبالتالي نصرة الله تبارك وتعالى.
هذه الحقيقة مستمعينا الأفاضل أكدتها كثير من الأحاديث الشريفة وهي التي يبين في هذا اللقاء أهم مصاديقها وبأبلغ البيان أخونا الأستاذ الأديب الحاج إبراهيم رفاعة ضمن تعليقاته على القصيدة الزينبية الغراء التي عشنا وإياكم في أجوائها في عدة من حلقات البرنامج، كتب الأستاذ رفاعة يقول:
عندما تمتزج المأساة بالسمو والرفعة، والحزن العميق بالعظمة الجليلة، والوصف الملحمي بالأبهة والفخامة.. تلوح على الشعر ملامح الفن الشعري الذي يبقى ويدوم، لا سيما إذا أضيف الى قصيدة الشعر عنصر السلاسة في اللفظ والوضوح في البيان، وهذا كله من سمات ما نحن في تياره من قصيدة هو قلب زينب.
الفجيعة الوجيعة الدامية التي حلت بسيد شهداء الله ورجاله الأنقياء في كربلاء.. مما لا يقدر قدره أحد، ولا يقدر على حمل أعباء طرف منه أحد.
كل تلك الرزايا والبلايا والكروب إنما تحملها قلب امرأة هي من رسول الله لحمته وعزيزته. إنها زينب ابنة أم أبيها فاطمة الزهراء. وهي ما تدور كل أبيات هذه القصيدة المديدة التي زادت أبياتها على المئتين حولها.. في محور أحمر مشرب بالأحزان والأشجان، مجدول بالصبر والتحمل والرضا وطهر النور.
هذه المرأة اتسع قلبها من قبل أيضاً لتجرع مصائب جدها النبي، وقد عاصرته صغيرة السن في أعلى درجات الوعي والتمييز، وتجرح فؤادها كذلك لمآسي أبيها أمير المؤمنين علي، وما وقع عليه من ظلامات هي أبهش الظلامات، ثم رزايا أخيها الحسن الزكي المظلوم، وها هي قد تناولت كأس بلاء طافحة في عاشوراء شقيق روحها أبي عبدالله الحسين: خامس الخمسة الذين اصطفاهم الله ليكونوا أصحاب الكساء المطهرين تطهيراً مطلقاً من كل ما يشين.
لقد وقعت الواقعة.. وتم كل شيء! وهي – بعد المقتلة العظمى لخاصة أولياء الله وأحبائه الشهداء – بين أراذل القتلة السفاحين.. ثكلى تقاد – هي والصفوة الذين أبقاهم السيف من يتامى آل محمد واليتيمات – أسيرة مكبلة، كأنها ليست ناموس النبي وشرف الوصي وشقيقة الحسنين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي النبي! يكفي أن تقول: إنها زينب.. لتنثال عليك أسمى معاني الطهر والعفة والحياء، وتهبط عليك أصفى أنوار الهدى وأسرار التوحيد.
إن البكاء على الفلذة المحمدية الطاهرة في تحملها عظيم الفجائع، والبكاء عليها في هذا المشهد الجديد من الأسر والسبي والإذلال.. مما يثير في نفوس أهل الحمية الأحرار: الغيرة والنهوض سراعاً للنصرة وفتح الصدور لتحدي الآسرين المنكوسين من شيعة آل أبي سفيان، وهو مما يوقظ كل نائم ويوقف كل قاعد لإستنقاذ عرض النبي الذي هو عرض الله، وناموس علي الذي هو ناموس الله.
أما وقد وقعت الواقعة من قبل، واقتيدت العلياء العزيزة المعظمة، في قافلة السبي الأليمة التي تستحث الخطى من الكوفة الى الشام.. فماذا يمكن للمرء أن يفعله نصرة لآل الله المسبيين؟
إن أدنى ما يفعله أحدنا هو هذا التعاطف القلبي، وهذه الحرارة الوجدانية الحزينة الغاضبة، ومن صور هذا التعاطف وهذا الحزن الحار الفوار: أن يجود القلب بالخفقان المتبصر، وأن تجود العيون منا – على ما أصاب هذه الأم القدسية – بجاري الدموع.
إن البكاء – بما يختزن من مودة وحرقة وغضب مقدس – هو نوع من النصرة بلا ريب وما أكثر مواطن ابتلاء هذه الأم الشفيقة الحنون! وما أشق ما تحمل قلبها المجرح الصبور من مصائب آل الله في كربلاء! إن كل موطن من مواطن ابتلائها مناحة عظمى وكرب مرنح شديد:
تبكون زينب إذ تقدم للردى
برباطة الجأش الشقيق الأفخما
لما أتى قدس الخيام مودعا
مسترجعاً، من أهله مستعلما:
من ذا يقدم لي الجواد بكشفه
عني البلا، فأجيب ربي مسلما؟
من ذا يقدم للمنية وارثاً
مني الأمانة آخذاً ومقدما؟
ما قدم فرس المنية لأخيها الذاهب الى القتل – بعد مصرع جميع رجاله – غير أخته العقيلة، لا أحد بقادر أن يقدم فرس المنية تقوده لأخيها الأعز – في تلك اللحظة – غير أخته الخفرة المصونة التي هي شرف النبي:
فاسترجعت بنت البتول، وقدمت
لشقيقها ذاك البراق مطهما
وتناولت كأس البلاء، وبعضه
قد هد من صلب الجبال الأشمما
باختيارها – روحي فداها – تناولت كأس البلاء، وهي كأس دهاق مترعة طافحة، ثمة موطن آخر من مواطن فجائع كربلاء الحسين، هو ذا أخوها الشهيد المدمى أمامها.. تريد أن تنقل إليه أمانة عهدت بها أمها البتول إليها قبل رحيلها من هذه الدنيا.
