السلام عليكم مستمعينا الأكارم ورحمة الله وبركاته وأهلاً بكم في لقاء اليوم من هذا البرنامج.
إخوة الإيمان..
من المنارات الإلهية التي شاء الله تبارك وتعالى أن يكون يوم الحسين – عليه السلام – مصباحها الخالد هو منار كشف صفات المنافقين والأئمة المضلين الذي كثرت تحذيرات النبي الأكرم – صلى الله عليه وآله – منهم ومن أخطارهم على دين المسلمين، فهؤلاء هم الساعون لتطويع إرادة المسلمين لحكم الطواغيت وكان منهم من أفتى بوجوب مبايعة أمثال يزيد ودعا الناس لها.
في لقاء اليوم نلتقي ببيان حقيقة هؤلاء المضلين الذين حذرنا منهم الهادي المختار – صلى الله عليه وآله – ونرى اليوم كثيراً من نماذجهم ومنهم مفتوا الوهابية الذين ما زالوا يصرحون بأن الحسين أخطأ برفضه مبايعة يزيد!
نقرأ لكم أيها الأكارم التصوير البديع لموقف سيد الشهداء – صلوات الله عليه – تجاه أحد هؤلاء مما كتبه سماحة السيد أسعد القاضي حفظه الله وهو يتنزع روايته البليغة مما ذكرته المصادر التأريخية المعتبرة.
قال سماحة السيد أسعد القاضي:
تسلم يزيد بن معاوية عرش الملوك العضوض وصار وهو ربيب الفسق والفجور خليفة للمسلمين وبيت الله الحرام.. يقصده الناس من كل فج عميق.. تزدحهم عنده الأبدان.. يكثر فيه الضجيج.. ينظر الناظر إليهم فيحدث نفسه: ما أكثر الحجيج!.. ثم يعود لرشده فيعترف: بل ما أقل الحجيج وأكثر الضجيج إن أكثر هؤلاء تميل قلوبهم نحو من اتخذ سبيل الغي سبيلاً؟! فهم ليسوا بحجيج.. لا وجود لهم.. بل الوجود فقط لضوضائهم.. لضجيجهم.. أما من اتخذ سبيل الرشد سبيلاً فقليل ما هم.. لا يخلو منهم زمان.. لو لا أن من الله علينا بهم لخسف بنا.. وكان في الأيام يوم لا كالأيام.. إنه يوم الحسين يوم ينتظره كان ينتظره العالمون.
لم يكن موسم الحج عام ٦۰ للهجرة مختلفاً عن الأعوام السابقة.. فهو مجمع للناس وملتقى.. على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم وثقافاتهم.. يجتمع الشريف والوضيع.. السيد والمسود.. الحر والعبد.. سوى أن موسم الحج هذا العام يحمل طابعاً مختلفاً.. يتسم بسمة خاصة.. حيث الحسين (ع) سبط رسول الله (ص) متوجه تلقاء مكة.. عسى ربه أن يهديه سواء السبيل.. معه عدد ليس بالقليل من أهل بيته.. نسائه وأطفاله.. حل الوقت المناسب ليقف (ع) ضد الطغاة.. ليرفع شعاراً ما رفع من قبل.. حيث لم تكن الظروف مؤاتية.. لا للحسين (ع) ولا لمن قبله.. قال الحسين: مثلي لا يبايع مثل يزيد.. قالها معلناً للكافة عدم أهلية يزيد للخلافة والولاية.. مبيناً أن الخلافة هي حيث يضعها الله.. كي لا يكون دولة بين جبابرتها.. ولا يتسلط قوي على ضعيف.. ولا يبخس حق في هذه المعمورة.
لم يترك الحسين (ع) فرصة إلا انتهزها.. صرح – وبكل وضوح – بموقفه من خلافة يزيد أمام ملأ المعتمرين والحجيج.. حاول بعض أصحاب المصالح الوقتية أن يثنوا الحسين (ع) عن عزمه.. من أجل يضع يده بيد يزيد صاغراً.. لكن حرص السبط الشهيد على الدين وعلى مستقبل الأمة لا يسمح بذلك.. الظرف مناسب.. الفرصة مؤاتية.. وقبل كل ذلك وصية الجليل سبحانه وعهده لسيد الشهداء (ع) بعدم السكوت في هذا الظرف بالخصوص.. في حين عهد له بالسكوت في فترة حكم معاوية.. هذا هو شأن الأنبياء والأوصياء مع ربهم.. يسيرون وفق التخطيط الإلهي.. فما كان من داع – والحال هذه – الى السكوت.. بل العوامل كلها داعية الى موقف صريح.. خطوات جادة.. إعلام مدروس.. إيصال الصوت الى أبعد نقطة في المعمورة لا يكون إلا عبر آلاف الحجاج والمعتمرين.
