بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي سيدنا محمد واله الطاهرين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومرحبا بكم إلى نهج الحياة حيث نواصل التدبر في الايات 18 حتى 21 من سورة سبأ .تعالوا معنا لننصت إلى تلاوة الايتين 18 و19 منها:
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴿١٨﴾
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿١٩﴾
تعود هذه الآيات إلى قصّة قوم سبأ مرّة اُخرى، وتعطي شرحاً وتفصيلا أكثر حولهم وحول العقاب الذي حلّ بهم ، ليكون درساً بليغاً وتربوياً لكلّ سامع.يشير القران الي أرضهم المعمورة بحيث النعمة لم تغطّها وحدها، بل (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرة).فقد جعلنا بينهم وبين الأرض المباركة مدنا وقرىً اُخرى متّصلة بفواصل قليلة وبهذا فإنّ الفواصل والمسافات بين القرى كانت متناسقة محسوبة، .. (سيروا فيها ليالي وأيّاماً آمنين).فقد كانت الطرق محفوظة من حملات السرّاق أو قطّاع الطرق بحيث أنّ الناس كانوا يسافرون خلال هذه الطرق بلا زاد أو دواب وبلا إستفادة من الحراس المسلّحين، ولم يكونوا يخافون من حوادث الطريق أو قلّة الماء والزاد لديهم.
ولكن هؤلاء جحدوا نعم الله العظيمة التي شملت كلّ مناحي حياتهم وآصيبوا بالغرور، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم ، فاسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر، وإنحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر الله خلف ظهورهم. ومن جملة مطالبهم العجيبة من الله، (فقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا).أي طلبوا أن يجعل الله المسافات بين قراهم طويلة، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنباً إلى جنب مع الأغنياء، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى فواصل صحراوية شاسعة، حتّى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركب، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة، ووجوب أن يظهر هذا الإمتياز ويثبت لدى الجميع. (فجعلناهم أحاديث).نعم فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة، والحضارة المشرقة، إلاّ أخبار على الألسن، وذكريات في الخواطر، وكلمات على صفحات التاريخ (ومزّقناهم كلّ ممزّق).اي دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كلّ مجموعة إلى جهة لمواصلة حياتهم، ونُثروا كما تنثر أوراق الخريف التي عصفت بها الريح حتّى أضحى تفرّقهم مثلا يضرب فقيل: "تفرّقوا أيادي سبأ".وفي ختام الآية يقول تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور)، لأنّ الصابرين والشاكرين وحدهم يستطيعون الإعتبار ممّا جرى.
ترشدنا الايتان إلى بعض الدروس منها:
- إن كفر النعم الالهية يسبب فقدانها أو تحويلها إلى نقمة وسبب لظهور مشاكل وأزمات .
- ثمة ذنوب يجازى عليها الانسان في الحياة الدنيا حيث تشمل المجازات حياة الانسان الفردية والاسرية والاجتماعية .
- إن القران يؤكد ضرورة دراسة الأقوام الماضية لأخذ العبر والدروس من حياتهم .
والان أيها الأكارم ننصت إلى تلاوة الايتين 20 و21 من سورة سبأ:
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٠﴾
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿٢١﴾
هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعاً من الإستنتاج العام من قصّة "قوم سبأ" التي مرّت في الآيات السابقة، ورأينا كيف أنّهم بإستسلامهم لهوى النفس ووسوسة الشيطان، أصبحوا معرضين لكلّ تلك الخيبة وسوء التوفيق فسقطوا في فخه ، إلاّ مجموعة صغيرة من المؤمنين إستطاعت تحطيم سلاسل الوساوس الشيطانية، وتفادت الوقوع في مصيدته.
وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان، فتقول الآية المباركة: (وما كان له عليهم من سلطان).إذن فنحن الذين نجيز للشيطان الدخول ونعطيه تأشيرة العبور من حدود دولة الفردية إلى داخل قلوبنا.
(إلاّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شكّ) وبديهي أنّ الله تعالى مطّلع تماماً على كلّ ما يقع في هذا العالم منذ الأزل حتّى الأبد، وعليه فإنّ جملة "لنعلم" هو التحقّق العيني لعلم الله، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب أحداً بناءً على علمه بالبواطن، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص، بل يجب توفّر ميدان للإمتحان، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يُظهر الإنسان ما بداخله - بكامل الإرادة والإختيار - إلى الواقع الفعلي، ويتحقّق علم الله سبحانه وتعالى عيناً، لأنّه لولا تحقّق الأعمال بالفعل لا يحصل الإستحقاق للثواب والعقاب.
و إلى تعاليم تتحفنا بها الايتان:
- إن كفران النعم الالهية يمثل منفذا لدخول الشيطان. قوم سبأ كذلك كفروا بنعم الله تعالى فبذلك هيؤوا للشيطان منفذا إلى قلوبهم .
- إن الله منح الانسان الحرية والعقل والوحي ليميز بينه وبين الخطأ و ليختار الطريق الصحيح.
- إن الانبياء والأولياء يدعون الناس إلى البر وبالمقابل فإن الشياطين يدعون الناس إلى الذنوب والمعاصي. ويقع الانسان حرا فيما بينهما ليختار أحد النجدين.
مع انتهاء الوقت المخصص لهذا البرنامج نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.