في أحرج اللحظات تؤدي ابنة فاطمة الأمانة، وقلبها يتسعر ناراً ويتحرق مأساة، ما هي هذه الأمانة الفاطمية العجيبة التي تؤدي في لحظة الإستشهاد هذه العجيبة؟!
تبكون زينب وهي تنقل قبلة
لشقيقها، والقلب ناراً أضرما
كانت أمانة أمها، لثمت بها
صدر الحسين ومنحراً قد ثلما
قبلة من أمه فاطمة الزهراء – نيابة عنها ثغر ابنتها زينب – لحبيب قلبها الحسين.. على صدره المبضع وعلى نحره الذي سينحر بعد قليل! يا لله، ويالفاطمة، ويالزينب، وياللحسين!!
ما السر في هذه القبلة الفاطمية المذخورة لولدها الحبيب في أقدس لحظات كل عاشوراء، وفي أرهب مواضع كل كربلاء؟! وما أكبره قلب زينب العليمة الصبورة يتحمل الوصل في لحظة الشهادة بين فم الأم الراحلة ومنحر ولدها الحسين الشهيد!
هو قلب زينب.. حل فيه إلهها
فغدا يفيض بجوده متكرما
لابد أن تكون كذلك، القلب الذي يقدر على تحمل إيصال أمانة قبلة الزهراء في تلكم الحالة الصاعقة.. لابد أن يكون قد حل فيه ربها بعظمته وجلال صبره.
ما انتهت – عند هذا الحد – مصائب العقيلة التي نبكيها بكاء طفل على أمه، ثمة مآس أخرى ملوعة بالإنتظار:
تبكون زينب إذ تغالب لوعة
جاشت بها لكفيلها إذ قطما
عباسها، وقد انحنى لمصابه
ظهر الحسين، فعاد يندب ضيغما
ومصيبة أخيها الشهم أبي الفضل العباس في نفسها كارثة الكوارث، وخطب والخطوب.
ثم.. ماذا بعد؟! أبقي شيء لم يجرح القلب الزينبي المدمى الصابر الكبير؟!
تبكون زينب وهي تسعى في لظى
بين الخيام وصدر وال هشما
تبكون زينب وهي تسلب عنوة
فالكون أمسى في عزاها مأتما
تبكون زينب وهي تجمع صبية
هاموا شتاتاً في البرية حوما
والآن.. هل بقي في كأس البلاء صبابة لم تتجرعها عقيلة الطالبيين؟! إن الكأس ما تزال في امتلاء مستمر، وفي طفح مستمر:
تبكون زينب إذ ترحل عن ربى
أرض الحسين، وقلبها متقسما
كتقطع الشهداء أشلاءً.. غدت
في كربلاء الله نوراً معلما
قلب العقيلة قد توزع مثلهم
لينير أفئدة النوادب مرهما
مأساة فوق مأساة، وجرح غائر على جرح غائر، مآسي الفقد والتقتيل، وجروح الفراق والترحيل، الخطوب تجمعت مرة واحدة، لو كانت خطوبها تأتي فرادى، فكل خطب منها يذهل أربط الرجال جأشاً وأشدهم بأساً.. فكيف وقد نزلت متتابعة متواصلة على قلب إمرأة.. ما سلاحها إلا الصبر، وما اتكاؤها إلا على الصبر؟!
منها – صلوات ربها عليها – الجرأة والتضحية والصبر الجميل ومنا المشاركة القلبية – بمقدارنا – والمواساة، بيد أن هذه المواساة منا لسيدة الأسرة بعد استشهاد أخيها المظلوم.. ما تزال تنثر على المواسين والنادبين زخات من النور السماوي المبصر، هو لقلوبهم – ولقلوب كل النادبين على طول التاريخ – مرهم الشفاء.
بقي من القصيدة – يا أخي – مسك الختام، وهو ما يتعطر به لقاؤنا القادم، بإذن الله.
جزى الله خيراً أستاذنا الحاج إبراهيم رفاعة على هذه الإشارات النيرة بشأن خصائص الحضور الزينبي في القيام الحسيني المقدس، نتابعها معاً فيما كتبه في الحلقة الأخيرة من برنامجكم يوم الحسين الذي يأتيكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.
شكراً لكم ودمتم في أمان الله..