بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الغر الميامين، والسلام على حضرات المستمعين الأكارم أينما كانوا، يسرنا أن نقدم لكم هذه الحلقة من برنامج نهج الحياة وفيها نفسر ما بقي من آيات سورة النحل المباركة، ونبدأ أولاً بالإستماع إلى تلاوة الآية الخامسة والعشرين بعد المئة من هذه السورة حيث يقول تعالى:
ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿١٢٥﴾
من الواضح أنه من غير الممكن دعوة كل الناس بأسلوب واحد ولابد أن تكون الدعوة في أساليبها متناسبة مع الفئات المختلفة من الناس ومتناسبة مع قابلياتهم واستعدادهم؛ وعلى سبيل المثال لابد أن يكون اسلوب الدعوة الموجه إلى العلماء قائماً على أساس البرهان والإستدلال، ولعامة الناس يكون أسلوب الموعظة الحسنة فاعلاً ومؤثراً فيهم.
وهكذا يأتي أسلوب المجادلة والمحاورة نافعاً مع الشريحة التي تحمل شبهات عادةً، وكيفما كان لابد أن يكون أسلوب الدعوة قائماً على أساس الإقناع لا أن يؤدي إلى النفور من الحق؛ إن الإستدلال والبرهان يقومان على أساس العقل، وهذا الأسلوب هو المتبع عند العقلاء في تعاملاتهم الفكرية والعلمية، ولذلك اكتفى بوصفه بأنه خطاب بالحكمة مطلقاً.
لكن الموعظة والجدال على نوعين، نوع يؤتي أكله وآخر لا فائدة ترتجى منه، ومن هنا يأتي النص واضحاً في الموعظة، بالموعظة الحسنة، ووصف الجدال بأنه جدال بالتي هي أحسن.
إن القرآن الكريم يدعو إلى الموعظة الحسنة لإقناع الطرف المقابل، لكن إذا لم يحدث الإقناع وحدث النفور ما فائدة الموعظة فيها إذن؟
إن التباحث والتحاور مع المعارضين ينبغي أن يكون على أساس الحق والعدالة والصدق، لا على أساس المكر والخداع والإهانة والصراخ، ويفيد النص الشريف أن الواجب على الداعي هو الدعوة، إما قبولها أو عدم قبولها فهو شيء آخر وليس للداعي أن يلزم الآخرين بقبول دعوته ذلك أن الناس أحرار في ذلك.
وحتى النبي الأكرم (ص) يخاطبه ربه تعالى بما يفيد هذا المعنى في قوله تعالى (لست عليهم بمسيطر).
ومما يستفاد من هذا النص:
- الدعوة إلى الدين لابد أن تتم بأساليب مختلفة تراعي ظروف الناس وأحوالهم وليس الأسلوب الواحد بكافٍ هنا.
- في الدعوة إلى الله تعالى لابد من إتباع أسلوبي العقل والعاطفة كي تكون النتيجة إيجابية.
والآن نستمع إلى الآية السادسة والعشرين بعد المئة من سورة النحل المباركة:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴿١٢٦﴾
إن الإسلام هو دين السلام لا تعدي في أحكامه، إنه يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، لكن إذا لم تفد هذه الوسائل وتعدى المدعو على الداعي، فللداعي أن يرد بالمثل وهذا هو الحق.
لكن هناك أسلوب آخر للتعامل مع مثل هؤلاء المعتدين وهو العفو والصفح، وجاء في التاريخ أن حمزة بن عبد المطلب عم النبي (ص) استشهد في واقعة أحد على يد وحشي، وكان غلاماً لجبير بن مطعم القرشي، وحشي هذا بعد أن قتل حمزة مثل بجسده بأمر من هند أم معاوية بنت أبي سفيان، ولما وصل الخبر ذلك النبي (ص) تأذى كثيراً وقرر (ص) أن يمثل بوحشي، لكن بعد نزول هذه الآية عدل النبي (ص) عن قراره وعفا وصفح عنه.
وما يفيده هذا النص:
- في التعامل مع المخالفين والأعداء لابد من مراعاة العدل والإنصاف وعدم التعدي.
- في الصبر لذة لا نراها في الإنتقام وفي مواجهة المنافقين لا يكفي القانون لوحده بل لابد من رعاية الأخلاق.
والآن نصغي إلى تلاوة آخر آيتين في سورة النحل المباركة أي الآية السابعة والعشرين والآية الثامنة والعشرين بعد المئة:
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّـهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴿١٢٧﴾
إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴿١٢٨﴾
من الواضح أن البعض وبسبب العناد ليسوا على استعداد لتحمل المسؤولية وقبول الحق، حتى وإن سمعوا كلام الحق من أنقى شخص وهو النبي المرسل، مثل نبينا محمد (ص). إن هذا النص جاء مواسياً لرسول الله (ص) حيث توضح أن النبي الأكرم (ص) قد بذل جهداً كبيراً لهداية الناس إلى الحق، لكن البعض وقفوا بوجه رسالته السمحاء وأنكروا الحق وتجاوزوا ذلك بالسخرية من الدين وتهديد المسلمين وتعريضهم لأشد صنوف العذاب، لا بل وفوق ذلك دق طبول الحرب وشهر السيف للقضاء على الدين الحق، ودعت الآية النبي (ص) إلى الصمود والثبات لأن الله تعالى معه ومع المسلمين وهو ناصرهم وهو نعم المولى ونعم النصير.
وما يستفاد من هذا النص:
- لابد من التزام الصبر في طريق الدعوة إلى الدين، فهذه الطريق فيها أشواك ووعورة.
- لابد من التوكل على الله تعالى والإيمان بإمداداته الغيبية، إذ بذلك يمكن الوقوف بوجه الأعداء بسعة صدر وتحقيق النصر، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
حضرات المستمعين الأفاضل هكذا أنهينا بتوفيق الله وسداده تفسير سورة النحل المباركة بكاملها، حيث جاء التفسير موجزاً ويسيراً لآيات هذه السورة البالغة 128 آية على مدى 30 حلقة من سلسلة حلقات برنامج نهج الحياة، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا هذا القليل بقبوله الحسن ويجعله لنا ذخراً ليوم المعاد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، آمين يا رب العالمين.
هذا وابتداءاً من الحلقة القادمة سنبدأ بتفسير سورة الإسراء المباركة إن شاء الله.
سالمين وإلى اللقاء.