بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد واله الطاهرين ، السلام عليكم مستمعينا الكرام و رحمة الله وبركاته.. وأهلا بكم إلى برنامج نهج الحياة ووقفة أخرى عند الايات51 حتى 53 من سورة الزمر المباركة .دعونا بداية نصغي إلى تلاوة مرتلة للاية 51 من سورة الزمر..
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ۚ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴿٥١﴾
جرى الكلام في الحلقة الماضية عن كفر البعض من الناس لنعم الله تعالى بعد أن التجؤوا إليه في الشدائد والكربات وسألوه النجاة والخلاص ولكن ما إن قضيت حاجتهم ورفعت البلايا عنهم ينسون الله تعالى وينسبون خلاصهم إلى غير الله تعالى. هذه الاية تكشف عن حقيقة أن تلك البلايا التي أصيبوا بها كانت نتيجة أعمالهم وتصرفاتهم كما أنهم سيذوقون نتيجة أعمالهم غدا في الدنيا أو يوم القيامة لأن الدنيا لا تسع للجزاء والمكافأة .
و إلى بعض من تعاليم ودروس الاية :
- اقتضت السنة الالهية أن يكون قانون الفعل ورد الفعل قانونا يحكم أعمال الإنسان أيضا. فكل عمل يصدر من الانسان يتبعه تأثير يراه الانسان آجلا أم عاجلا.
- إن النعم مصدرها من الله تعالى وأما المشاكل والبلايا كلها بسبب ما اكتبسها الإنسان من أعمال وتصرفات.
نستمع الان إلى تلاوة الاية 52 من سورة الزمر المباركة:
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٢﴾
أجاب القرآن الكريم على ادعاءات الذين يزعمون أنّهم حصلوا على النعم الدنيوية بعلمهم وقدرتهم، عندما دعاهم إلى مراجعة تأريخ الأولين للإطلاع على أنواع الإبتلاءات والعذاب الذي ابتلوا به بسبب مزاعمهم الباطلة، وهذا هو ردّ تأريخي وواقعي. في هذه الاية يرد القرآن الكريم عليهم بردّ عقلي، إذ يقول: (أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) فالكثير من الأشخاص الكفوئين نراهم يعيشون حياة المستضعفين والبسطاء، في حين نرى أنّ الكثير من الأشخاص غير الكفوئين يعيشون أثرياء ومتنعمين من كلّ النواحي، فلو كان الظفر المادىّ كلّه يأتي عن طريق جهد وسعي الإنسان إضافة إلى كفاءته، لما كنّا نرى مثل هذه المشاهد. إذن فمن هنا يستدل على وجود يد قوية اُخرى خلف عالم الاسباب تدير الشؤون وفق منهج مدبرمحسوب.
تشير الاية إلى دروس مهمة منها :
- صحيح أنّه يجب على الإنسان أن يبذل الجهد والسعي في حياته، ولكن الغفلة عن مسبب الأسباب والنظر إلى الأسباب المادية فقط، واعتبار الكفاءة هي المؤثر الوحيد يعد خطأً كبيراً.
- أحد أسرار إحاطة الفقر والحرمان بمجموعة من العلماء المقتدرين، وإحاطة الغنى بمجموعة من الجهلة غير الأكفاء هو تنبيه الناس التائهين في عالم الأسباب المادية بأن لا يعتمدوا فقط على قواهم الذاتية.
و الان نستمع إلى تلاوة الاية 53 من سورة الزمر:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿٥٣﴾
بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة بشأن المشركين والظالمين، فإنّ هذه الاية فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل، لأنّ الهدف الرئيس من كلّ هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الإنتقام والعنف، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح الباريء أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم . إن التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنّها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "ما في القرآن آية أوسع منها. والدليل على ذلك واضح من وجوه:
- التعبير بـ (يا عبادي) هي بداية لطف الباريء عزّوجلّ.
- التعبير بـ (إسراف)بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر.
- التعبير بـ (على أنفسهم) يبيّن أنّ ذنوب الإنسان تعود كلّهاعليه، وهذا التعبير هو علامة اُخرى من علامات محبّة الله لعباده، وهو يشبه خطاب الأب الحريص لولده، عندما يقول: لا تظلم نفسك أكثر من هذا!
- التعبير بـ (لا تقنطوا)مع الأخذ بنظر الاعتبار أن "القنوط" يعني - في الأصل - اليأس من الخير، فإنّها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا من اللطف الإلهي.
- عبارة (من رحمة الله) التي وردت بعد عبارة (لا تقنطوا) تأكيد آخر على هذا الخير والمحبّة.
- عندما نصل إلى عبارة (إنّ الله يغفر الذنوب) التي بدأت بتأكيد، وكلمة "الذنوب" التي جمعت بالألف واللام تشمل كلّ الذنوب من دون أيّ استثناء، فإنّ الكلام يصل إلى أوجه، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الالهية.
- إنّ كلمة (جميعاً) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى أقصى درجات الأمل.
- وصف الباريء عزّوجلّ بالغفور والرحيم في آخر الآية، وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور باليأس أو فقدان الأمل.
بهذا تنتهي حلقة أخرى من نهج الحياة .. شكرا على المتابعة وإلى اللقاء .