بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الذين اصطفى .. أحباءنا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهلا بكم ومرحبا و انتم برفقة هذه المأدبة السماوية لاغتراف غرفة طيبة مباركة نروي بها غليلنا ونشفي بها غيظ قلوبنا . في هذه الحلقة من البرنامج أيها الأكارم نتوقف مع تعاليم الايات 29 حتى 34 من سورة لقمان المباركة فلنستمع إليها خاشعين منصتين ..
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿٢٩﴾
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿٣٠﴾
"الولوج" في الأصل بمعنى "الدخول"، ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة، حيث ينقص شيء من أحدهما تدريجيّاً، ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة، لتتكوّن الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة.
مستمعينا الأحبة المتبر في هذه الآية يجد تأكيدا وبيانا آخر لقدرة الله الواسعة، وقد وجّهت الخطاب إلى النّبي(ص) فقالت: (ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و سخّرالشمس والقمر) وبمعني كان ذلك لخدمة الناس وتأمين إحتياجاتهم ثم تقول الاية (كلّ يجري لأجل مسمّى وإنّ الله بما تعملون خبير).
إن المراد من تسخير الشمس والقمر وسائر الكواكب السماوية للبشر، هو تسخيرها في سبيل خدمة الإنسان، وبتعبير آخر فإنّ اللام في (سخّر لكم) لام النفع لا الإختصاص، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد في شأن الشمس والقمر، والليل والنهار، والأنهار والبحار والسفن، وكلّ هذه مبيّنة لعظمة شخصيّة الإنسان، وسعة نعم الله عليه حيث أنّ كلّ الموجودات الأرضية والسماوية مسخّرة ومطيعة له بأمر الله تعالى، ومع كلّ هذا التسخير فليس من الإنصاف أن يعصي الله سبحانه ولا يطيع أوامره
وقوله تعالي (كلّ يجري لأجل مسمّى) إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمرّ إلى الأبد، بل إنّ له نهاية بإنتهاء الدنيا، وهو ما ذكر في سورة التكوير: (إذا الشمس كوّرت وإذا النجوم إنكدرت
نستلهم من الاية دروسا منها :
- ان من طرق معرفة الله تعالى هو دراسة عالم الطبيعة و أسرارها و هذا ما يدلنا إليه القران الكريم .
- إن الكون وحركة الأجرام السماوية كل ذلك مبني على أساس جدول زمني فيه بداية و نهاية ولا يعلمهما إلا الله.
- إن الله حقيقة لا ريب فيه و هو علة خلق الكائنات جميعا و كل ما سوى الله هالك لا محالة . وعلى قول الشاعر:ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل.
آما الان أيها الأكارم نستمع معا إلى تلاوة الاية 31 و32 من سورة لقمان ...
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّـهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿٣١﴾
وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴿٣٢﴾
يدور الحديث في هاتين الآيتين أيضاً عن نعم الله سبحانه، وأدلّة التوحيد في الآفاق والأنفس، فالحديث في الآية الاُولى عن دليل النظام، وفي الآية الثّانية عن التوحيد الفطري، وهما ضمن البحوث التي وردت في الآيات السابقة.
لا شكّ أنّ حركة السفن على سطح المحيطات تتمّ بمجموعة من قوانين عالم الطبيعة فحركة الرياح المنتظمة من جهة ، والوزن الخاص للخشب أو المواد التي تصنع منها تلك السفينة من جانب آخر ومستوى كثافة الماء من جانب ثالث، ومقدار ضغط الماء على الأجسام التي تسبح فيه من جهة رابعة،وحينما يحدث إختلال في واحد من هذه الاُمور فإنّ السفينة إمّا أن تغرق وتنزل إلى قعر البحر، أو تنقلب، أو تبقى حائرة لا تهتدي إلى سبيل نجاتها في وسط البحر؛غير أنّ الله جلّ وعلا الذي أراد أن يجعل البحار الواسعة أفضل السبل وأهمّها لسفر البشر، ونقل المواد التي يحتاجونها من نقطة إلى اُخرى، قد هيّأ ويسّر هذه الشروط والظروف، وكلّ منها نعمة من نعمه تعالى.
إنّ عظمة قدرة الله سبحانه في ميدان المحيطات، وصغر الإنسان مقابلها، تبلغ حدّاً بحيث إنّ البشرية جميعا لو إجتمعوا ليحرّكوا سفينة وسط البحرعكس إتّجاه ريح عاصف قويّة لما استطاعوا.
وبعد بيان نعمة حركة السفن في البحار، والتي كانت ولا تزال أكبر وأنفع وسائل حمل ونقل البضائع والبشر، أشارت هذه الآية إلى صورة اُخرى لهذه المسألة، فقالت: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين).
"الظللّ" جمع ظُلّة، يقول الراغب في مفرداته: الظلّة سحابة تظلّ، وأكثر ما تقال لما يستوخم ويكره، بمعني أنّ أمواج البحر العظيمة تهيج فتحيط بهم كأنّ سحاباً قد أظلّهم بظلّ مرعب مهول.
الاية تصور مشهدا مهولا يجد الإنسان نفسه فيه ضعيفاً وعاجزاً رغم كلّ تلك القوى والإمكانيات الظاهرية التي أعدّها لنفسه، ويجد قدرته قاصرة عن كلّ شيء ومكان، وتقف كلّ الوسائل العادية والماديّة عن العمل، ولا يبقى له أي بصيص أمل إلاّ النور الذي يشعّ من أعماق روحه وفطرته، فيزيح عن قلبه حجب الغفلة، ويقول له: هل يوجد أحد يستطيع إنقاذي ؟نعم، منقذك هو الذي تطيعه أمواج البحر... إنّه خالق الماء والهواء والتراب. هنا يحيط التوحيد الخالص بكلّ قلبه ويغمره، ويعتقد بأنّ الدين والعبادة لا يستحقها إلا الله سبحانه فيكون مخلصا له عزوجل .
ثمّ تضيف الآية حقيقة أخري و هي أنّ الله سبحانه لمّا نجّاهم من الهلكة إنقسم الناس ألي قسمين (فلمّا نجّاهم إلى البرّ فمنهم مقتصد) وهؤلاء أوفوا بعهدهم ولم ينقضوه، ولم ينسوا أن الله تعالي هو الذي نجاهم من الهلكة.أمّا القسم الثّاني فإنّهم نسوا كلّ ذلك، واستولى جيش الشرك والكفر على معسكر قلوبهم.
تطالعنا الآيات تعاليم منها :
- أن لا نمر على الظواهر الطبيعية مرور الكرام بل نتأمل فيما خلقه الله تعالى من البحار والمحيطات وغيرها من الظواهر الطبيعية التي تزخربها البحار فكلها آيات الله و هي التي ستأخذنا إلى معرفة الله تعالى .
- إن الإنسان بطبعه وفطرته يميل إلى الله تعالى إلا أن الحجب المادية تحجبه عن معرفة الله . ومما يزيل تلك الحجب و يؤدي بالإنسان إلى التوجه الخالص لله تعالى هو ظهور الحوادث والبلايا و الضراء التي ينقطع فيها الإنسان إلى علة الوجود الحقيقية و هو الله تعالى .
- يتحقق الإيمان بالله تعالى لدى قسم من الناس بشكل ثابت و راسخ و هو لدى البعض الآخر إيمان غير راسخ فيظهر حينا ويختفي حينا آخر .
احباءنا الكرام ننتقل الأن إلى الاية 33 و34 من سورة لقمان نصغي إليها جيدا .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ ﴿٣٣﴾
إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿٣٤﴾
في هاتين الآيتين وهما آخر آيات سورة لقمان، نجد تلخيصا للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلّة التوحيد والمعاد، وتوجيه الناس إلى الله واليوم الآخر وتحذيرا من الغرور الناشيء من الدنيا والشيطان، ثمّ يأتي الحديث فيهما عن سعة علم الله سبحانه وشموله لكلّ شيء، فتقول: (ياأيّها الناس اتّقوا ربّكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً).
إنّ الدستور الأوّل هو التوجّه إلى المعاد، فالدستور الأوّل يحيي في الإنسان قوّة المراقبة، والثّاني ينمّي روح الثواب والعقاب، ولا شكّ أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ شخصاً خبيراً ومطّلعاً على كلّ أعماله يراه ويعلم به ويسجّل كلّ أعماله، ومن ناحية اُخرى يعلم أنّ محكمة عادلة ستتشكّل للتحقيق في كلّ جزئيات أعماله، لا يمكن أن يتلوّث بأدنى فساد ومعصية.فعند إقامة تلك المحكمة ينشغل كلّ إنسان بنفسه، ويبتلى بما قدمه من أعمال وآثارها إلى درجة أنّه لا ينظر إلى أحد ولا يهتمّ به، حتّى وإن كان أباه، أو إبنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقاً.و عليه فإن التعلق القلبي والبناء على العلاقات الأسرية أمر لا يرجى منه خير . فالإنسان في يوم القيامة يحاسبه حاكم علام الغيوب ، يعلم موعد القيامة و متى يحين أجل كل إنسان و يعلم ما تحمله الأرحام بما هو أرحام ،ولا يقتصر علم الله بجنسية الجنين بل إنه يعلم بجميع حالاته وقدراته ومصيره .فالله وحده هو العالم بكل شيئ ومن السذاجة أن يظن الإنسان أن الله غافل عما يعمله .
نستلهم من الايات النقاط التالية :
- لا يمكن التعويل يوم القيامة على الأنساب والأرحام . فالكل منشغل بنفسه . وقد نفى الله تعالى نفع الأولاد والأنساب يوم القيامة إلا من أتي الله بقلب سليم .
- إن القيامة أمر محتم الوقوع حتى و ان لم نعرف متى يحين كما آن موت الانسان هو أمر حتمي لا ريب فيه ولكننا نجهل متى يحين . و الله وحده هو العالم بهذه الأمور .
- إن الدنيا تخدع وتغر، و يقول أمير المؤمنين (ع) في صفة الدنيا: "تغرّ وتضرّ وتمرّ" .
أيها الأكارم مع انتهاء هذه الحلقة من برنامج نهج الحياة نسال الله تعالى بان يجعل القران منهاج حياتنا و يزيد في إيماننا كلما جلسنا بإزاء مائدته المباركة . حتى أن نلتقيكم من جديد نستودعكم الله و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .