بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين، السلام عليكم حضرات المستمعين الأكارم، مرة أخرى نجتمع وإياكم إلى مائدة القرآن الكريم، حيث نواصل تفسير آيات أخرى من سورة مريم المباركة، ونبدأ أولاً بالإستماع إلى تلاوة الآيات الحادية والستين والثانية والستين والثالثة والستين من هذه السورة:
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴿٦١﴾
لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ۖ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴿٦٢﴾
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ﴿٦٣﴾
إن الله تبارك وتعالى جعل الجنة ثواب المؤمنين في الآخرة كما جعل النار مثوى الكافرين فيها؛ نعم إن الله وعد المؤمنين بالجنة وإنه تعالى شأنه لايخلف الميعاد، إن مما يقاسيه المؤمنون في الحياة الدنيا هو الكلام الذي يسمعونه من الكفار، لكن في الجنة كل ما يسمعه المؤمنون فيه الطيبة والسلام، ونعم الله تعالى في الجنان وفيرة.
إن مفتاح الدخول إلى الجنة في الآخرة هو التقوى والعمل الصالح في الدنيا وإن الجنة هي ثمرة ينالها الإنسان في الآخرة حينما يكون زرعه صالحاً في الدنيا، أليس الحديث الشريف يقول: الدنيا مزرعة الآخرة.
والمستفاد من هذه الآيات:
- إن حقيقة الجنة من الأمور الغيبية، لكن الجنة وعد الله، ووعد الله حق وهو يوم القيامة آت بإذنه جلت قدرته.
- إن أردنا الجنة التي عرضها السموات والأرض فعلينا أن نعبر الطريق إليها في الدنيا.
- إن الجنة هي ميراث المتقين، حتى وإن حرموا في الدنيا من الميراث المادي فما عند الله خير وأبقى.
ويقول تعالى في الآية الرابعة والستين من سورة مريم (س):
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ۖ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴿٦٤﴾
يذكر المفسرون أن الوحي كان انقطع عن رسول الله (ص) مدة، فأخذ المنافقون يتكلمون عن الإسلام بشماتة، ونزلت هذه الآية المباركة لتبين أن انقطاع الوحي كان عن حكمة وتدبير إلهي، ولله العلم الأول والآخر، تبارك شأنه.
والمستفاد من هذه الآية الشريفة:
- إن آيات القرآن الكريم نزلت بشكل تدريجي في أزمنة وأمكنة مختلفة وكل ذلك بأمر الله وتدبره عزوجل.
- إن الملائكة هم لله مطيعون وإنهم بأمره تعالى مؤتمرون.
- إن النسيان ليس له أي طريق إلى ذات الله المقدسة، فهو العالم بذاته والنسيان من الجهل، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والآن نستمع إلى تلاوة الآية الخامسة والستين من سورة مريم عليها السلام، حيث يقول تعالى:
رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴿٦٥﴾
تشير هذه الآية المباركة إلى مفهوم التوحيد والربوبية وإدارة شؤون الكون، حيث أن السموات والأرضين قد خلفها الله تعالى، وإن إرادته جلت قدرته نافذة في هذا الوجود برمته.
وتأمر الآية بعبادة الله تبارك وتعالى وترك عبادة غيره فهو الرب الجليل الذي بيده ملكوت السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، على أنه لا ريب ولا شك في وجود عوامل الإنحراف عن طريق الله تعالى من وساوس الشيطان وهوى النفس، وعلى الإنسان أن يكون في طريق الله ثابت القدم وأن ينأى بوجوده عن الشيطان والأهواء.
والمراد من العبادة في هذه الآية، مطلق العبودية لله تبارك وتعالى والتسليم أمامه في كل شؤون الحياة الفردية والإجتماعية؛ نعم الصلاة وأداؤها أمر مهم في حياة الإنسان، لكن ليست الصلاة هي العبادة المقصودة في هذا النص الشريف، فتدبر وتأمل أيها المستمع الكريم.
إن بعض الناس قد يقفون في الحياة على مفترق طريقين وهكذا لا يدرون إلى أين يتجهون، فيأتي الوحي المبين مبيناً معالم طريق الحق وهنا لابد للإنسان أن يسلكه ويكون فيه ثابت القدم؛ وعلى أي حال فإن ما يفيده لنا هذا النص الكريم هو:
- إن التوحيد في الربوبية هو الأساس في التوحيد في العبودية.
- إن العبادة والعبودية لله تباركت أسماؤه هي حرب على هوى النفس ونوازع الشيطان في خارجها، وهكذا تكون العبادة في حاجة إلى الصبر والإستقامة.
ولنجعل مسك ختام هذه الحلقة كلاماً لسيد الموحدين وأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول؛ [إلهي، ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل عبدتك لأني وجدتك أهلاً للعبودية]
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، صدق الله العلي العظيم.
حضرات المستمعين الأفاضل حتى نلتقيكم في نهج الحياة مرة أخرى، نترككم في رعاية الله وحفظه والسلام خير ختام.