بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد الخلق أجمعين أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى أهل بيته الهداة إلى الله، والسلام عليكم حضرات المستمعين الأكارم وأهلا بكم في حلقة أخرى وجديدة من نهج الحياة، حيث نواصل تفسير آيات أخرى من سورة مريم المباركة ونبدأ بالإستماع إلى تلاوة الآية الخامسة والسبعين، حيث يقول جل شأنه:
قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ۚ حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ﴿٧٥﴾
أعزائنا، كما هو معروف في تاريخ عصر الرسالة الزاهر فإن أكثر الذين لبوا دعوة السماء واتبعوا رسول الله (ص) كانوا من الفقراء والمعدمين، وفي المقابل فإن أكثر أثرياء مكة وأغنياءها بقوا على الكفر والشرك وكانوا ينظرون نظرة إدراء للمؤمنين ويقولون هل هؤلاء أعلى منا أم نحن الأعلون؟
وتأتي هذه الآية لتبين أن سنة الله في خلقه أن تتوفر لدى الجميع عوامل التقدم والتطور سواء كانوا من أهل الإحسان أم الإساءة؛ لكن ينبغي أن يمتطي الإنسان صهوة جواد الغرور ويتصور أن ما أغدق عليه من نعم الله لا زوال له أبداً.
نعم، إن من يظلم ويشرك بالله له في هذه الدنيا عذاب وله في الآخرة عذاب مهين؛ نعم، إن حسن العاقبة هو للذين آمنوا وإلى ربهم ينيبون، لكن الله تبارك وتعالى بعباده رؤوف رحيم، إنه يمهل الكافرين فمن تاب وأصلح فإن الله غفور رحيم، على أن القليل هم الذين عن غيهم يقلعون وإلى الله تعالى يتوجهون ومن بقي في غيه فله العذاب وله جهنم وبئس المصير.
والمستفاد من هذه الآية المباركة:
- إن الله تعالى يمنح الإنسان الفرصة الملائمة لكي يختار دينه بمحض إرادته.
- إن العقاب الإلهي، أعاذنا الله منه، غير مختص بالآخرة إذ قد يواجه الإنسان هذا العقاب وهو في الدنيا وما ربك بظلام للعبيد.
والآن نستمع إلى تلاوة الآية السادسة والسبعين من سورة مريم (س):
وَيَزِيدُ اللَّـهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ۗ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ﴿٧٦﴾
كما اتضح من النص القرآني السابق فإن للضالين المصرين على الضلال، العذاب وسوء العاقبة، ويوضح هذا النص أن الذين اهتدوا وعلى ربهم يتوكلون لهم حسن العاقبة، والله تعالى يحفظهم من شرور الضلال والإنحراف والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
نعم أيها الكرام، الإيمان سلم يأخذ الإنسان إلى حيث العلو والسؤدد، بينما الكفر منحدر يسير بالإنسان نحو الإنحطاط والتردي؛ إن من ثمرات الإيمان، أداء العمل الصالح، وكلما كانت النيات حسنة، كانت الأعمال الصالحة أكثر بروزاً وتألقاً، ومن الواضح أن العمل الصالح ثروة مابعدها ثروة وهو أفضل بكثير من جمع المال واكتنازه ورحمة ربك خير مما يجمعون؛ إن ثروات الدنيا مصيرها إلى زوال، بينما الأعمال الصالحة هي الباقية فضلاً عما لها من الأجر الجزيل.
والآن إلى ما نأخذه من هذا النص من دروس فهي:
- إن للهداية الربانية درجات وإن العمل الصالح هو الذي يأخذ بأيدينا على هذه الدرجات نحو رفيع الشأو ومنيع الشأن، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
- إن حسن العاقبة هو ثمرة العمل الصالح ولن تجلب الثروة للإنسان العزة والسمو.
ويقول تعالى في الآيات السابعة والسبعين حتى الثمانين من سورة مريم (س):
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ﴿٧٧﴾
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـٰنِ عَهْدًا ﴿٧٨﴾
كَلَّا ۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ﴿٧٩﴾
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴿٨٠﴾
تشير هذه الآيات البينات إلى مجمل التصورات الخاطئة عند الكفار وتبين أن هؤلاء يتصرفون بشكل وكأنهم للدنيا مالكون.
نعم، الكفار حسب رؤيتهم الخاطئة يريدون الإستحواذ على كل شيء من المال والقوة والسطوة والجاه وهو الطغيان بعينه، والعجب إن الكفار يتباهون بهذه الأمور الزائلة ويفخرون بها أمام المؤمنين وليست السلطة والجاه للفخر مدعاة، إن القرآن الكريم يعلن أن حديث الكفار عن مستقبل أفضل لهم نوع من إدعاء الغيب وكيف للكفار العلم بالغيب، وهل لهم مع الله عهد في ذلك؟
والحق أن للكفار العقاب الشديد الذي يأتيهم في الدنيا والآخرة والكفار يخسرون الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
نعم، إن ما يجمعه الكفار من ثروات يتركونه وعنها يرحلون، ولقد قال الشاعر؛
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاحقة القصور
يهدى أليك بما اشتهيت من الرواح إلى البكور
فإذا النفوس ترقرقت في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
حضرات المستمعين الأفاضل هكذا انتهت هذه الحلقة من نهج الحياة، إلى اللقاء والسلام خير ختام.