الْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي جَعَلَ اَلْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ، وسَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ، ودَلِيلاً عَلَى آلاَئِهِ وعَظَمَتِهِ، عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ اَلدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ، كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ، لاَ يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ، ولاَ يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ، آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ،
مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ، فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ اَلزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي اَلظُّلُمَاتِ، واِرْتَبَكَ فِي اَلْهَلَكَاتِ، ومَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ، فَالْجَنَّةُ غَايَةُ اَلسَّابِقِينَ، واَلنَّارُ غَايَةُ اَلْمُفَرِّطِينَ، اِعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ اَلتَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ، واَلْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ، ولاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، أَلاَ وبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ اَلْخَطَايَا، وبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ اَلْغَايَةُ اَلْقُصْوَى، عِبَادَ اللَّهِ، اللَّهَ، اللَّهَ فِي أَعَزِّ اَلْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ، وأَحَبَّهَا إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَقَدْ أَوْضَحَ سَبِيلَ الْحَقِّ، وأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ، فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ اَلْفَنَاءِ، لِأَيَّامِ اَلْبَقَاءِ، قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى اَلزَّادِ، وأُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وحُثِثْتُمْ عَلَى اَلْمَسِيرِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ، لاَ تَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ، أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا، مَنْ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ، ومَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ، مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ، وتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وحِسَابُهُ، عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَاوَعَدَ اللَّهُ مِنَ اَلْخَيْرِ مَتْرَكٌ، ولاَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ اَلشَّرِّ مَرْغَبٌ، عِبَادَ اللَّهِ، اِحْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ اَلْأَعْمَالُ، ويَكْثُرُ فِيهِ اَلزِّلْزَالُ، وتَشِيبُ فِيهِ اَلْأَطْفَالُ، اِعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، ولاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ، وإِنَّ غَداً مِنَ اَلْيَوْمِ قَرِيبٌ، يَذْهَبُ اَلْيَوْمُ بِمَا فِيهِ، ويَجِيءُ اَلْغَدُ لاَحِقاً بِهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ اِمْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ اَلْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ، ومَخَطَّ حُفْرَتِهِ، فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ، ومَنْزِلِ وَحْشَةٍ، ومَفْرَدِ غُرْبَةٍ، وكَأَنَّ اَلصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ، واَلسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ، وبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ اَلْقَضَاءِ، قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ اَلْأَبَاطِيلُ، واِضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ اَلْعِلَلُ، واِسْتَحَقَّتْ بِكُمُ اَلْحَقَائِقُ، وصَدَرَتْ بِكُمُ اَلْأُمُورُ مَصَادِرَهَا، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، واِعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ، واِنْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ.