فالأول سيواجه الأمور مواجهةً مدروسة فاعلة إيجابية تستفيد من كل مفرداتها وتوظّف كل معطياتها بما يثري وجوده ووجود الآخرين من حوله مواجهة تتفجر من خلالها طاقات الإنسان الكبيرة الخيّرة التي تشكل مشروعاً ضخماً يجسّد من خلاله خلافة الله تعالى على هذه الأرض في أبهى صورها، مستفيداً مما وهبه الله تعالى من قابليات، وحباه من إمكانات، بعد الدخول في محاسبة دقيقة وموازنة متأنية لمفردات الحدث وأدوات توظيفه.
أما الثاني فسيهجم عليه الحدث، وستقتحمه الأمور وتتقاذفه تقلباتها وسيغدو محكوماً لها بعد أنْ كان متحكماً فيها، وسيجُرى به وإنْ كان ساكناً، وربما وجد نفسه في نهاية الشوط خالي الوفاض، مضيِّعاً لما كان ينبغي أن يسعى إليه من الطموحات والأغراض.
وينطبق ما تقدّم على كيفية استقبالنا لشهر رمضان الكريم وتعاطينا معه فمن تهيّأ لشهر الله العظيم التهيؤ المناسب، واستقبله الاستقبال الملائم، كانت استفادته من الشهر أكبر، ومكاسبه منه أوفر، ومن دخل عليه الشهر الكريم وهو في غيابٍ عن انتهاز عظيم الفرصة، أو كسلٍ عن الاستفادة منها فلن يضيف إلى رصيده غير القليل أو الحسرة على تضييع فرصة الفرص والتزوّد من المائدة الإلهية التي دعا الله تعالى إليها عباده واستضافهم ليكرمهم أيما إكرام.
ومن الغريب المؤلم أنه وبرغم القناعة النظرية بكون شهر رمضان يمثل فرصة الفرص، وغنيمة الغنائم، وبكونه أفضل الشهور، وأعمّها بركة، وأوفرها خيراً، فهو- كما عن النبي صلى الله عليه وآله – “شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب” ، فلا يختلف من المسلمين اثنان – نظرياً – في كون هذا الشهر أفضل شهور السنة، ولا في كونه فرصة لا يمكن أن يعوّضها مَنْ ضيّعها.
ولكنهم يختلفون ويتخلّـفون- عملياً – في الاستفادة من بركات هذا الشهر العظيم، وهنا تكمن المفارقة المُـفجعة، فمع الإيمان النظري الراسخ بعظمة شهر الله، الذي يمثل استضافةً لنا من ملك الملوك، ومائدةً من عظيم موائده الشريفة بسطها لعباده الفقراء إليه، ليتزوّدوا من خيرها، ويُصنعوا على هديها كباراً في الفكر، أنقياء في الشعور، عمالقة في العمل، إلا أن الواقع العملي يخالف هذه القناعة النظرية.
فنجد الكثير منا يتهيّأ التهيؤ التام، ويُعدّ العـدّة الكاملة، حينما يعلم باقتراب حلول موسم من المواسم الدنيوية كـ (موسم التخفيض)، فلا يلوح في الأفق إلا وقد تهيـّـأ له التهيؤ التام، سواء من ناحية المادة والمال أم من ناحية التفرّغ والوقت، ويأتي شهر الله تعالى فلا يُستقبل الاستقبال اللائق به وكأنه ضيف ثقيل الظل نتمنى رحيله لثقله على أنفسنا، نصاحبه بالكسل والفتور عن التزوّد من زاد الآخرة، ونفارقه فرحين بتصرّم أيامه، وقد كان أولياء الله تعالى يتمنون أن يكون العمر كلّه رمضان، فإذا انقضى فارقوه بالدموع الغزيرة، والحسرة المريرة.
وفي الدعاء عن الامام زين العابدين ـ عليه السلام ـ ما يشير إلى هاتين الحالتين من كيفية التعاطي مع شهر رمضان والتعامل معه حيث يقول: “اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ”. ويقول عليه السلام : “السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ….”. السلام عليك من مطلوب قبل وقته، و محزونٍ عليه قبل فوته “السَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوء صُرِفَ بِكَ عَنَّا وَكَمْ مِنْ خَيْر اُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا….”.؟ “السَّلاَمُ عَلَيْكَ ما كَانَ أَحْرَصَنَا بالأمسِ عَلَيْكَ وَأَشَدَّ شَوْقَنَا غَدَاً إلَيْكَ. السَلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى فَضْلِكَ الَّذِي حُرِمْنَاهُ، وَعَلَى مَاض مِنْ بَرَكَاتِكَ سُلِبْنَاهُ”.
فنجد بأن الإمام ـ عليه السلام ـ يشير إلى أن أولياء الله تعالى يطلبون الشهر، ويتشوّقون إلى قدومه قبل مجيئه، ويحزنون على فراقه قبل فراقه وانقضائه، وهذه حالة راقية عزيزة المنال، أنتجتها المعرفةُ بفضل الشهر العظيم، ومكانته الكبيرة وعوائده التي لا تحصى والتي لا تتوفّر في غيره من شهور السنة، والشعور الدائم بالتقصير في استثمارها برغم كل الجهد المبذول من قِبَل أولياء الله تعالى في استثمارها، وأن نعمة الشهر وما تحفّها من نفحات ستفارقهم أو يفارقونها وهذا ما جعلهم يحزنون.
يتشوّقون إلى عودته وهم لا يزالون في أواخر أيامه فكيف بهم إذا انقضى عنهم وفارقوه؟!! وما أبعد ما بين حال مَن يصحب الشهر الكريم مصاحبة الحبيب لحبيبه الذي انتظره بلهفةِ الشوق، وفارقه بمرارةِ الفقد، وبين مَن صحب الشهر مصاحبةَ ضيفٍ ثقيلِ الظل نزل ثقيلاً غير مرغوبٍ فيه، وارتحل غير مأسوفٍ عليه، أو مسرور بمفارقته؟!! فما أبعد ما بين مشاعر الفريقين وسلوك الفريقين وعواقب الفريقين.
من هنا تنبع أهمية الحديث عن التهيئة لشهر رمضان الكريم، فالحديث عن التهيئة لشهر رمضان هو حديثٌ عن كيفية الاستفادة من الفرص العظيمة، حديث عن كيفية التخرّج من مدرسة الشهر العملاقة، حديث عن كيفية التعاطي مع المائدة التي بسطها الرب الكريم لعباده الفقراء، حديث عن استضافة المولى العظيم لعبيده وكيفية استغلال العبيد هذه الضيافة بما يعود عليهم بالخير في دنياهم وآخرتهم استغلالاً للرحمة الكبرى والنفحات العميمة، فالتهيِّئة لاستقبال شهر رمضان ضرورةٌ يفرضها الوعي، وحاجةٌ مُلحّة يُلزم بها الحضور، وتُمليها اليقظة.
كيف نتهيّأ لاستقبال شهر رمضان
أما عن كيفية التهيّؤ لاستقبال شهر رمضان فذلك يمرّ بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: مرحلة المعرفة والوعي
من الواضح أن مقدار، وكيفية الاستفادة من كل شيء – مطلقاً- مربوط بفهمنا لذلك الشيء وحجم معرفتنا له، وهذا من الأمور الواضحة جداً، ولا تحتاج إلى استدلال، فمن عرف قيمة العمر لم يضيّعه في الدونيات وسفاسف الأمور، ومن فهم حقيقة السُّمِ القاتل وخطره لم يتناوله، وهكذا في كل الأمور، معنوية كانت، أم مادية.
فمقدار ما نحمله من وعي للأشياء من حولنا، هو الذي يحدّد كيفية تعاملنا ولونه تجاه الأمور المختلفة، ولذلك كان على الإنسان المؤمن أن يجهد دائماً في سبيل زيادة معرفته لكي يستفيد أكثر من كل ما حوله ولئلا يزهد في الأمور العظيمة بسبب جهله بها.
ولأجل أهمية هذه النقطة كثرت حولها بياناتُ المعصومين ـ عليهم السلام ـ وتلوّنت فمن خطبة تبّين مدى عظمة هذا الشهر، وضرورة الاستعداد لاستقباله والتعاطي الجاد معه، ومن دعاء يستثير المشاعر ويستنهض الهمم لاغتنام فرصة شهر الله تعالى ومن روايات عديدة تناولت هذا الجانب المهم جداً لما له من تأثير كبير وانعكاس إيجابي في تحفيز العزائم وبعث الهمم نحو العمل الجاد الدؤوب في استغلال هذا الشهر العظيم. ولذلك ورد عن النبي الاعظم صلى الله عليه وآله قوله لو يعلم العبدُ ما في رمضان لودّ أن يكون رمضان السنة.
الآن رمضان شهر واحد، لو علم أحدنا ما في رمضان من الخير، من البركة، من المغفرة، من فرص النمو والرقي، من عطاءات ذي الجلال والإكرام، من نتائج كبيرة رابحة يراها العبد في نفسه في الدنيا، ويراها يوم الحساب لودّ أن يكون رمضان السنة كل السنة، وأن يكون الصوم ليس لشهر واحد إنما لتمام السنة.
إنما نزهد في الآخرة، ونقدّم الدنيا جهلاً، ولأننا نبصر بعين البدن، ولا نبصر بعين الروح، أما الذين يقدمون الآخرة على الدنيا فلأن لهم بصيرة ترى الدنيا على ما هي، وترى من الآخرة الشيء العظيم.
فالمسألة مسألة معرفة وتربية، مسألة بصيرة، فمن اكتسب البصيرة قدم الأهم على المهم، ومن فقد البصيرة تشاغل بما هو دونْ ونحن نتشاغل بما هو دون… بهذه الدنيا عن الآخرة لأن ليس لنا البصيرة الكافية، وليس لنا المعرفة التامة.
فهذا يلقى علينا واجباً، وهو أن ندرس الإسلام، أن نتأمل كثيرا، أن نبني ثقافة في ضوء القرآن والسنة، أن نربي فينا بصيرة ترى الخير خيرا والشر شراً، وترمي بلحاظها إلى البعيد من دون أن تقف دائماً عندما هو على بعد خطوات من موقف الشخص. وإذا كانت السنة كلها رمضان فهي مرهقة للبدن، متطلبة جهدا، تأخذ من الإنسان ما تأخذ من بدنه، وتفرض عليه صبرا شديدا مقاوما، فمن أين له أن يتوفر على كل هذا الصبر والكثير منا يعاني من صوم شهر رمضان وحده؟!
الحديث يقول: (لو يعلم العبد ما في رمضان…) الأمر يقوم على العلم وعندما تكبر الغايات وعندما يشتد الشوق إلى الغاية تكون الخطى ميسورة، ويكون الصعب سهلا، الذين يجاهدون بأنفسهم ويلاقون الموت سعيا على الرأس لا سعيا على القدم، ويطلبون الموت بإرادتهم في سبيل الله لا يعانون ما يعانيه الجبناء، ولا يعانون ما يعانيه الجاهل، وقد لا يكون الشخص شجاعا بطبيعته ولكن بما يعرف من مقام الجهاد، وبما يحصل له من تصديق بوعد الله يتحول إلى إنسان شجاع.
وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وآله لما حضر شهر رمضان – قوله: سبحان الله! ماذا تستقبلون؟! وماذا يستقبلكم؟! قالها ثلاث مرات.
سبحان الله أسلوب تعجبي للتأكيد، ماذا تستقبلون؟! أسلوب إنشائي للتقرير وهو يحمل تأكيداً، وماذا يستقبلكم؟! تعبير كسابقه. وتكرار القول ثلاث مرّات إضافة تأكيد للتأكيدات الأخرى، فهو كلام مؤكّد، مسّيج، محصّن يريد أن يضعنا أمام هذه الحقيقة، وهي أننا نستقبل أمرا عظيما، وضيفاً كريما، وموسماً ثرّاً، نستقبل مدرسة من مدارس الوحي، وموسما غنياً فيّاضاً من مواسم التربية الإلهية، وشهراً زخّاراً بالمغفرة والرحمة والبركات، وهدية من هدايا الله لعباده المؤمنين، يصنع بها أرواحهم، ويصلح قلوبهم، ويبني صفوفهم، ويضعهم على الطريق.
والشهر الذي هذا شأنه، وهو أكبر الشهور، وأعظم الشهور عند الله له استقباله الخاص، وإذا كان هو موسم روح، وميعاد مغفرة ورحمة، وفاتحة خير عميم، وموسم تربية إلهية لإنسانية الإنسان، فلا بد أن يكون استقباله استقبالا خاصا يتناسب وطبيعته. أنت لا تستقبل موسماً من مواسم الثقافة الجافة، ولا تستقبل موسما من مواسم الطعام والشراب، ولا تستقبل موسما من مواسم فرحات الدنيا، أنت تستقبل موسما تمتزج فيه العطايا بالمسؤولية، تستقبل رسالة عملية كبرى من الله، وتدخل تعاملا مع موسم تربوي رسمته يد الإله، فكيف نستقبل هذا الشهر؟
مما تقدّم نعرف قيمة التركيز على الجانب المعرفي؛ لأن مَن عرف قيمة الشيء كان أقرب للتعامل معه بحسب حجمه ومستواه، أما مَن جهل بقيمة شيءٍ ما فلن يعطيه قيمته ووزنه ولن يتعامل معه بما يناسب شأنه، وبالتالي فإن مدى الاستفادة من كل شيءٍ مربوطة بمدى معرفتنا به، وخلفيتنا عنه، فالمرحلة الأولى للاستقبال الصحيح الفاعل لشهر رمضان هي معرفة قدر شهر رمضان والغاية منه، ولذلك جاء في دعاء مولانا السجّاد عليه السلام في استقبال شهر رمضان قوله ـ عليه السلام ـ: اللهم صل على محمد وآل محمد وألهمنا معرفة فضله.
فمعرفة فضل الشهر أساس استغلاله الاستغلال الصحيح، وتوظيفه التوظيف البنّاء.
المرحلة الثانية: التخطيط والبرمجة لاستغلال الشهر بالصورة المطلوبة
المناسبات الدينية تُشكّل محطّات للعبرة، ومشاريع للبناء، والشعائر والمواسم تمثّل دوراتٍ مكثّفة في فهم الإسلام، ومحاولة تجسيده كواقع عملي متحرّك فاعل.
وما كان هذا شأنه، وهذه حقيقته لا يصحّ التعاطي معه عن طريق الاسترسال و الارتجال فذلك يفوّت الهدف المنشود من وراء المناسبة والموسم من خلال تفريغها من المضمون، أو تجفيفها من الفائدة. فحتى لو حمل الإنسان شيئاً من المعرفة بقيمة الموسم أو المناسبة كموسم شهر رمضان فلن يفيد منه الإفادة المطلوبة حين يدخله مسترسلاً مرتجلاً دون تخطيط أو يتعاطى معه دون برنامج.
فشهر بهذه العظمة جعلت الأنفاس فيه تسبيحاً، والنوم عبادة، والعبادة مضاعفة، ومُلأ بالخير ملئاً إلى درجة الفيضان، لا يصحّ استقباله هكذا، من دون تخطيط، وحتى لو خرج الإنسان منه بزيادة في رصيد الحسنات فلن يحافظ على تلك المكتسبات مادام قد دخل الشهر وخرج منه دون برنامج محكم وخطة مدروسة.
فينبغي على الحريص على الزاد الأخروي أن يجلس متأملاً في كيفية الاستفادة من هذه الفرصة العظيمة، بعد أن أدرك شيئاً من عظمة الشهر ومكانته، فيفكر في برنامج يوازن فيه بين الأولويات وبين ما ينبغي أن يقدّم وما ينبغي أن يؤجّل، يوازن بين الأهم والمهم فيقدّم الأهم على المهم بعد أن فرغ عن اجتناب ما لا يصح ممارسته في ظل هذا الشهر العظيم. فيبدأ بدراسة مستواه الفكري والثقافي وهل أنه ينسجم فيه مع ما تريده منه ثقافة الإسلام وفكر الإسلام أم لا؟
ما هي نقاط الضعف التي يعاني منها على هذا الصعيد والتي لا يصحّ تأجيلها؟ وهل فرغ عن الحد الأدنى من الإحاطة بما لا يجوز له الجهل به أم مازال متخلفاً عن هذا المستوى؟ هل أصبح محصّناً تجاه سموم الغزو الفكري والثقافي، وجراثيمه الخبيثة التي تنتشر في كل مكان، وتقتحم علينا حتى بيوتنا؟
ما هي الأمور التي يجب عليّ أن أفرغ منها على مستوى ما أحمله من مشاعر تجاه الله تعالى وتجاه غيره؟ وهل أحمل من حبِّ الله تعالى شيئاً بسيطاً يعصمني – على الأقل – من تضخيم الأصنام الدنيوية المختلفة، واللهث ورائها، و التعويل عليها؟ أم هو الجفاف في العلاقة، و البرود في التعامل، الذي ينبع من خللٍ في الإدراك وغبشٍ في الرؤية، وتعطيل للقلب الذي غُصِبَ واحتُلّ من قبل غير الله تعالى، وامتلأ بعشق المخلوق الفاني، وهام فيه منشغلاً عن الربّ العظيم، عن نبع الجمال والغنى وخالق كل جمال وكمال، وما الجمال الباهر الذي نركض نحوه إلا جلوة بسيطة جداً من جماله الجميل، وانعكاساً باهتاً جداً عنه، فما الذي جعلنا نقدّم المخلوق على الخالق والفاني على الباقي، والجمال الباهت المستعار على الجمال التام الحقيقي الباقي؟!! وما الذي تحقّق على أيدي العباد الضعاف حتى ارتقوا في أنفسنا إلى مستوى الأرباب من ناحية عملية فيُنظر إليهم ويُشدّ الظهر بهم، وهم الفقراء في ذواتهم المحتاجون في أنفسهم ؟!!
وما أروع كلام المعصوم وهو يصوّر هذه الحالة من الإغتشاش في النظرة، والحَوَل في الرؤية، وتوجيه الوجه لغير الوجهة ؟!! يقول مولانا زين العابدين ـ عليه السلام ـ في دعائه (في طلب الحوائج إلى الله تعالى): “فمن حاول سدَّ خلّته من عندك، ورام صرف الفقر عن نفسه بك فقد طلب حاجته في مظانّها وأتى طلبته من وجهها، و من توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك أو جعله سبب نجحها دونك فقد تعرّض للحرمان، واستحق من عندك فوت الإحسان، اللهم ولي إليك حاجة قد قصر عنها جهدي، وتقطّعت دونها حيلي، وسوّلت لي نفسي رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك ولا يستغني في طلباته عنك، وهي زلةٌ من زلل الخاطئين وعثرةٌ من عثرات المذنبين، ثم انتبهت بتذكيرك لي من غفلتي، ونهضت بتوفيقك من زلتي، ورجعت ونكصت بتسديدك عن عثرتي، وقلت: سبحان ربي كيف يسأل محتاج محتاجاً؟ وأنى يرغب معدم إلى معدم؟ فقصدتك، يا إلهي، بالرغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك.
نعم هذا هو حالنا التعِس نرى الأشياء على غير ما هي عليه، فنعطيها من الحبّ والتعلّق والرجاء أو الخوف والهيبة ما ليس من حقها، فننصبها أصناماً في الصدور، وأرباباً في العقول والقلوب، أما أولياء الله تعالى فـقد عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، وكانوا يدعون الله تعالى بأن يريهم الأشياء كما هي فلا يَتَعَمْلَق الصغير ولا يصغر ويغيب العظيم الكبير. ما مدى اهتمامنا بالعبادات التي فرضها الله تعالى؟
وما مدى اهتمامنا بأم العبادات والتي تمثّل عمود الدين وهي الصلاة؟ هل نصلّيها لوقتها ونحافظ على حدودها؟ وما مدى ما تتركه الصلاة فينا من تأثير؟ هل كانت مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ..﴾(العنكبوت/۴۵)، أفهل نهتنا صلاتنا عن المنكر بكل أشكاله وأنواعه وفي كل الظروف؟ هل عرجت بنا الصلاة إلى الله تعالى؟هل عرجنا بها إلى عالم النور والطُهْر؟ أم أنها لم تؤثّر فينا هذا التأثير لكونها صلاة بلا روح أُفرِغَتْ من معانيها وجُفّفتْ من محرّكيتها الإيجابية ودافعيتها نحو السمو؟
وفي دعاء مولانا زين العابدين عليه السلام عند استقبال شهر رمضان ما يؤكد على ضرورة التوقّف عند هذه النقطة لأهميتها البالغة حيث قال: “اللهم صل على محمد وآله وقِفْنا فيه على مواقيت الصلوات الخمس بحدودها التي حدّدت، وفروضها التي فرضت، ووظائفها التي وظّفت، وأوقاتها التي وقّت، وأنزلنا فيها منزلة المصيبين لمنازلها، الحافظين لأركانها، المؤدّين لها في أوقاتها، على ما سنّه عبدك ورسولك صلواتك عليه وآله في ركوعها وسجودها، وجميع فواضلها، على أتم الطهور وأسبغه، وأبين الخشوع وأبلغه.