وفي مكة منطلق نبذ الأصنام جاء رجل آثر الخنوع وقدم نصيحته لسيد الشهداء (ع) في بيعته ليزيد.. كان ذلك حينما جمعه مجلس مع الحسين (ع) وعبدالله بن عباس.. أشار الخانع المتزهد على الحسين أن يبايع.. يدخل في ما دخل الناس فيه.. تجاهل أن الحسين (ع) ليس كعامة الناس.. تناسى أن الحسين (ع) هو الإمام الحق.. وهو أولى بقيادة الأمة من يزيد وأمثاله، بل من كل أحد.. ليس فقط لأنه المنصوب من قبل الله تعالى.. الحسين (ع) يحمل مؤهلات ترقى به نحو الكفاءة في قيادة الأمة.. قال المتزهد:
أبا عبد الله! رحمك الله، اتق الله الذي إليه معادك، فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إياكم... وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.
لقد آن الأوان للمصارحة.. للمكاشفة.. للتذكير بالحقائق المرة.. حقائق لا يطيقها سمع من سار في ركاب الغاصبين الذين عادوا القهقرى وانقلبوا على أعقابهم بعد رسول الله – صلى الله عليه وآله – هذا هو وقت الحجج الدامغة.. وإن كان الحسين (ع) يدري أن الحجة والموعظة لا تنفع.. إلا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
قال الحسين (ع) لذاك المتزهد الذي كان يروي ما شاء من أحاديث رسول الله: أباعبدالرحمن! أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه، وقد قال النبي (ص) فيه وفي أبيه ما قال؟
لم يطق المتزهد سؤال الحسين (ع) فهل تراه مجيباً والحال هذه؟ انتقل الحوار الى ابن عباس.. بدوره أجاب بالحق.. قال للحسين:
صدقت أبا عبدالله، قال النبي (ص) في حياته: ما لي وليزيد؟! لا بارك الله في يزيد، وإنه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين، والذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم.
بكى ابن عباس.. أعادته الذكريات الى الوراء.. كأن رسول الله (ص) حاضر الآن يخبر عما سيرتكب في حق سبطه الشهيد.. بكى الحسين (ع) معه.. التفت السبط الى ابن عباس.. أراد أن يسمع ذاك المتزهد ويؤكد بالحجة عليه.. فقال:
يا ابن عباس، تعلم أني ابن بنت رسول الله (ص)؟
ابن عباس: اللهم نعم، نعلم ونعرف أن ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله (ص) غيرك، وأن نصرك لفرض على هذه الأمة كفريضة الصلاة والزكاة، التي لا يقدر أن يقبل أحدهما دون الأخرى.
الحسين: يا بن عباس، فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله (ص) من داره وقراره ومولده وحرم رسوله ومجاورة قبره ومولده ومسجده وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقر في قرار، ولا يأوى في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله شيئاً، ولا اتخذ من دونه ولياً، ولم يتغير عما كان عليه رسول الله (ص).
لم يعد للمجاملة موضع.. ولا للمداهنة محل.. ذاك زمان ابتلينا به من قبل.. يوم كان ابن عباس يداهن هذا ويجاري ذاك من أجل أن يلقى بحجته البالغة عليهم.. كي يذكرهم بأنهم أبطلوا الحق وأقاموا الباطل.. اليوم تبدل الظرف.. أراح الله من جور ذلك الزمان.. فإذا كان حجة الله في أرضه يتكلم بصريح البيان، فكيف بابن عباس؟! أٌبل نحو الحسين (ع) مجيباً له على سؤاله..
قال ابن عباس: ما أقول فيهم إلا (إنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) (يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا*مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً) وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى.
وأردف يدلي بقناعته التي انطوى عليها قلبه.. هدفه إسماع ذاك المتزهد، قال ابن عباس: وأما أنت يابن رسول الله فإنك رأس الفخار برسول الله (ص).. أنا أشهد أن من رغب عن مجاورتك وطمع في محاربتك ومحاربة نبيك محمد (ص) فما له من خلاق.
فقال الحسين (ع): اللهم اشهد.
كان المتزهد يصغي وقلبه محتدم.. خشى أن يضيف ابن عباس الى قوله قولاً.. أن يستخرج كل ما في قلبه من كلام انطوت عليه نفسه سنين طوال.. عبّر ابن عباس عن استعداده لبذل مهجته في سبيل الحسين (ع).. في سبيل دين جده (ص).. جعلت فداك يابن بنت رسول الله، كأنك تريدني الى نفسك، وتريد مني أن أنصرك؟! والله الذي لا إله إلا هو أن لو ضربت بين يديك سيفي هذا حتى انخلع جميعاً من كفي، لما كنت ممن أوفى من حقك عشر العشر، وها أنا بين يديك، مرني بأمرك.
تصريحات ومواقف أحرجت المتزهد الذي كان يحدث عن رسول الله بما تشتهيه السلطة ورأى نفسه أنه لا يسعه السكوت وهو يرى ابن عباس يبدي استعداده للتضحية بين يدي السبط.. كما لا سيعه أن يبدي رأيه بما يجري.. صمت الجميع.. ينظرون أي كلمة ستكسر جدار الصمت.. فتوجه المتزهد بكلماته نحو ابن عباس يقرعه على تصريحاته..
قال: مهلاً، ذرنا من هذا يا ابن عباس.
وتوجه نحو سيد الشهداء (ع).. يمنيه السلامة.. يعرض عليه الرجوع الى المدينة.. يحاول إقناعه ببيعة يزيد.. قال بنفاقية باردة: يا أباعبدالله، مهلاً عما قد عزمت عليه، وارجع من هنا الى المدينة، وادخل في صلح القوم، ولا تغب عن وطنك وحرم جدك رسول الله (ص) ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجة وسبيلا، وإن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتى ترى برأيك، فإن يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلا قليلاً، فيكفيك الله أمره.
أجاب الحسين (ع) راداً على المتزهد الخانع بقوله: أف لهذا الكلام أبداً ما دامت السموات والأرض، أسألك بالله يا أبا عبدالرحمن أنا عندك على خطأ من أمري هذا؟ فإن كنت عندك على خطأ فردني، فإني أخضع وأسمع وأطيع.
يعلم سيد الشهداء (ع) أن الرجل لا يمكنه أن يتهمه بالخطأ.. وهو – عليه السلام – الذي شهد رسول الله (ص) بأنه سيد شباب أهل الجنة.
قال المتزهد: اللهم لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول (ص) على مثل يزيد بن معاوية باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأمة ما لا تحب، فارجع معنا الى المدينة، وإن لم تحب أن تبايع أبداً واقعد في منزلك.
قال الحسين (ع): هيهات يا أباعبدالرحمن! إن القوم لا يتركوني، وإن أصابوني وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتى أبايع وأنا كاره أو يقتلوني، أما تعلم يا عبدالله أن من هوان هذه الدنيا على الله تعالى أنه أتى برأس يحيى بن زكريا (عليه السلام) الى بغية من بغايا بني اسرائيل، والرأس ينطق بالحجة عليهم؟
لم يكن الحسين (ع) ليترك ذاك المتزهد دون أن يطوقه بالحجة الصريحة البالغة.. ليأتي يوم القيامة وليس له من جواب.. ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة.. دعاه الى نصرته صريحاً..
الحسين (ع): اتق الله أبا عبدالرحمن ولا تدعن نصرتي.
إن الذي ينمي الى النفاق والشقاق لا ترتجى له الهداية والميل نحو الحق.. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم.. على أبصارهم غشاوة من النظر بعين الصواب.. لا تنفع فيهم موعظة.. لا تهزهم عبرة.
وكان عاقبة ذاك المتزهد أن أبى الطاغية الحجاج سؤة سؤات طواغيت بني أمية أن يقبل بيعته له بمسح يده وقدم له رجله لكي يمسح عليها مبايعاً بذل وهوان!
وبهذا نصل مستمعينا الأكارم الى ختام حلقة أخرى من برنامجكم يوم الحسين قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.
شكراً لكم وفي أمان الله.