بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأفضل صلوات المصلين على محمد وآله الطاهرين .. مستمعينا الأحبة السلام عليكم ورحمة الله و أهلا بكم إلى حلقة جديدة من برنامج نهج الحياة حيث نواصل التأمل عند الايات 26 حتى 30 من سورة السجدة المباركة فاهلا ومرحبا بكم ..
ايها الكرام لنستمع الان إلى تلاوة الاية 26 من هذه السورة المباركة:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ ۖ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ﴿٢٦﴾
الآيات السابقة التي نتناولناها في الحلقة الماضية كانت ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفّار، لتأتي هذه الآية إكمالا لهذا التهديد فتقول : (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون) فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اُولئك الأقوام الذين هلكوا من قبلهم بدليل قوله تعالى (يمشون في مساكنهم) فقد كانت تقع المساكن المدمرة لقوم عاد و ثمود ومدن قوم لوط الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام، وكانت هذه المساكن مقرّاً ومركزاً للأقوام الأقوياء المنحرفين، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك، وأخيراً طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكانت تلك الخرائب و البيوت و القصور المدمرة تمثل مواعظ حية للناظر إليها بتأمل وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط، لكنّهم لم يعبؤوا بها و لم يلتفتوا إليها، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماماً، ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون).
تعظنا الأية المباركة بمواعظ منها:
- إن الآثار والأبنية المتبقية من الحضارات السابقة بدل أن تكون محلا لالتقاط الصور التذكارية فيجب أن تكون محلا لأخذ العبر والدروس مما جرى على الأقوام السابقة .
- إن الماضي مصباح ينير درب المستقبل شريطة أن ينظر الإنسان إلى الماضي بعين بصيرة وأن يسمع تاريخهم باذن واعية ليحمل منه الدروس والعبر .
- إن كانت الآذان واعية فهي ستسمع المواعظ والرسالات التي تبعثها آثار الأبنية المتبقية من الزمن القديم .
- لأهمية العبر والمواعظ التي تحملها هذه الأبنية فأنه من الضروري الحفاظ عليها وصيانتها .
والان احبتنا الاكارم دعونا نصغ جيدا إلى تلاوة مرتلة للاية 27 من سورة السجدة:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ﴿٢٧﴾
تشيرهذه الآية المباركة إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس حياة كلّ البلدان، ووسيلة لعيش كلّ الكائنات الحيّة، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين، فإنّه قادرعلى إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب، فتقول: (أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).
إن مفردة «الجُرُز» تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ، وهي في الأصل من مادّة (جَرَزْ) بمعنى «القطع»، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.والطريف هنا أنّ الاية تعبر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات، وبحكم كونه سائلا يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض، إلاّ أنّه عندما يصله أمرالله فإنه يفقد طبيعته، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.
أجل مستمعينا الكرام ، إنّ سحائب السماء مثلها كبحركبير من المياه العذبة التي تُرسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله عبر الرياح.
والواقع أنّه لولا المطر فإنّ كثيراً من الأراضي ستموت عطشا ، وإذا افترضنا أنّ هناك أنهاراً غزيرة فانّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي، إلاّ أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة فقد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار المكثفة على قمم الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة، وهذه قدرة الري التي وهبها الله تعالى للمطر إذ لا يستطيع القيام بها أي كائن آخر .
هذه الأية ترشدنا إلى أمور منها:
- إن عالم الطبيعة والبيئة التي يعيش فيها الإنسان و سائر الكائنات أفضل مدرسة لمعرفة الله تعالى هذا فيما كان طلاب هذه المدرسة يبحثون عن المعرفة الإلهية .
- إن الرياح جنود الله تعالى فأحيا يأمرها الله بأن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً، وفي يوم آخر يامرالله ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة .
- إن نظام هطول الأمطار ونمو الاعشاب كل ذلك من آيات الله فيجب ان يمر عليها الإنسان مرو الكرام .
والان أيها الأحبة إليكم تلاوة الأيات 28 إلى 30 من سورة السجدة:
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٢٨﴾
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿٢٩﴾
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ﴿٣٠﴾
بما أن الآيات السابقة كانت تهدّد المجرمين بالإنتقام، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر، فإنّ هذه الاية نقلت عن لسان الكفارسؤالا عن ساعة تحقق الوعيد الإلهي. السؤال الذي ينبع من غرورهم واستكبارهم وإنكارهم "ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين" .
فيجيبهم القرآن مباشرةً، ويأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) بالقول : (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) أي: إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا، فإنّ الوقت قد فاتكم، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.
وممّا جرى يتّضح أنّ المراد من «يوم الفتح» هو يوم نزول عذاب الإستئصال ، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين، ولا يدع لهم فرصة الإيمان . وبتعبير آخر فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي، و ليس من عذاب الآخرة، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة، بل هو العذاب الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة.
وأخيراً تأتي الآية الأخيرة من هذه السورة بتهديد بليغ عميق المعنى، فتقول: (فأعرض عنهم وانتظر إنّهم منتظرون). فبما أنه لم تؤثّر في هؤلاء لا البشارة ولا الإنذار، ولا يعترفون بمنطق العقل و الاستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه ، وليس لهم ضمير حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد كي يسمعوها، فأعرض عنهم يا رسول الله ، وانتظر رحمة الله سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.
و إلى بعض ما ترشدنا إليه هذه الأيات:
- أحيانا فإن السائل لا يهدف من سؤاله الوصول إلى الحقيقة بل إنه يقصد الاستهزاء أو التعنت .
- لا قيمة للإيمان ساعة الضيق والاضطرار كما لا ينفع الذين كفروا إيمانهم في يوم الفتح ولا هم ينظرون .
- عندما لا تجدي المواعظ و الاستدلال نفعا ينبغي الإعراض عن الخاطئين المنحرفين .
احبائنا مع انتهاء هذه الايات وصلنا إلى نهاية سورة السجدة المباركة فنسأل الله تعالى بأن يجعلنا ممّن يسلّم ويؤمن به عند رؤية أوّل علامات الحقّ وآياته. و أن يبعد عنّا روح الكبر والغرور والعناد وأن ينجّنا منها. ..
حتى حلقة جديدة من هذا البرنامج نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .