بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين .مستمعينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله و بركاته .. حياكم الله وأهلا بكم إلى وقفتنا عند الأيات 15 إلى 19 من السجدة المباركة لنستلهم منها الدروس والمعاني فتابعوا معنا لنبدء البرنامج بالاستماع إلى تلاوة الاية 15 من هذه السورة المباركة ..
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۩ ﴿١٥﴾
إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً، وهنا أيضاً بعد الحديث الذي مرّ في الحلقة السابقة حول المجرمين والكافرين، فإنّه يتطرّق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة، ويبيّن اُصولهم العقائدية، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكربعض الصفات ..
كما لا يخفى أن التعبير بـ (إنّما) الذي يستعمل عادةً لإفادة معنى الحصر، يبيّن أنّ كلّ من يتحدّث عن الإيمان ويدعي به، ولا يمتلك الخصائص والصفات التي وردت في هذه الآيات، فإنّه لا يكون في زمرة المؤمنين الواقعيين، بل هو شخص ضعيف الإيمان. إن المؤمن الحقيقي هو الذي يسجد بمجرّد سماعه آيات الله، فأوّل خصائص هؤلاء هو العشق الملتهب بكلام محبوبهم ومعشوقهم.إن العلامة الثّانية والثالثة تسبيح الله وحمده، فهم ينزّهون الله تعالى عن النقائص من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كماله وجماله.
والصفة الاُخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كلّ أنواع التكبّر، لأنّ الكبر والغرور أوّل درجات الكفر والجحود، والتواضع أمام الحقّ والحقيقة أُولى خطوات الإيمان!
إنّ الذين يسيرون في طريق الكبر والعُجب لا يسجدون لله، ولا يسبّحونه ولا يحمدونه، ولا يعترفون بحقوق عباده! إنّ لهؤلاء صنماً عظيماً، وهو أنفسهم!
ترشدنا الاية إلى تعاليم نذكر منها :
- أن السجود اما عظمة الله و حمده وتسبيحه كله من علامات المؤمن الحقيقي . فالمؤمن الذي لا يقيم الصلاة فهو بالأحرى لم يشم رائحة الإيمان أساسا .
- إن أفضل حالات الذكر يتجسد عندما يهوي المرء إلى السجود وهو يذكر الله حمدا وتسبيحا كما يقول المؤمن في ذكر السجود " سبحان ربي الاعلى وبحمده ".
- إن السجدة المؤثرة هي السجدة التي لا تتبعها حالات التكبر والغرور والتباهي .
والان أيها الأكارم دعونا ننصت إلى تلاوة الأيتين 16 و 17 من سورة السجدة:
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿١٦﴾
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٧﴾
تشير الآية 16 من هذه السورة المباركة إلى أوصاف المؤمنين الاُخرى، فتقول: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)بمعنى أنهم يقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته. أجل .. إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة، والخلاصة هي عندما تتوفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب ربهم الجليل و يخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.
ثمّ تضيف الاية : "يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً " وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: "الخوف" و "الرجاء"، فلا يأمنون غضب الله عزّوجلّ، ولا ييأسون من رحمته، فالتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.
الصفة الأخيرة التي تشير إليها الأية المباركة هي الإنفاق : "وممّا رزقناهم ينفقون" . ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون).
نستلهم من هاتين الايتين دروسا نذكر منها :
- إن المؤمن بالمعنى الحقيقي لا يرى نفسه في مأمن من العذاب الإلهي وفي الوقت نفسه لا يكون مأيوسا عن رحمة الله تعالى بل إنه يعيش بين الخوف والرجاء الخوف من غضب الله والرجاء لرحمة الله لذا يكون المؤمن بعيدا عن حالات الكبر والغرور.
- إن قيام الليل وترك النوم لإحياء الليل بتلاوة القران وصلاة الليل والمناجاة مع الله عزوجل كلها من علامات المؤمن الحقيقي .
- إن رغب المرء في حصول الثواب الإلهي الذي يحظى به المؤمن بغير حساب ، فالأجدر به أن يعبد الطريق الموصل إلى قيام الليل .
والان أيها المستمعون الأكارم تعالوا ننصت إلى تلاوة الأيتين 18 و19 من سورة السجدة المباركة:
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ ﴿١٨﴾
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٩﴾
تجري الآية 18 مقارنة بين المؤمن والفاسق بصيغة أكثر صراحة، فتقول: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً).وقد وردت الجملة بصيغة الإستفهام الإنكاري، ذلك الإستفهام الذي ينبعث جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبداً، وفي الوقت نفسه، وللتأكيد، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح بذكر جملة: (لا يستوون).لقد جعل "الفاسق" في مقابل "المؤمن" في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاُخرى، ثمّ أطلقت على الخروج على أوامر الله وعصيانه، ونعلم أنّ كلّ من كفر، أو إرتكب معصية فقد خرج على أوامر الله .
وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلا، فتقول: (أمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنّات المأوى ثمّ تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها الله تعالى لإستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة: (نزلا بما كانوا يعملون).
نتعلم من هاتين الايتين دروسا منها :
- إذا أردنا أن ندعو الناس إلى الإيمان بالله تعالى فلنعرفهم على أهل الإيمان وأهل الفسق معا ليميزوا بأنفسهم بين سلبية الكفر والفسوق وإيجابية الإيمان بالله تعالى .
- إن الإيمان لا ينفصل عن العمل وأن الجنة والنعيم الأخروي هو جزاء مقابل العمل الذي يقدمه الإنسان وليس بما يدعيه و يتظاهر به .
مع انتهاء الدقائق المخصصة لهذا البرنامج لا يسعنا سوى أن نستودعكم الرعاية الالهية ونسأله تعالى أن يملأ قلوبنا بنور القران الكريم ويسيرنا على نهجه القويم آمين يا رب العالمين.