بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على البشير النذير والهادي الأمين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته خير الأنام.
السلام عليكم حضرات المستمعين واهلاً بكم في لقاء قرآني جديد، حيث لازلنا نعيش في أجواء سورة النحل المباركة، وقد انتهينا لحد الآن تفسير سبع ومئة من آياتها، والآن نستمع الى تلاوة الآيتين الثامنة والتاسعة بعد المئة منها:
أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿١٠٨﴾
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿١٠٩﴾
أشارت الآية السابقة الى أن أهم أسباب الكفر عند الإنسان إقباله على الدنيا وملذاتها المحرمة.
ويأتي هذا النص الشريف ليبين لنا أن الذين أغوتهم الحياة الدنيا، ملئت قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بالشهوات وبالبهارج والزخارف الدنيوية، مثل هؤلاء لايرون الحقيقة وأنهم يغفلون عن الأمور غير المادية وغير الدنيوية، إنها في الحقيقة نظرة ضيقة ليست إلّا.
ومن الطبيعي أن الإنسان إذا ما غفل عن الحقيقة ليس له في الآخرة من نصيب سوى الخسران المبين.
نعم.. على الإنسان أن يعيش في الدنيا معداً لقدومه على الآخرة، فيأتي بالفرائض ولا يتجاوز حدود الله تعالى، وهذا امير المؤمنين علي عليه السلام يقول: إن الله تعالى افترض لكم فرائض، فلا تضيعوها وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها.
وما يستفاد من هذا النص القرآني الذي تلي على مسامعكم هو:
- إن تجاهل الآخرة والإنكباب على الدنيا يحرم الإنسان من الهداية الربانية.
- إن الخاسر الحقيقي ليس من خسر الدنيا، بل الخاسر هو من يأتي يوم القيامة، وقد خسر الآخرة وليس له زاد.
ويقول تعالى في الآية العاشرة بعد المئة من سورة النحل المباركة:
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١١٠﴾
الآية المباركة تشير الى هجرة المسلمين الأوائل الذين تعرضوا الى عذاب كفار مكة، فبعضهم هاجر الى المدينة المنورة، وبعض من المسلمين في بدايات الدعوة الإسلامية كانوا قد هاجروا الى بلاد الحبشة – إثيوبيا حالياً- ولقوا احتراماً من قبل ملكها النجاشي آنذاك وكان على دين النصارى.
وإذا كانت النصوص السابقة قد تحدثت عن مفهوم التقية الذي اضطر بعض من المسلمين الأوائل العمل به تخلصاً من عذاب الكفار فإن هذه الآية تفيدنا أن الله تعالى يثيب الذين هاجروا من أجل دينه وفي سبيله؛ والذين هاجروا فينا لنهدينهم سبلنا.
نعم.. الهجرة كانت في تلك الظروف العصيبة أمر لازم لحفظ الإيمان وحفظ الدين، ومن الطبيعي أن للهجرة مشاكلها ولابد للإنسان المهاجر من تحمل تلك المشاكل والتحلي بروح الصبر وأن الله مع الصابرين.
والذي يمكن أن نتعلمه من هذه الآية:
- لابد من الهجرة في سبيل الحفاظ على الدين، وليس لأحد أن يقول أن الظروف حالت دون أدائي التكليف الشرعي، فالظرف الطارئ لايبرر التخلي عن أداء حكم الله تعالى.
- أن من شروط نيل الرحمة الإلهية، الصبر والإستقامة والجهاد والمقاومة.
ويقول تعالى في الآية الحادية عشرة من بعد المئة من سورة النحل المباركة:
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿١١١﴾
إن الإنسان وهو يعيش الحياة الدنيا يكون في بعض الحالات غافلاً عن حقيقة وجوده ويأتي هذا الأمر، أي الغفلة، حينما ينغمس الإنسان في الملذات المحرمة، لكن في يوم القيامة يقدم مثل هذا الإنسان على ربه بيد خالية ولا يجد ما يساعده على الدفاع عن نفسه في محكمة العدل الإلهي، وعمل الإنسان هو الأساس للثواب والعقاب يوم الجزاء، لا بل إن عمل الإنسان يرافقه في حياته البرزخية كذلك.
أليس أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يقول:
يا من بدنياه اشتغل قد غره طول الأمل
الموت يأتي بغتــة والقبر صندوق العمل
وليس من جدوى لإنكار العمل السيء في يوم الحساب، ذلك أن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأن الكرام الكاتبين من الملائكة الذين أوكلهم بتسجيل أعمال العباد لا يفوتهم شيء بإذن الله تعالى.
نعم.. كل إنسان مسؤول عن عمله وليس لأحد أن يتحمل تبعة عمل غيره ولا فائدة من أن يلقي المذنب تبعة ذنوبه على الشيطان، ذلك أن الشيطان يقول: لقد وسوست لك لكن لم أجبرك على أداء المعصية.
وما يستفاد من هذا النص:
- يوم القيامة يوم عصيب على الكافرين والمذنبين، يوم يفر فيه المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرء منهم يومئذ شأن يغنيه.وكما يقول القرآن كذلك حكاية عن الناس يوم القيامة؛ وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.
- إن أعمال الناس صغيرة أو كبيرة، حسنات أو سيئات، تسجل ولا سبيل الى محوها بغير التوبة بالنسبة للمعاصي.
نسأل الله تعالى أن يضاعف حسناتنا ويغفر لنا سيئاتنا ويرفع لنا درجاتنا إنه الكريم المتعال والسلام خير ختام.