مهدي قزعلي
اتّصل بي أحد الإخوة العاملين في موقع khamenei.ir وسألني: هل أنت في طهران؟ في كلّ مرّة يسألني هذا السؤال أدرك أنّه يجب أن أكون في طهران! تريّثت قليلاً، وعرفت من خلال التجربة ما القضيّة. سألت: هل هي زيارة تفقّديّة؟ لم يجب. إنّما اكتفى بالقول: إذاً سأسجّل اسمك. قلت: لربّما لن يمكنني الحضور. قال: لقد سُجّل اسمك من قبل، وانقطع الاتّصال.
* الخبر قصير "إنّه زلزال"
كان الخبر قصيراً، حدوث "زلزال"، لم يستغرق بضع ثوان، ولكن تبعاته كبيرة جدّاً، وسيترك زلزال (21 آبان/ 13 تشرين الثاني) أثره دائماً في ذكريات وقصص مدينة "سربل ذهاب"، كما يحصل مع الزلازل في مدن أخرى...
* القائد يتابع وينزل بنفسه
للسيّد القائد باع طويل في مساعدة المناطق التي اجتاحتها السيول وضربتها الزلازل. فمنذ ما يقارب الخمسين عاماً، وفي زلزال مدينة "فردوس" و"دشت بياض"، شكّل فريقاً مؤلّفاً من 70 شخصاً، وطلب نصب خيمةٍ للإغاثة الأساسيّة في الساحة الرئيسة لمدينة "فردوس"، وإرسال المساعدات إلى القرى المحيطة، وبعد ذلك بفترة، تأمين الصوف والخيطان وآلات حياكة السجّاد اليدويّة لتأمين العمل الدائم نسبيّاً للناس.
إنّه يخوض تجربة حرفيّة منذ عمر الثلاثين عاماً. وللقائد إلمام جيّد في ما يتعلّق بالكوارث الطبيعيّة والقهريّة. فيما بعد، التفتّ إلى هذا الإلمام من خلال حديثه إلى مسؤولي الإغاثة وإعادة إعمار "كرمانشاه".
ربّما لهذا السبب، نزل بنفسه شخصيّاً بعد قرابة الأسبوع من وقوع الزلزلة، لتفقّد المنطقة والاطّلاع على الأمور عن كثب. الشخص الذي كان في فترة الحكومة البهلويّة يساعد الناس المتضرّرين من السيول والزلازل بقدر استطاعته، لا يمكنه الآن قطعاً، ومقدّرات البلد في يده، أن يمرّ مرور الكرام على هذه الحوادث ودون أن يكترث لها.
* الناس في ذهول وحزن
تجمّعنا في "كرمانشاه" ننتظر خبر وصول القائد (حفظه الله). الدمار الرئيس كان في "سربل ذهاب" والقرى المحيطة بها، وقد بلغت الخسائر والأضرار هناك ما يقارب 80% (أو أكثر).
يا له من منظر عجيب! المدينة مدمّرة، وقد هُدمت طبقات بعض المباني تماماً، فيما بقيت بعض المباني الأخرى إلى جانبها سالمة تماماً! هنا الغنيّ والفقير سواء. فالبيوت كانت إمّا مهدّمة تماماً أو غير آمنة للسكن؛ لذا، نصب الناس الخيم في أقرب مكان لبيوتهم.
قرابة الساعة الثامنة صباحاً راحت سيّارة تجول في المدينة وتذيع أنّ قائد الثورة سيلقي بعد دقائق عدّة خطاباً إلى جانب مديريّة الكهرباء.
لم يبدُ أنّ الناس تُظهر ردّ فعل على البيان الذي كانت السيّارة المتجوّلة تبثّه عبر المذياع. كان معظمهم مشغولين بخيمهم، التي من الواضح أنّهم لم يعتادوا عليها بعد. وأنّى لهم أن يعتادوا على مكان صغير وبارد وغير ثابت.
كان ذلك أوّل برنامج وسفر محزن لي مع القائد. فالبرامج السابقة كلّها كانت برامج لقاءات فرح وحماس. ولكنّ الناس هنا موجوعة ومتألّمة، حتّى ولو لم تكن مفجوعة بأحد أقربائها(1).
* القائد يلتقيهم وسط الدمار
كان الناس يتوجّهون بهدوء إلى المكان الذي أُبلغوا به. معظمهم كان ينتعل الحذاء البلاستيكيّ "المشايّة"، ويحمل في يده هاتفاً خلويّاً.
لم تكد الساعة تبلغ العاشرة حتّى وصلت سيّارة القائد. تداخلت الأمور ببعضها بعضاً. تقدّم شابّ وضرب بيده بقوّة على زجاج نافذة السيّارة، حيث يجلس القائد، وقال بضع كلمات بصوتٍ عالٍ لم نفهمها. انتاب القلق رجل الحماية الذي كان برفقتنا على ظهر الشاحنة. وبعد أن قال الشابّ ما عنده مدّ عنقه إلى النافذة وطبع قبلة عليها، فاطمأنّ بال رجل الحماية.
دخلت الشاحنة إلى محلّة "فولادي" التي شهدت أكثر الأضرار والخسائر. كانت الحجارة والأتربة قد سقطت على الأرصفة. اقترب بعض الناس من سيّارة السيّد القائد وصعد بعضهم فاتحاً كاميرا جوّاله على تلّ الركام.
* "يا باقة ورد محمّديّة" وحّد الشعارات
وجدها الناس فرصة للاجتماع، فاختلطت الشعارات ببعضها بعضاً؛ أحدهم كان يقول: "روحي فداء للقائد"، وآخر يقول "أنا خادمك"، جماعة أخرى راحت تردّد من هول الصدمة: "صلّ على محمّد وآل محمّد، نائب المهديّ أتى!".
استغرق الأمر بعض الوقت لتتّحد أصواتهم وشعاراتهم: "يا باقة ورد محمّديّة أهلاً وسهلاً بك في مدينتنا"... وأيّ مدينة؟... فُتح باب السيّارة، فكّ القائد حزام الأمان وترجّل من السيّارة، فتهافت الناس إلى الأمام، مادّين أيديهم ليسلّموا عليه، وكان القائد يسير وابتسامته تعلو وجهه، وهو يرتدي عباءة عسليّة اللون وجبّة "بيج" وحذاءً أسودَ يكاد يصبح بلون التراب وموحلاً.
* أشار إليه القائد ليتقدّم
اشتدّ الزحام من حوله. كانت تلك المرّة الأولى التي أرى فيها إدارة الميدان تخرج عن السيطرة. تدافُع الجموع أثّر على حركة القائد ولم يُسمح له بالتقدّم إلى الأمام. حاول شابّ إيصال نفسه بالقوّة إلى القائد، فأزاحه شباب الحماية جانباً. توقّف القائد في تلك الزحمة وأشار إليه أن تقدّم؛ ما اضطرّ شباب الحماية إلى جلبه. تقدّم الشابّ وتحدّث لبضع ثوانٍ مع القائد وذهب إلى حال سبيله.
كان الكثيرون يلقون السلام على القائد بصوتٍ عالٍ. صاح شابّ بصوت عالٍ: "عشت"، وردّت امرأة بصوت متمايز عن البقيّة قائلة: "روحي فداء للقائد". كم كنت أحبّ أن ألتقي هذه المرأة لأسألها: "ماذا فعل الزلزال بحياتها؟ وكيف هي أوضاعها؟"، لتقول بعد أسبوع من تلك الحادثة: "روحي فداء للقائد". كان القائد يمسك العصا وعباءته بيد، ويلوّح بالأخرى للناس.
* قلوبنا مغمومة لحزنكم
دخلتُ باحة حيث نُصبت عليها منصّة للإمام دام ظله. صعد القائد الخامنئي على السلالم، فارتفعت أصوات الجميع. كان الناس يتدافعون تحت المنصّة، وكتب بعضهم شعارات على قطع من صناديق الكرتون التي حوت المساعدات ورفعوها بأيديهم. من بعيد كان الناس يأتون، بعض منهم على مهل وبعض آخر عَدْواً.
ألقى القائد التحيّة عليهم، ثمّ بدأ كلامه، فقال: "كنّا نرغب في أن نأتيَ إلى مدينتكم في أجواء الفرح، وأنتم في هناءة عيش، لا في أجواء غمّ وحزن ومصيبة وبلاء. إنّه لأمر مرير بالنسبة إلينا. إنّنا نشعر بما يعتمل في قلب كلّ واحد منكم وبحزنكم، سواء في هذه المدينة أو في المدن الأخرى والقرى المتضرّرة في جميع أنحاء المحافظة، وهذا بالنسبة إلينا يملأ قلوبنا غمّاً ويشغل بالنا".
* قال للمصوّر: "تنحَّ جانبا، لأرى الجموع"
وتحدّث القائد عن صمود أهل هذه الديار وشجاعتهم في زمن الحرب، وأوصاهم بالاستقامة في هذه الحادثة، ونوّه بالتكاتف والتعاطف بين المسؤولين والشعب في مواجهة زلزال "كرمانشاه".
أثناء حديثه قال لأحد المصوّرين، وكان قد وقف في وجهه للتصوير: "تنحَّ جانباً، لأرى هذه الجموع". سُرّ بعض من سمع هذا الكلام، وأطلق صلوات على محمّد وآل محمّد. وحين أصبح قسم من الناس على مرأى من القائد راحوا يلوّحون له بأيديهم. برأيي، لم يكن كلام القائد موجّهاً لهذا المصوّر فقط؛ إنّما لكلّ شخص في الجمهوريّة الإسلاميّة يحول بين القائد والشعب!
إلى الأمام قليلاً، تقدّمت طفلة صغيرة تضع على رأسها غطاءً أخضر اللون، وتكلّمت ببضع كلمات وأجهشت بالبكاء. وضع القائد يده على رأس الطفلة التي أخفت وجهها في عباءته. كان والدا الطفلة قد جُرحا في الزلزال فيما قضى أقرباؤها. كانت مفجوعة، وحين رأيتها تذكّرت الأطفال الذين أصبحوا أيتاماً منذ أيّام عدّة، وكأنّهم اليوم يلوذون بحضن القائد: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾(الضحى: 6)! بقي القائد واقفاً إلى أن رفعت الطفلة رأسها عن عباءته. نبّهني أحد المصوّرين إلى أنّنا سنتحرّك، فجريت نحو الشاحنة وانطلقنا.
الهوامش:
(*) قصّة مرافقة قائد الثورة المعظّم في تفقّد منطقة "سربل ذهاب" والمناطق المحيطة بها التي ضربها الزلزال. 21 آبان/ 13 تشرين الثاني 2017م.
1.قال أحد الشباب إنّ قرية محاذية لـ"سربل ذهاب" تضمّ 170 وحدة سكنيّة قد سوّيت بالأرض تماماً ومات كلّ سكّانها.
المصدر: مجلة بقية الله