ما هي نقاط الضعف السلوكية التي يجب الاستفادة من نفحات شهر الله تعالى في المسارعة بمداواتها؟وإذا كنت على شيء من خيرٍ في جانب من جوانب ذاتي فكيف أطوّره وكيف أحافظ عليه؟ ما هو مقدار اهتمامنا بمصالح وشؤون الإسلام والمسلمين وما مدى عملنا لذلك؟وما هو مقدار انغماسنا في شؤوننا الشخصية وانكبابنا على السعي الذاتي، المنفصل عن رقي الذات روحياً وإيمانياً، والذي لا يمكن أبداً أن ينفصل عن العمل الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي لرقي الأمة ورفعة الإسلام فالتكاليف في الإسلام مترابطة وتُشكّل نسيجاً منسجماً ينثلم البناء كله ويتشوّه بإزالة لبنة من لبناته المترابطة.
وهكذا يصرّ على الجلوس والتأمّل قبل البدء؛ لتكون البداية صحيحة فإن وضع الخطوة في مكانها الصحيح هو أساس الوصول للغايات صغرت أم كبرت. وعلينا أيضاً أن نُدْخِل في الحساب كيفيةَ المحافظة على المكتسبات التي تتحقق في ظل هذا الموسم الروحي الكبير، فموسم بهذا الوزن الكبير الكبير، يمكن – من خلال استغلاله الاستغلال الصحيح – أنْ يترك من الآثار الإيجابية الكثير، ويغيّر الكثير الكثير نظراً للوهج الروحي المصاحب له والنفحات الرحمانية التي تحفّ به، ولكن الشأن كل الشأن في المحافظة على تلك الآثار والتغيرات الإيجابية وأن لا تنقضي بانقضاء الشهر وتذبل أو تموت برحيله كما هي عادة الكثيرين في كل مرة، تتغيّر أخلاقهم مادام الشهر، ينشطون على العبادة وفعل الخير مادام الشهر، يقرؤون القرآن مادام الشهر، يتزاورون ويترابطون اجتماعياً مادام الشهر، يتغاضون عن هفوات الآخرين ويفتحون صفحاتِ علاقاتٍ إيجابية جديدة مادام الشهر، ويحافظون على الفرائض أو النوافل مادام الشهر فإذا انقضى الشهر عادت الأمور كما كانت، فلدراسة هذه النقطة وإدخالها في الحساب دور مهم وأثر بالغ في الحفاظ على ما يتحقّق من خير، ويُتخلّص منه من شرّ.
فقد يجيء ذو القابليات الضخمة والإمكانات العملاقة صفر اليدين أو بالمستوى الذي تجاوزه مَنْ لا يملكون عُشر قابلياته أو إمكاناته لأنه تخلّف عن هذه المحطة (محطة التخطيط والموازنة) وأهملها فخسر أو تأخر، وفاز أو تقدّم عليه مَن لا يملك مثل إمكاناته وقابلياته لأنهم لم يُهملوا هذه المحطة. فالدراسة والتخطيط غاية في الأهمية سواء في الجوانب المادية أم المعنوية في الجوانب الدنيوية أم الأخروية، ولأجل أن يكون استقبالنا لشهر رمضان استقبالاً فاعلاً لا يصحّ أن نتجاوز هذه المحطة أبداً.
المرحلة الثالثة: التركيز على العمل الصالح
ليس ثمة فائدة أو ثمرة في المعرفة والتخطيط إذا لم يُنتجا عملاً صالحاً وسعياً دؤوباً لتحويل المعرفة والخطط والبرامج إلى واقع عملي متحرّك، بل سوف تكون تلك المعرفة وبالاً على الإنسان حين يتخلّف عن مقتضاها من العمل، ومرْجوِّها من السلوك.
ومن هنا يجب على المسلم الذي يريد ان يستثمر هذا الشهر الفضيل احسن استثمار ان يركز على الاعمال الصالحة وهي كثيرة ولاتغيب عن ابسط الناس.